فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} الفاعل: هو الله سبحانه، أي فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض، نفاقًا كائنًا في قلوبهم، متمكنًا منها، مستمرًا فيها {إلى يوم يلقون} الله عزّ وجلّ، وقيل: إن الضمير يرجع إلى البخل، أي فأعقبهم البخل بما عاهدوا الله عليه نفاقًا كائنًا في قلوبهم إلى يوم يلقون بخلهم: أي جزاء بخلهم.
ومعنى {فَأَعْقَبَهُمْ}: أن الله سبحانه جعل النفاق المتمكن في قلوبهم إلى تلك الغاية عاقبة ما وقع منهم من البخل، والباء في {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} للسببية، أي بسبب إخلافهم لما وعدوه من التصدّق والصلاح، وكذلك الباء في {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي: وبسبب تكذيبهم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أنكر عليهم فقال: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي المنافقون، وقرئ بالفوقية خطابًا للمؤمنين {أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي: جميع ما يسرونه من النفاق، وجميع ما يتناجون به فيما بينهم من الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه، وعلى دين الإسلام {وَأَنَّ الله علام الغيوب} فلا يخفى عليه شيء من الأشياء المغيبة كائنًا ما كان، ومن جملة ذلك ما يصدر عن المنافقين.
قوله: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين} الموصول محله النصب، أو الرفع على الذم، أو الجرّ بدلًا من الضمير في سرّهم ونجواهم، ومعنى {يَلْمِزُونَ} يعيبون.
وقد تقدّم تحقيقه، والمطوّعين: أي المتطوّعين، والتطوّع: التبرّع.
والمعنى: أن المنافقين كانوا يعيبون المسلمين إذا تطوّعوا بشيء من أموالهم وأخرجوه للصدقة، فكانوا يقولون: ما أغنى الله عن هذا، ويقولون: ما فعلوا هذا إلا رياء، ولم يكن لله خالصًا، و{فِي الصدقات} متعلق بيلمزون: أي يعيبونهم في شأنها.
قوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} معطوف على المطوّعين: أي يلمزون المتطوّعين، ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم؛ وقيل: معطوف على المؤمنين: أي يلمزون المتطوّعين من المؤمنين، ومن الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقرئ {جهدهم} بفتح الجيم، والجهد بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة، وقيل: هما لغتان ومعناهما واحد، وقد تقدّم بيان ذلك.
والمعنى: أن المنافقين كانوا يعيبون فقراء المؤمنين الذين كانوا يتصدّقون بما فضل عن كفايتهم.
قوله: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} معطوف على يلمزون: أي يستهزءون بهم لحقارة ما يخرجونه في الصدقة مع كون ذلك جهد المقلّ، وغاية ما يقدر عليه ويتمكن منه، قوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} أي: جازاهم على ما فعلوه من السخرية بالمؤمنين بمثل ذلك، فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة كما في غيره.
وقيل: هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمسلمين {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: ثابت مستمر شديد الألم.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والعسكري في الأمثال، والطبراني، وابن منده، والبارودي، وأبو نعيم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالًا، قال: «ويلك يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالًا، قال: «ويحك يا ثعلبة: أما تحبّ أن تكون مثلي، فلو شئت أن يسير ربي هذه الجبال معي ذهبًا لسارت»، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، قال: «ويحك يا ثعلبة، قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه»، قال: يا رسول الله، ادع الله تعالى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ ارزقه مالًا»؛ قال: فاتخذ غنمًا فنمت كما تنمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشهدها بالليل، ثم نمت كما تنمو الدود فتنحى بها، فكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نمت كما تنمو الدود فضاق بها مكانه، فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار، وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فأخبروه أنه اشترى غنمًا، وأن المدينة ضاقت به وأخبروه خبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويح ثعلبة بن حاطب، ويح ثعلبة بن حاطب»؛ ثم إن الله تعالى أمر رسوله أن يأخذ الصدقات، وأنزل: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين، رجلًا من جهينة ورجلًا من بني سلمة يأخذان الصدقات، وكتب لهما أسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها وجوهها، وأمرهما أن يمرّا على ثعلبة بن حاطب، وبرجل من بني سليم، فخرجا فمرا بثعلبة فسألا الصدقة، فقال: أرياني كتابكما، فنظر فيه فقال: ما هذه إلا جزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى قدما المدينة، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما: «ويح ثعلبة بن حاطب»، ودعا للسلميّ بالبركة، وأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله} الثلاث الآيات، قال: فسمع بعض أقارب ثعلبة، فأتى ثعلبة فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا، قال: فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه صدقة مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد منعني أن أقبل منك»، فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عملك بنفسك، أمرتك فلم تطعني»، فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى، ثم أتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر: إقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار، فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها؟ فلم يقبلها أبو بكر؛ ثم ولي عمر بن الخطاب، فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي، قال: ويثقل عليه بالمهاجرين والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا؟ فأبى أن يقبلها؛ ثم ولي عثمان فسأله أن يقبل صدقته، فقال: لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه، فهلك في خلافة عثمان، وفيه نزلت: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصدقات} قال: وذلك في الصدقة، وهذا الحديث هو مرويّ من حديث معاذ بن رفاعة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الله بن يزيد بن معاوية، عن أبي أمامة الباهلي.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله} الآية، وذلك أن رجلًا كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلسًا فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه، وتصدّقت منه، وجعلت منه للقرابة؛ فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف ما وعده، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، أن رجلًا من الأنصار هو الذي قال هذا، فمات ابن عمّ له فورث منه مالًا فبخل به، ولم يف بما عاهد الله عليه، فأعقبه بذلك نفاقًا في قلبه إلى أن يلقاه.
قال ذلك {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، عن ابن مسعود، قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقالوا: مراء؛ وجاء أبو عقيل بنصف صاع، فقال المنافقون: إن الله لغنيّ عن صدقة هذا، فنزلت: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين} الآية، وفي الباب روايات كثيرة.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة في قوله: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين} أي: يطعنون على المطوّعين. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء، وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا. فنزلت {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم...} الآية.
وأخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثًا»، فجاء عبد الرحمن فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي. فقال: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، وجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، إني بت أجر الحرير فأصبت صاعين من تمر، فصاعًا أقرضه ربي وصاعًا لعيالي، فلمزه المنافقون قالوا: والله ما أعطى ابن عوف الذي أعطى إلا رياء. وقالوا: أو لم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوعين} الآية.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بصدقته، وجاء المطوعون من المؤمنين، وجاء أبو عقيل بصاع فقال: يا رسول الله، بت أجر الحرير فأصبت صاعين من تمر، فجئتك باحدهما وتركت الآخر لأهلي قوتهم فقال المنافقون: ما جاء عبد الرحمن وأولئك إلا رياء، وإن الله لغني عن صدقة أبي عقيل، فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوّعين} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والبغوي في معجمه والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن أبي عقيل قال بت أجر الحرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقرب به إلى ربي، فاخبرته بالذي كان فقال: «انثره في المسجد». فسخر القوم وقالوا: لقد كان الله غنيًا عن صاع هذا المسكين؟ فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين...} الآيتين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {الذين يلمزون المطوّعين...} الآية.
قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلاّ رياء، وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع.
وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: الذي تصدق بصاع التمر فلمزه المنافقون: أبو خيثمة الأنصاري.
وأخرج البغوي في معجمه وابن قانع وابن مردويه عن سعيد بن عثمان البلوي عن جدته ليلى بنت عدي. أن أمها عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاعين الذي لمزه المنافقون، أخبرتها أنه خرج بصاع من تمر وابنته عميرة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر فصبه.
وأخرج عبد الرزاق وابن عساكر عن قتادة في قوله: {الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات} قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ثمانية آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن لعظيم الرياء. فقال الله عز وجل: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} وكان لرجل من الأنصار صاعان من تمر، فجاء بأحدهما فقال ناس من المنافقين: إن كان الله عن صاع هذا لغني! وكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون منهم فقال الله عز وجل: {والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم} الآية.
وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن قتادة قال أقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له الحجاب أبو عقيل قال: يا نبي الله بت أجر الحرير الليلة على صاعين من تمر، فاما صاع فأمسكته لأهلي وأما صاع فهو ذا. فقال المنافقون: إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع هذا، فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين...} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس للصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله هذه صدقة. فلمزه بعض القوم فقال: ما جاء بهذه عبد الرحمن إلا رياء، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال بعض القوم: ما كان الله أغنى عن صاع أبي عقيل، فنزلت {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} إلى قوله: {فلن يغفر الله لهم}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم، وكان لعبد الرحمن بن عوف ثمانية آلاف دينار، فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة فقال: هذا ما أفرضه الله وقد بقي مثله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت»، وجاء أبو نهيك رجل من الأنصار بصاع تمر نزع عليه ليله كله، فلما أصبح جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء، وقال للآخر: إن الله لغني عن صاع هذا. فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات} عبد الرحمن بن عوف {والذين لا يجدون إلا جهدهم} صاحب الصاع.