فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}
اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقوامًا من المنافقين، قالوا كلمات فاسدة، ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا، وحلفوا أنهم ما قالوا، والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوهًا: الأول: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين.
فقال الجلاس بن سويد: والله لئن كان ما يقوله محمد في إخواننا الذين خلفناهم في المدينة حقًا مع أنهم أشرافنا، فنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل والله إن محمدًا صادق، وأنت شر من الحمار.
وبلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر الجلاس، فحلف بالله أنه ما قال، فرفع عامر يده وقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، فنزلت هذه الآية.
فقال الجلاس: لقد ذكر الله التوبة في هذه الآية، ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر، فتاب الجلاس، وحسنت توبته.
الثاني: روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأراد به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول، فهم عمر بقتل عبد الله بن أبي، فجاء عبد الله وحلف أنه لم يقل، فنزلت هذه الآية.
الثالث: روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله بن أبي: يا بني الأوس انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك.
فذكروه للرسول عليه السلام، فأنكر عبد الله، وجعل يحلف.
قال القاضي: يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع وذلك لأن قوله: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} إلى آخر الآية كلها صيغ الجموع، وحمل صيغة الجمع على الواحد، خلاف الأصل.
فإن قيل: لعل ذلك الواحد.
قال في محفل ورضي به الباقون.
قلنا: هذا أيضًا خلاف الظاهر لأن إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل، ثم قال: بلى الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي: أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، وكان عمار بن ياسر آخذًا بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فالتفت، فإذا قوم متلثمون.
فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا.
والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة، وذلك هو قول كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج.
فأما قوله: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} فلقائل أن يقول: إنهم أسلموا، فكيف يليق بهم هذا الكلام؟
والجواب من وجهين: الأول: المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب، لأنهم لما نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وجنحوا إليه، فإذا جاهروا بالحرب، وجب حربهم.
والثاني: أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.
وأما قوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} المراد إطباقهم على الفتك بالرسول، والله تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلوا إلى مقصودهم.
وأما قوله: {وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} ففيه بحثان:
البحث الأول: أن في هذا الفضل وجهين: الأول: أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله.
والثاني: روي أنه قتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفًا فاستغنى.
البحث الثاني: أن قوله: {وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه، وهذا كقول الشاعر:
ما نقموا من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

وكقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

أي ليس فيهم عيب، ثم قال تعالى: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم، وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، فأما أنهم تابوا فليس في الآية، وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس.
ثم قال: {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا في الدنيا والأخرة} أما عذاب الآخرة، فمعلوم.
وأما العذاب في الدنيا، فقيل: المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب، فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم.
وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب.
وقيل: المراد عذاب القبر {وَمَا لَهُمْ في الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قَوْله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}:

فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَوْلُ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْد: إنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَلَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحُمْرِ.
ثُمَّ إنَّهُ حَلَفَ مَا قَالَ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ حِينَ قَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ جَمَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا ذَلِكَ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِعُمُومِ الْقَوْلِ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ وَفِيهِمْ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: [في أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ]:

فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ لِسَعَةِ الْحِلِّ وَضِيقِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ، وَلَيْسَ يَقَعُ النِّكَاحُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمَخْصُوصِ مَعَ الْقَوْلِ بِهِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ}:

فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْبَةِ الْكَافِرِ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقْبَلُ.
وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ مَالِكٌ: إنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ لَا تُعْرَفُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ، وَلَا يُعْلَمُ إيمَانُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ.
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْآنَ، وَفِي كُلِّ حِينٍ، يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ، وَهُوَ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، فَإِذَا عَثَرْنَا عَلَيْهِ وَقَالَ: تُبْت لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ.
وَقَبُولُ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَوْبَةٍ تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ بِنَقِيضِهَا فِي الْآتِيَةِ.
وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِعُمُومٍ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ حَالَةٍ؛ وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْقَبُولَ الْمُطْلَقَةَ فَيَكْفِي فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى لِلَّفْظِ وُجُودُهُ مِنْ جِهَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. اهـ.

.قال السمرقندي:

ثم بيّن خبثهم وسوء معاملتهم وفعالهم، فقال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين وسماهم رجسًا، فقال الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقًا فيما يقول، لنحن شر من الحمير فسمع عامر بن قيس ذلك، فقال: والله إن محمدًا لصادق، ولأنتم شر من الحمير.
فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاه عامر بن قيس فأخبره.
فقال الجلاس: بل كذب عليّ، وأمرهما أن يحلفا عند المنبر، فقام الجلاس وحلف، ثم قام عامر بن قيس وحلف أنه قد قاله، وما كذبت عليه، ثم رفع يديه فقال: اللهم انزل على نبيك صلى الله عليه وسلم وبيِّن الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون «آمِين» فنزل جبريل قبل أن يتفرقوا بهذه الآية: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم}، يقول كفروا في السر بعد أن أقروا في العلانية {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، يعني: أرادوا قتل عامر بن قيس؛ ويقال: قتل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم اجتمعوا ذات ليلة في مضيق جبل، ليقتلوه إذا مرّ بهم، فدفعهم الله عنه؛ ويقال: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} وهو قول عبد الله بن أُبي ابن سلول لأصحابه: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
وقال: سَمِّن كلبك يأكلك، يعني: سلطناهم على أنفسنا فنزل: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} وقال مقاتل: كان المنافقون أصحاب العقبة هموا ليلًا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة في غزوة تبوك، فنزل: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} وهكذا قال الضحاك.
ثم قال تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ}، يعني: وما عابوا وما طعنوا على محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكان أهل المدينة في شدة من عيشهم، لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة؛ فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة استغنوا؛ فذلك قوله: {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}.
ثم قال الله تعالى: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ}، يعني: إن تابوا من الشرك والنفاق يكون خيرًا لهم من الإقامة عليه.
{وَإِن يَتَوَلَّوْا} أبوا عن التوبة، {يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا في الدنيا والآخرة}؛ يعني: في الدنيا بإظهار حالهم، وفي الآخرة في نار جهنم.
{وَمَا لَهُمْ في الأرض مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ}، يعني: مانع يمنعهم من العذاب.
وذكر أنه لما نزلت هذه الآية، تاب الجلاس بن سويد وحسنت توبته. اهـ.