فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الذين يلمزون المطوِّعين}
في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنه لما نزلت آية الصدقة، جاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لَغَنِيٌّ عن صاع هذا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو مسعود.
والثاني: أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام؛ فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وإنْ كان اللهُ ورسولهُ لَغنيَّين عن هذا الصاع، قاله ابن عباس.
وفي هذا الأنصاري قولان:
أحدهما: أنه أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك.
والثاني: أنه أبو عقيل.
وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال:
أحدها: عبد الرحمن بن بِيْجَان، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ويقال: ابن بِيْحان.
ويقال: سِيْحَان.
وقال مقاتل: هو أبو عقيل بنُ قيس.
والثاني: أن اسمه الحَبْحَاب، قاله قتادة.
والثالث: الحُبَاب.
قال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف، وجاء عاصم ابن عدي بن العَجلان بمائة وَسق من تمر.
و{يلمزون} بمعنى: يعيبون و{المطوِّعين} أي: المتطوعين، قال الفراء: أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاءً مشددة.
والجُهد: لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم الجَهد.
قال أبو عبيدة: الجهد، بالفتح والضم سواء، ومجازه: طاقتهم.
وقال ابن قتيبة: الجُهد: الطاقة؛ والجَهد: المشقة.
قال المفسرون: عُني بالمطوِّعين عبدُ الرحمن، وعاصم، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم: أبو عقيل.
وقوله: {سخر الله منهم} أي: جازاهم على فعلهم.
وقد سبق هذا المعنى. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
هذا أيضًا من صفات المنافقين.
قال قتادة: {يَلْمِزُونَ} يعيبون.
قال: وذلك أن عبد الرحمن بن عوف تصدق بنصف ماله وكان مالُه ثمانية آلاف فتصدق منها بأربعة آلاف.
فقال قوم: ما أعظم رياءه؛ فأنزل الله: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}.
وجاء رجل من الأنصار بنصف صُبرة من تمره فقالوا: ما أغنى الله عن هذا؛ فأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} الآية.
وخرّج مسلم عن أبي مسعود قال: أمرنا بالصدقة قال: كنا نحامل، في رواية: على ظهورنا قال: فتصدّق أبو عقيل بنصف صاع.
قال: وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغنيً عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء: فنزلت: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}.
يعني أبا عقيل.
واسمه الحَبْحاب.
والجُهْد: شيء قليل يعيش به المُقِلّ.
والجُهْد والجَهْد بمعنىً واحد.
وقد تقدّم.
و{يَلْمِزُونَ} يعيبون.
وقد تقدّم و{الْمُطَّوِّعينَ} أصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء؛ وهم الذين يفعلون الشيء تبرعًا من غير أن يجب عليهم.
{وَالَّذِينَ} في موضع خفض عطف على {الْمُؤْمِنِينَ}.
ولا يجوز أن يكون عطفًا على الاسم قبل تمامه.
و{فَيَسْخَرُونَ} عطف على {يَلْمِزُونَ}.
{سَخِرَ الله مِنْهُمْ} خبر الابتداء، وهو دعاء عليهم.
وقال ابن عباس: هو خبر؛ أي سخر منهم حيث صاروا إلى النار.
ومعنى سخر الله مجازاتهم على سخريتهم.
وقد تقدّم في البقرة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} الآية.
(ق) عن أبي مسعود البدري قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحمل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} الآية وقال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمان ماله لهما مائة وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثرة في الصدقات فلمزهم المنافقون.
فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقة فأنزل الله سبحانه وتعالى الذين يلمزون يعيبون المطوعين يعني المتبرعين من المؤمنين يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي في الصدقات والتطوع التنفل بما ليس بمواجب عليه {والذين لا يجدون إلا جهدهم} يعني أبا عقيل الأنصاري والجهد بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وقيل: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقد يكون القليل من المال الذي يأتي به فيتصدق به أكثر موقعًا عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به فيتصدق به لأن الغني أخرج ذلك المال الكثير عن قدرة وهذا الفقير أخرج القليل إنما أخرجه عن ضعف وجهد وقد يؤثر المحتاج إلى المال غيره رجاء ما عند الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} {فيسخرون منهم} يعني أن المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين في إنفاقهم المال في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو قولهم لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيًا وكان يعيرون الفقير الذي يتصدق بالقليل ويقولون: إنه لفقير محتاج إليه فكان يتصدق به وجوابهم إن كل من يرجو ما عند الله من الخير والثواب يبذل الموجود لينال ذلك الثواب الموعود به وقوله سبحانه وتعالى: {سخر الله منهم} يعني أنه سبحانه وتعالى جازاهم على سخريتهم ثم وصف ذلك وهو قوله تعالى: {ولهم عذاب أليم} يعني في الآخرة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{الذين يلمزون المطوِّعين من المؤمنين في الصدقات} نزلت فيمن عاب المتصدقين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فتصدّق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فبارك له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمسك وفيما أعطى.
وتصدق عمر بنصف ماله، وعاصم بن عدي بمائة وسق، وعثمان بصدقة عظيمة، وأبو عقيل الأرلشي بصاع تمر، وترك لعياله صاعًا، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما، ورجل بناقة عظيمة قال: هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون: ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة، وما تصدّق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات، والله غني عن صاعه.
وقال بعضهم: تصدق بالناقة وهي خير منه.
وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سوادًا، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: قل هو خير منك، ومنها يقولها ثلاثًا.
وأصل المطوعين المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره.
والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجون في المطوعين، ذكروا تشريفًا لهم، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل، وأبي خيثمة، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما.
وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أنّ المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال: لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله.
وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وفي قوله: {فيهما فاكهة ونخل ورمان} وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني، وأكثر الناس على خلافهما.
وتسمية بعضهم التجريد، جردوا بالذكر على سبيل التشريف، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقرأ ابن هرمز وجماعة: جهدهم بالفتح.
فقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
وقال القتبي بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة.
وقال الشعبي: بالضم القوت، وبالفتح في العمل.
وقيل: بالضم شيء قليل يعاش به.
والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم.
وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون.
وذكر أبو البقاء أن قوله: {والذين لا يجدون}، معطوف على الذين يلمزون، وهذا غير ممكن، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين.
قال: وقيل: والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين، وهذا بعيد جدًا.
قال: وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان: أحدهما فيسخرون.
ودخلت الفاء لما في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه.
وهذا بعيد، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ، لأنّ من عاب وغمز أحدًا هو ساخر منه، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها، وهو لا يجوز.
قال: والثاني: أن الخبر سخر الله منهم، قال: وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر، تقديره عاب الذين يلمزون.
وقيل: الخبر محذوف تقديره: منهم الذين يلمزون.
وقال أبو البقاء أيضًا: من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى.
وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر، وإذا كان حالًا جاز الفصل بها بين العامل فيها، وبين المعمول أخر، لذلك العامل نحو: جاءني الذي يمر راكبًا بزيد.
والسخرية: الاستهزاء.
والظاهر أن قوله: {سخر الله منهم} خبر لفظًا ومعنى، ويرجحه عطف الخبر عليه.
وقيل: صيغته خبر، ومعناه الدعاء.
ولما قال: فيسخرون منهم قال: سخر الله منهم على سبيل المقابلة، ومعناه: أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم.
قال ابن عباس: وكان هذا في الخروج إلى غزوة تبوك.
وقيل: معنى سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} قال ابن عطية: تسمية للعقوبة باسم الذنب، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى.
وهو قريب من القول الذي قبله.
وقال الأصم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر، ووبال فعلهم عليهم كما هو، فكأنه سخر منهم ولهذا قال: ولهم عذاب أليم، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى.
وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر، لما يعقبهما من الوعيد. اهـ.