فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولكن ألا توجد ذاتية للأب؟
نقول: إن التاريخ يقول إن عبدالله بن أبيّ نال حظه من الدنيا، والحق سبحانه يقول: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
وجزاء العمل يُعطي للبعض في الدنيا، ويُعْطي للبعض في الآخرة؛ مصداقًا لقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].
ولقد حدثنا علماء السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبا لهب يُخفَّفُ عنه العذاب يوم الاثنين»، وأبو لهب نزل فيه قول الحق سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3].
ولماذا يُخفَّف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين؟ لأن هذا اليوم هو الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سُرَّ أبو لهب بميلاد الرسول الكريم، فأعتق الجارية التي بشَّرته بميلاد الرسول؛ ومن هنا يُخفَّف العذابُ عن أبي لهب يوم الاثنين جزاء عمله.
كما أن عبدالله بن أبيّ كان له موقف يحسب له في واقعة الحديبية حين ذهب المسلمون لأداء العمرة، وصدهم الكفار عن بيت الله الحرام؛ وانتهت بصلح الحديبية وهي أول معاهدة بين الإيمان والكفر، ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رُدُّوا عن بيت الله الحرام، فقد فطن أبو بكر لما في يوم الحديبية من عطاءات الله؛ من اعتراف كفار قريش بمحمد وبالمسلمين حين وقعوا معاهدة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرغ نبينا الكريم للدعوة في الجزيرة العربية، وهو آمن من قريش، وانتشر الإسلام إلى أن نقضت قريش العهد وتم فتح مكة.
نعود إلى قصة عبد الله بن أبيّ يوم الحديبية: لقد كان الكفار يعلمون أن في نفسه شيئًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم منع تتويج عبدالله بن أبيّ ملكًا على المدينة. وكانوا يعلمون أيضًا أنه أسلم نفاقًا؛ فأرادوا أن يُحدثوا ثغرة في نفوس المسلمين، فقالوا: محمد وأصحابه لا يدخلون، ولكننا نسمح لعبدالله بن أبيّ ومن معه بدخول مكة وأداء العمرة فرفض عبدالله بن أبيّ وقال: إن لي في رسول الله أسوة حسنة، لا أريد أن أذهب للعمرة إلا إذا ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا موقف يُحمد له.
كذلك كان له موقف آخر في غزوة بدر، حينما أُسر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان العباس طويل القامة وثيابه تمزقت في المعركة، فلم يجدوا طويلًا مثله إلا عبدالله بن أبيّ، فأعطاهم قميصه ليلبسه العباس، فلم يَنْسَ رسول الله ذلك له.
ومن أجل هذا استغفر له رسول الله، لكن الحكم الأعلى قد جاء {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} فليس المهم فقط هو استغفار رسول الله؛ لأن هناك ممحصات للذنب، فمن أذنب عليه أن يأتيك أولًا يا رسول الله، ليستغفر الله، ثم يسألك أن تستغفر له الله، حتى يجد الله توابًا رحيمًا، فسبحانه القائل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 64].
فالذي يريد أن يتوب ويستغفر، لا يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا استغفر مرتكب الذنب أولًا، فلابد أن يستغفروا الله من الذنوب أولًا ثم يستغفر لهم الرسول. ولا يستغفر لهم الرسول وهو لا يستغفرون، وهكذا نعلم أن عبدالله بن أبيّ لم يفطن إلى كيفية الاستغفار، فقد كان عليه أن يأتي لرسول الله صاغرًا ليستغفر الله أمامه، لا أن يبحث عمن يطلب له الاستغفار.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى موضحًا سبب عدم غفرانه، فيقول: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} وحين ينفي الحق سبحانه وتعالى الهداية عن إنسان، فليس معنى هذا أن يقول الفاسق: الله لم يَهْدِني فماذا أفعل؟ ويُحمِّل المسألة كلها لله. بل نسأل الفاسق: لماذا لم يَهْدِك؟ لأنك فسقت.
إذن: فعدم الهداية من الله لك كان بسبب أنك أخذت طريق الفسق والبعد عن منهج الله، ومن هنا فالهداية المقصودة في هذه الآية؛ ليست هي الهداية بمعنى الدلالة على طريق الخير؛ لأن الدلالة إلى طريق الخير تأتي من الله للمؤمن والكافر فمنهج الله الذي يبلَّغ للناس كافة، يريهم طريق الخير ويدلهم عليه. ولكن المقصود هنا هو الهداية الأخرى التي يعطيها الحق لمن دخل في رحاب الإيمان وآمن وحَسُنَ عمله، وتتمثل في قول الحق: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
إذن: فكل مَنْ مشى في طريق الإيمان أعانه الله عليه. وفي المقابل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وكذلك قوله سبحانه: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [التوبة: 37].
وأيضًا قوله الكريم: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [الصف: 5].
لا نقول أبدًا: إن هؤلاء معذورون؛ لأن الله لم يَهْدِهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قد هداهم ودَلَّهم جميعًا على طريق الخير، ولكنهم هم الذين أخذوا طريق الكفر والظلم والفسوق.
واقرأ إن شئت قول الله عز وجل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17].
فماذا صنعوا في هدايته لهم: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى}، أي: أن الحق سبحانه بيَّن لثمود طريق الخير، ولكنهم اختاروا الضلالة.
إذن: فهداية الدلالة للجميع، وهداية المعونة للمؤمنين. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ بَعْدَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ. وَيُوجَدُ مِثْلُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَلْجَئُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي وَقْتِ الْعُسْرَةِ وَالْفَقْرِ، أَوِ الشِّدَّةِ وَالضُّرِّ، فَيَدْعُونَهُ وَيُعَاهِدُونَهُ عَلَى الشُّكْرِ لَهُ، وَالطَّاعَةِ لِشَرْعِهِ، إِذَا هُوَ كَشَفَ ضُرَّهُمْ، وَأَغْنَى فَقْرَهُمْ، فَإِذَا اسْتَجَابَ لَهُمْ نَكَسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَفَرُوا النِّعْمَةَ، وَبَطَرُوا الْحَقَّ، وَهَضَمُوا حُقُوقَ الْخَلْقِ، وَهَذَا مَثَلٌ مِنْ شَرِّ أَمْثَالِهِمْ.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} أَيْ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَاهَدَ اللهَ تَعَالَى وَأَقْسَمَ أَوْكَدَ الْأَيْمَانِ، لَئِنْ آتَاهُمْ مَنْ فَضْلِهِ مَالًا وَثَرْوَةً لَيَشْكُرَنَّ لَهُ نِعْمَتَهُ بِالصَّدَقَةِ مِنْهَا، وَالْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ النَّافِعَةِ الَّتِي يَنْتَظِمُونَ بِهَا فِي سِلْكِ الصَّالِحِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ. وَأَعَادَ اللَّامَ الْوَاقِعَةَ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فِي {لَنَكُونَنَّ} لِتَأْكِيدِ الْعَزْمِ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَسُّلِ بِفَضْلِ الْمَالِ. إِلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَنْهَجِ الصَّلَاحِ، بِمَا هُوَ وَرَاءَ الصَّدَقَاتِ، الَّتِي عَقَدُوا الْعَهْدَ وَالْقَسَمَ عَلَيْهَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} مَا طَلَبُوا مِنْ سَعَةِ رِزْقِهِ {بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا} أَيْ: مَا لَبِثُوا أَنْ بَخِلُوا بِمَا آتَاهُمْ عَقِبَ حُصُولِهِ، وَأَمْسَكُوهُ فَلَمْ يَتَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ: وَتَوَلَّوْا وَانْصَرَفُوا عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ وَحَالِ أُمَّتِهِمْ كَمَا عَاهَدُوا وَأَقْسَمُوا، وَلَمْ يَكُنْ تَوَلِّيهِمْ هَذَا أَمْرًا عَارِضًا شَغَلَهُمْ عَنْهُ شَاغِلٌ يَزُولُ بِزَوَالِهِ بَلْ تَوَلَّوْا: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} بِكُلِّ قُوَاهُمْ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَانَ الْإِعْرَاضُ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ حَاكِمَةٌ عَلَيْهِمْ، بِحَيْثُ إِذَا ذُكِّرُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لَا يَذْكُرُونَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَيْهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} يُقَالُ: أَعْقَبَهُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَثَمَرَتَهُ أَيْ: فَأَعْقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى، أَوْ أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ الْبُخْلَ وَتَوَلِّيِ الْإِعْرَاضِ، بَعْدَ الْعَهْدِ الْمُوَثَّقِ بِأَوْكَدِ الْإِيمَانِ، نِفَاقًا رَاسِخًا فِي قُلُوبِهِمْ مُتَمَكِّنًا مِنْهَا مُلَازِمًا لَهَا: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} لِلْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ الْمُنْتَهَى الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ فِي التَّوْبَةِ. ذَلِكَ {بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فَذَكَرَ سَبَبَيْنِ هُمَا أَخَصُّ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَظْهَرُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نِفَاقِهِمْ: إِخْلَافُ الْوَعْدِ، وَالْكَذِبُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَنُصُوصُ الْأَحَادِيثِ فِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْوَعْدُ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الْعَهْدِ وَالْقَسَمِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ إِخْلَافِهِمُ الْوَعْدَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ فِي حَادِثَةٍ وَقَعَتْ، وَعَبَّرَ عَنْ كَذِبِهِمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُمِ الدَّائِمُ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ لَوَازِمِ النِّفَاقِ فَالْمُنَافِقُ مُضْطَرٌّ إِلَى الْكَذِبِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ بَاطِنَهُ، وَلَابُدَّ لَهُ مِنْ كِتْمَانِ مَا فِي بَاطِنِهِ، وَإِظْهَارِ خِلَافِهِ دَائِمًا لِئَلَّا يَظْهَرَ فَيُفْتَضَحَ وَيُعَاقَبَ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَذِبِ. وَإِسْنَادُ إِعْقَابِهِمُ النِّفَاقَ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْبُخْلِ وَالتَّوَلِّي عَنِ الطَّاعَةِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ مَآلُهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ الثَّانِي آدَبُ. وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ النِّفَاقُ يُمَكِّنُ النِّفَاقَ وَيُقَوِّيهِ فِي الْقَلْبِ. كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ يَزِيدُهُ قُوَّةً وَرُسُوخًا فِي النَّفْسِ، وَهَكَذَا جَمِيعُ صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقِهَا وَعَقَائِدِهَا، تُقَوِّي وَتُرَسِّخُ الْعَمَلَ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، فَإِسْنَادُهَا إِلَى الْعَمَلِ يَكُونُ صَحِيحًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ، كَمَا أَنَّ إِسْنَادَهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى يَكُونُ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهَا مُقْتَضَى سُنَّتِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لَا بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقُولُهُ الْجَبْرِيَّةُ وَالصُّوفِيَّةُ، فَالْمُرَادُ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ} الْآيَةَ. أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُقَالُ لَهُ ثَعْلَبَةُ مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى مَجْلِسًا فَأَشْهَدَهُمْ فَقَالَ: لَئِنْ آتَانِي اللهُ مِنْ فَضْلِهِ آتَيْتُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَتَصَدَّقْتُ وَجَعَلْتُ مِنْهُ لِلْقَرَابَةِ، فَابْتَلَاهُ اللهُ فَآتَاهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَأَخْلَفَ مَا وَعَدَهُ، فَأَغْضَبَ اللهَ بِمَا أَخْلَفَهُ مَا وَعَدَهُ، فَقَصَّ اللهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ. اهـ.
وَأَخْرَجَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَالْبَارُودِيُّ وَأَبُو نُعَيمٍ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا، قَالَ: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلِي؟ فَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُسَيِّرَ رَبِّي هَذِهِ الْجِبَالَ مَعِيَ لَسَارَتْ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ آتَانِي اللهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
قال: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ تُطِيقُ شُكْرَهُ، خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُ شُكْرَهُ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا» فَاتَّجَرَ وَاشْتَرَى غَنَمًا فَبُورِكَ لَهُ فِيهَا، وَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهَا الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى بِهَا فَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَاةَ بِالنَّهَارِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَشْهَدُهَا بِاللَّيْلِ. ثُمَّ نَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ فَضَاقَ بِهَا مَكَانُهُ، فَتَنَحَّى بِهِ فَكَانَ لَا يَشْهَدُ جُمُعَةً وَلَا جِنَازَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، وَفَقَدَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ اشْتَرَى غَنَمًا، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ ضَاقَتْ بِهِ وَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ».
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (9: 103) الْآيَةَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَرَجُلًا مِنْ بَنِي سَلَمَةَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَاتِ، فَكَتَبَ لَهُمَا أَسْنَانَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ كَيْفَ يَأْخُذَانِهَا عَلَى وَجْهِهَا، وأَمَرَهُمَا أَنْ يَمُرَّا عَلَى ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَبِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَخَرَجَا فَمَرَّا بِثَعْلَبَةَ فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: أَرِيَانِي كِتَابَكُمَا، فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا جِزْيَةٌ انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرَغَا ثُمَّ مُرَّا بِي، قَالَ: فَانْطَلَقَا وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ فَاسْتَقْبَلَهُمَا بِخِيَارِ إِبِلِهِ فَقَالَا: إِنَّمَا عَلَيْكَ دُونَ هَذَا. فَقَالَ مَا كُنْتُ أَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ إِلَّا بِخَيْرٍ مَالِي فَقَبِلَاهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مَرَّا بِثَعْلَبَةَ فَقَالَ: أَرِيَانِي كِتَابَكُمَا. فَنَظَرَ فِيهِ فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا جِزْيَةٌ انْطَلِقَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي فَانْطَلَقَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ فَلَمَّا رَآهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا: «وَيْحَ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ» وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنْزَلَ اللهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مَنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} الثَّلَاثَ الْآيَاتِ.
قال: فَسَمِعَ بَعْضٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَأَتَى ثَعْلَبَةَ فَقَالَ وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ أَنْزَلَ اللهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا.
قال: فَقَدِمَ ثَعْلَبَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ صَدَقَةُ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ» قَالَ: فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَحْثِي التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا عَمَلُكَ بِنَفْسِكَ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي» فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى مَضَى. ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ اقْبَلْ مِنِّي صَدَقَتِي فَقَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتِي مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقْبَلُهَا؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا أَبُو بَكْرٍ. ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْبَلْ مِنِّي صَدَقَتِي، وَتَوَسَّلْ إِلَيْهِ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلُهَا أَنَا؟ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا. ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ فَهَلَكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَفِيهِ نَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} (79) قَالَ: وَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ. اهـ.