فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}
والوعد: بشارة بخير يأتي زمانه بعد الكلام. والوعيد: إنذار بسوء يأتي بعد الكلام الوعد يشجع السامع على أن يبذل جهده ويعمل؛ حتى يتحقق له الخير الذي وُعِد به. والوعيد يعطي السامع فرصة أن يمتنع عما يغضب الله فلا يناله عذاب الله.
على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات} ثم ذكر العذاب الذي ينتظرهم، وبعد ذلك قال: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} ثم وصف النعيم الذي ينتظرهم، مع أن الشائع في اللغة أن الوعد يكون بالخير والوعيد يكون بالشر، فكان من المناسب في عرف البشر أن يقول الحق سبحانه وتعالى: أوعد الله المنافقين؛ لأن الذي سيأتي بعد ذلك عذاب ونار وشر، وأن يقول في المؤمنين: وَعَدَ اللهُ لأن الذي سيأتي بعد ذلك جنة ونعيم وخير.
ولكن الأسلوب جاء مخالفًا للعرف البشري، فجاء بكلمة {وعد}، وهي تقال دائمًا للخير في حديثه سبحانه وتعالى عن المنافقين والمؤمنين، واستخدام وعد بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات موافق للنطق البشري؛ لأنه وعد بخير.
ولكن بالنسبة للمنافقين فقد جاء الحق سبحانه وتعالى بكلمة {وعد} مكان أوعد.
فالذي يتكلم هنا هو الحق سبحانه، فلا تَقِسْ كلام الله على كلام البشر؛ لأن البشر يفوتهم في كلامهم ملاحظَ، ولكنها لا تفوت ولا تخفى على الله، والبشر يتفاوتون في الأداء وأساليبه ولكن الحق أسلوبه واحد.
فلماذا جاء سبحانه- إذن- بكلمة {وعد} بدلًا من أوعد؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى بعد أن عرَّف المنافقين والمنافقات، ثم تكلم عن جزائهم إن إصرُّوا على نفاقهم، كان ذلك تحذيرًا حتى لا يصروا على النفاق مخافة العذاب الذي ينتظرهم؛ عَلَّهم يقلعون عن النفاق وينصرفون إلى الخير من الإيمان.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى حين حذرهم بالوعيد نصحهم، كما تقول لمن يهمل في دروسه: سترسب إذا أهمات دروسك. فتكون بذلك قد خدمت إقباله على المذاكرة. أوصلته بالوعيد إلى أن يتجنب الأمر الذي أوعد به؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35-36].
هل الشواظ من النار نعمة حتى يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأي نعم ربك تكذب؟ نقول: نعم إنه نعمة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يوضح لك: إن خالفت هذا فستذهب إلى النار، يكون قد قدم لك العظة والنصيحة، والعظة والنصيحة نعمة؛ لأنه يجعلك تتجنب طريق النار وتختار طريق الجنة.
إذن: فحين يحذر الله المنافقين والمنافقات بالمصير الذي ينتظرهم، يكون هذا خيرًا ونعمة؛ لأنهم إذا اتعظوا وأقلعوا عن النفاق إلى الإيمان فهم ينجون أنفسهم من عذاب النار، وفي هذا خير عميم.
ولذلك استخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة {وعد} ولم يستخدم أوعد، وتكون الكلمة مؤدية للمعنى الذي أراده الله.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} والوعد كما قلنا بشارة بخير مستقبلي، والوعيد إنذار بشرٍّ يأتي في المستقبل، والوعد والإيعاد هما ميزان الوجو دنيا وآخرة؛ لأنك إن وعدت من يلتزم بمنهج الله خيرًا، استحسن الناس جميعًا أن يصلوا إلى الخير باتباعهم المنهج، وإن أوعدتهم بشر إن خالفوا منهج الله؛ نفر الناس من المخالفة والمعصية خوفًا من العذاب وتجنبوا الشر. فإن صدق وعدك لأهل الخير بالخير، وصدق وعيدك لأهل الشر بالشر؛ استقام ميزان الحياة.
ولذلك نقول للذي يذاكر: إنك ستنجح، فإن أتقنت المذاكرة حصلت على المجموع الذي يؤهلك لدخول الكلية التي تختارها، وإن أهملت دروسك رسبت وفُصِلْتً من التعليم وضاع مستقبلك. هنا وعد ووعيد. إن وفَّيْتَ ما وعدت ووقيت ما توعدت، استقام ميزان الحياة. ولكن إذا جئت لإنسان لم يذاكر وأنجحته وأعطيته أعلى الدرجات مخالفًا بذلك وعيدك له، فأنت تهدم قضية كونية يترتب عليها مصالح الخلق كلهم.
وإن وعدت من يحصل على 90% مثلًا أنه سيدخل كلية الطب، ثم أخلفت وعدك فدخل كلية الطب من حصل على 70% واستُبعِدَ الحاصل على 90% بسبب تدخل الأهواء تكون أيضًا قد اعتديت على حركة الحياة كلها وتفسد قضية العمل الجاد في حركة الحياة، وكل من لا يملك القدرة على تنفيذ ما وعد به أو أوعد به، لا يكون لكلامه وزن في حركة الحياة.
على أنه إذا كان الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى فإنه مختلف مع منطق البشر؛ لأننا أهل أغيار، فقد أعد بخير لا استطيع تنفيذه، وقد أعد بعقاب ثم أضعف بسبب ظروف معينة فلا أقوى على التنفيذ. إذن: فلكي تستقيم حرحكة الحياة، لابد أن يأتي الوعد والوعيد من القادر دائمًا، القوي دائمًا، الموجود دائمًا؛ صاحب الكلمة العليا بحيث لا يوجد شيء يمكن أن يجعله لا يفي بوعده أو لا يُتِمُّ وعيده، فإذا قرأت سورة المسد تجد الحق سبحانه يقول فيها: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
وقد حكم الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة؛ بأن أبا لهب وامرأته سيموتان كافرين وسيدخلان النار، ولكن كثيرًا ممن كانوا كفارًا وقت نزول هذه السورة مثل: خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص وغيرهم؛ آمنوا وحَسُنَ إسلامهم وجاهدوا في سبيل الله، فلماذا حكم رسول الله بأن أبا لهب وامرأته لن يؤمنا كما آمن عمرو، وكما آمن عكرمة، وكما آمن خالد بن الوليد وغيرهم؟ نقول: إن هذا ليس حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه الحق سبحانه وتعالى، وإذا حكم الله فإياك أن تشُكَّ في هذا الحكم؛ لأنه لا إله إلا الله وهو على كل شيء قدير.
لذلك جاءت هذه السورة، وبعدها في المصحف الشريف في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1-2].
وما دام الله أحدًا فأمره نافذ حتى في الأمور الاختيارية في الحياة، فإذا قال الله: {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ}. وإذا وعد بخير فإنه سيأتي لا محالة، وإذا أوعد بشرّ فسوف يقع حتمًا.
إذن: فلكي تستقيم موازين الحياة، كان لابد أن يأتي الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى حتى نكون على يقين بأنه سيحدث؛ لأنه لا أحد يشارك الله في مُلْكه، ولا يوجد قوي إلا الله، ولا غالب إلا الله؛ لأنه هو الله أحد.
وقد يأتي الحق سبحانه وتعالى بسنة كونية واقعة، فأنت حين تزرع الأرض وتُحسن حَرْثها، وريِّها ووضع البذور فيها يأتيك المحصول بخير عميم. وإذا أهملت الأرض وتركتها بلا حرث ولا زرع ولا بذور فهي لا تعطيك شيئًا.
إذن: فالسُّنة الكونية هنا أعطت وعدًا للذي يجدُّ في زراعة أرضه بالمحصول الوفير، وأعطتْ وعيدًا للذي لا يُقبل على زراعة أرضه بأنه لا يحصل على ثمرة واحدة منها. ولو اختلف الأمر ووجدنا من زرع وحرث وسقي لم يحصل على الثمار، ومن لم يزرع ولم يفعل شيئًا أعطته الأرض من ثمارها الكثير، لانقلبت المعايير في الكون، وما وجدنا أحدًا يزرع أرضه.
إذن: فلكي تستقيم سنة الحياة، إما أن يكون الوعد والوعيد من قادر على التنفيذ لا يضعف ولا يتغير. وإما أن يكون بسنة كونية نراها أمامنا في كل يوم ولا يقع ما هو مخالف لها. فالذي يجتهد ينجح، والذي لا يذاكر يرسب. سُنة كونية. لو صدقت مع الواقع يعتدل ميزان الحياة. ولو لم تصدق مع الواقع وتدخلت الأهواء لتجعل من لا يذاكر يرسب؛ اختلف حركة الحياة المثمرة الناجحة.
إذن: فميزان الوعد والوعيد هو دولاب حركة الحياة، فإن اختل هذا الميزان وجاء الوعد مكان الوعيد؛ أي كوفئ الذي لا يعمل وعوقب الذي يعمل فسد الكون. لماذا؟ لأن كل إنسان يجب النفع لنفسه، ولا يختلف في ذلك مؤمن أو عاصٍ أو كافر، ولكن العاصي والكافر يحبان نفسيهما حبًّا أحمق؛ فيحققان لها نفعًا قليلًا زمنه محدود؛ بعذاب مستمر زمنه بلا حدود. أما المؤمن فهو إنسان يمتاز بالذكاء وبُعْد النظر؛ لذلك فهو حرم نفسه من متعة عاجلة في زمن محدود، ليحقق لها متعة أكبر في زمن لا ينتهي.
ولقد ضربنا مثلًا لذلك- ولله المثل الأعلى- فقلنا: هَبْ أن هناك أخوين: أحدهما يستيقظ من النوم مبكرًا، فيصلي ويفطر ويأخذ كتبه ويذهب إلى المدرسة، ويحسن الإنصات للمدرسين ويعود إلى البيت ليذاكر دروسه.
والآخر يظل نائمًا يتمتع بالنوم، ويقوم عند الضحى، فيخرج ليتسكع في الشوارع، وحين تُحدِّثه نفسه بأي متعة فهو يحققها بصرف النظر عن منهج الله وقيم الحياة.
إن كلا الأخوين يجب نفسه، لكن الأول أحب نفسه فأعطاها مشقة محتملة في سنوات الدراسة؛ لتعطيه راحة ومركزًا ومالًا بقية حياته، أما الأخ الثاني فقد أحب نفسه أيضًا وأعطاها المتعة العاجلة ولكنه أضاع مستقبله كله، فلم يَعُدْ يساوي شيئًا في المجتمع.
إذن: فكل منا يحب نفسه، ولكن مقاييس الحب هي التي تختلف. فمنا مَنْ يأخذ المقياس السليم، فيحتمل مشقة قليلة ليأخذ نعيمًا أبديًّا، ومنا من يعطي نفسه متعة عابرة ليفقد نعيمًا مقيمًا.
والعجيب أنك تجد أن هذه هي سنة الحياة الدنيا، فلا تجد إنسانًا ارتاح في حياته إلا إذا كان قد أجهد نفسه في سنواته الأولى؛ ليصل إلى الراحة بقية عمره، ولا تجد إنسانًا فاشلًا عالة على المجتمع إلا إذا كان قد أخذ حظه من الحياة في أولها ليشقى بقية عمره.
لذلك يقال دائمًا: إنه لا يوجد من يأخذ حظه من الحياة مرتين أبدًا، فالذي يتعب في أول حياته يرتاح بقية عمره، والذي يرتاح أول حياته يتعب بقية عمره. والمثل الشائع يقول: من جار على شبابه، أي: ضيَّعه فيما لا يفيد؛ جارت عليه شيخوخته. والقائمون على الأمر عليهم أن ينبهوا المقبلين على الحياة بالوعد والوعيد حتى يستقيم أمر حياتهم، وعليهم ألا يُؤجِّلوا الوعد إلى أن تنضج الثمرة. ولا الوعيد إلى أن يحدث الشر ويقع. وعلى كل ولي أمر؛ في أي مكان؛ أن يراقب حركة المقبلين على الحياة من أبنائه أو من يتولى أمرهم، فيشجع ويعد المجتهد، ولا ينتظر حتى ينجح، بل لابد من الوعد لكي يتم الاجتهاد. ولابد من الوعيد قبل أن يرسب الابن أو يضيع حياته، فلا ننتظر حتى يفسد الإنسان ثم بعد ذلك نتوعده؛ لأن الوعد والوعيد هما اللذان يَزِنَانِ حركة الحياة.
ولكن إذا رأينا في مجتمع ما أن الذي يعمل لا يأخذ شيئًا، والذي لا يعمل يأخذ كل شيء، نعرف أن مقاييس العمل قد اختلت. وأن المتاعب قد بدأت في المجتمع؛ لأن الذي يعمل حين يجد أن العمل لا يوصله إلى شيء فهو يوجه حركة حياته إلى غير عمله، فيبذل جهده كله في النفاق والرياء، وقَلْب الحقائق وإرضاء الذي يملك الأمر. وتكون النتيجة هي فقدان المجتمع لقيمة العمل فيصبح المجتمع بلا عمل منتج، ويصير مجتمعًا بارعًا في النفاق والرياء وضياع الحق.