فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {جميعًا} حال من فاعل {اهْبِطُوا} أي: مجتمعين: إما في زمان واحدٍ، أو في أزمنة متفرقة؛ لأن المُرَاد الاشتراك في أصل الفعل، وهذا هو الفرق بين جاءوا جميعًا، وجاءوا معًا، فإن قوك: معًا يستلزم مجيئهم جميعًا في زمن واحد، لما دلّت عليه مع من الاصْطِحَاب بخلاف جميعًا فإنها لا تفيد إلا أنه لم يتخلّف أحد منهم عن المجيء من غير تعرُّض لاتحاد الزمان.
وجميع في الأَصْلِ من ألفاظ التَّوكيد، نحو: كل، وبعضهم عدها معها.
وقال ابن عطية: و{جميعًا} حال من الضمير في {اهبطوا} وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دالّ عليهما، كأنه قال: هبوطًا جميعًا أو هابطين جميعًا، كأنه يعني أن الحال في الحقيقة محذوف، وأن {جميعًا} تأكيد له، إلاَّ أن تقديره بالمصدر ينفي جعله حالًا إلا بتأويل لا حَاجَةَ إليه.
وقال بعضهم: التَّقْدِير: قلنا: اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعًا، فحذف الحال من الأول لدلالة الثَّني عليه، وحذف العامل من الثاني لدلالة الأول عليه، وهذا تكلّف لم تدع إليه الضرورة.
قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ} الفاء مرتبة معقبة.
وأما أصلها: أن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدًا، و{يأتينكم} في مَحَلّ جزم بالشَّرْط؛ لأنه بني لاتصاله بنون التوكيد.
وقيل: بل هو معرب مطلقًا.
وقيل: مبني مطلقًا.
والصّحيح: التفصيل: إن باشرته كهذه الآية بني، وإلا أعرب، نحو: هل يَقُومَانِ؟ وبني على الفَتْحِ طلبًا للخفّة، وقيل: بل بني على السُّكون، وحرك بالفتح لالتقاء السَّاكنين.
وذهل الزجاج والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد إن الشَّرطية المؤكِّدة بما يجب تأكيده بالنون، قالا: ولذلك لم يأت التَّنْزيل إلاّ عليه، وذهب سيبويه إلى أنَّه جائز لا واجب؛ لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكَّد، فكثرة مجيئه غير مؤكَّد يدلُّ على عدو الوجوب؛ فمن ذلك قوله: الطويل:
فَإِمَّا تَرَيْنِني كَابْنِةِ الرَّمْلِ ضَاحِيًا ** عَلَى رِقَّةٍ أخْفَىَ وَلاَ أَتَنَعَّلُ

وقولُ الآخر: البسيط:
يَا صَاحِ إمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ دِي جِدةٍ ** فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الخُلاَّنِ مِنْ شِيَمِي

وقول الآخر: المتقارب:
فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ ** فَإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا

وقول الآخر: الكامل:
زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنَّنِي إمَّا أَمُتْ ** يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خَلَّتِي

وقال المهدوي: أما هي إن التي للشرط زيدت عليها ما ليصحّ دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت ما لم تدخل النّون، وما تؤكّدا أول الكلام، والنون نؤكد آخره، وتبعه ابن عطية.
وقال بعضهم: هذا الذي ذهبا إليه من أن النّون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما هو مذهب المُبَرّد والزَّجَّاج، وليس في كلامهما ما يدلُّ على لزوم النون كما ترى، غاية ما فيه أنهما اشترطا في صحّة تأكيده بالنون زيادة ما على إن، أما كون التوكيد لازمًا، وغير لازم، فلم يتعرضا له، وقد جاء تأكيد الشرط بغير إن؛ كقوله: الكامل:
مَنْ يُثْقَفَنْ مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِآئِبِ ** أبَدًا وَقَتَلُ بَنِي قُتَيْبَةَ شَافِي

و{مني} متعلق بيأتين وهي لابتداء الغاية مجازًا، ويجوز أن تكون في محل حال من {هدى} لأنه في الأصل صفة نكرة قدم عليها، وهو نظير ما تقدم في قوله: {مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37].
و{هدى} فاعل، والفاء مع ما بعدها من قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} جواب الشرط الأول، والفاء في قوله: {فَلاَ خَوْفٌ} جواب الثَّاني.
وقد وقع الشَّرْط الثاني وجوابه جواب الأول، ونقل عن الكسائي أن قوله: {فَلاَ خَوْفٌ} جواب الشَّرطين معًا.
قال: ابن عطية بعد نقله عن الكِسَائي ذلك: هكذا حكي، وفيه نظر، ولا يتوجّه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخِلاَفُ في نحو قوله: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ} [الواقعة: 88، 89] فيقول سيبويه: جواب أحد الشرطين محذوف، لدلالة قوله: {فروح} عليه.
ويقول الكوفيون: {فروح} جواب الشرطين، وأما في هذه الآية، فالمعنى يمنع أن يكون {فلا خوف} جوابًا للشرطين.
وقيل: جواب الشرط الأوّل محذوف تقديره: فإمّا يأتينكم منّي هُدىً فاتبعوه وقوله: {فمن تبع} جملة مستقلة وهو بعيد أيضًا.
ومن يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولة، ودخلت الفاء في خبرها تشبيهًا لها بالشرط، ولا حاجة إلى هذا، فإن كانت شرطية كان {تبع} في محل جزم، وكذا {فلا خوف} لكونهما شرطًا وجزاء، وإن كانت موصولةً فلا مَحَلّ ل {تبع} وإذا قيل بأنها شرطية فهي مبتدأ أيضا، وفي خبرها خلاف مشهور.
والأصح أنه فعل الشرط، بدليل أنه يلزم عود ضمير من فعل الشرط اسم الشرط، ولا يلزم ذلك في الجواب، تقول: من يقم أكرم زيدًا، فليس في أكرم زيدًا ضمير يعود على من ولو كان خبرًا للوم فيه ضمير.
ولو قلي: من يقم زيدًا أكرمه وأنت تعيد الهاء على من لم يجز، لخلوّ فعل الشرط من الضمير.
وقيل: الخبر الجواب، ويلزم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائد على اسم الشرط، فلا يجوز عندهم: من يقم أكرم زيدًا ولكنه جائز، هذا ما أورده أبو البقاء.
وسيأتي تحقيق القول في لزوم عود الضَّمِيِر من الجواب إلى اسم الشَّرْط عند قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97].
وقيل: مجموع الشرط والجزاء هو الخبر، لأن الفائدة إنما تحصل بهما.
وقيل: ما كان فيه ضمير عائد على المبتدأ، فهو الخبر والمشهور {هُدَايَ} وقرئ: {هُدَيَّ} بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة هُذَيْل، يقولون في عَصَاي: عَصَيَّ، وقال شاعرهم: الكامل:
سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعنَقوا لِهَواهُمُ ** فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصرَعُ

كأنهم لما لم يصلوا إلى ما تستحقه ياء المتكلّم من كسر ما قبلها لكونه ألفًا أتوا بما يجانس الكسرة، فقلبوا الألف ياء.
نقل النحاس هذه العلّة عن الخليل وسيبويه وهذه لغة مطّردة عندهم إلاّ أن تكون الألف للتثنية، فإنهم يثبتونها: نحو: جاء مسلماي، وغلاماي.
قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قد تقدّم أنه يجوز أن يكون جوابًا للشرط، فيكون في محلّ جزم، وأن يكون خبرًا لمن إذا قيل بأنها موصولة، وهو أولى لمقابلته بالمَوْصُول في قوله: {والذين كَفَرواْ} [البقرة: 39]، فيكون في محل رفع، و{لا} يجوز أن تكون عاملة عمل ليس فيكون {خوف} اسمها، و{عليهم} في محلّ نصب خبرها، ويجوز أن تكون غير عاملة، فيكون {خوف} مبتدأ، و{عليهم} في محلّ رفع خبره، وهذا أولى مما قبله لوجهين:
أحدهما: أن عملها عمل ليس قليل، ولم يثبت إلاّ شيء محتمل، وهو قوله: الطويل:
وَحَلَّتْ سَوَادَ القَلْبِ لا أَنَا بَاغِيَا ** سِوَاهَا وَلاَ في حُبِّهَا مُتَرَاخِيَا

فأَنَا اسمها وبَاغِيَا خبرها.
قيل: ولا حجّة فيه؛ لأن بَاغِيَا حال عاملها محذوف هو الخَبَرُ في الحقيقة تقديره: وَلاَ أَنَا أَرَى بَاغِيًا، أو يكون التقدير: ولا أَرَى باغِيا، فلما حذف الفعل انفصل الضمير.
وقرئ: {فَلاَ خَوْفٌ} بالرفع من غير تنوين، والأحسن فيه أن تكون الإضافة مقدّرة، أي: خوف شيء.
وقيل: أنه على نِيَّةِ الألف واللام.
وقيل: حذف التنوين تخفيفًا، وقرأ الزهري، والحسن وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، ويعقوب: {فَلاَ خَوْفَ} مبنيًا على الفتح؛ لأنها {لا} التبرئة، وهي أبلغ في النَّفي، ولكن الناس رجَّحوا قراءة الرفع.
قال أبو البقاء: لوجهين:
أحدهما: أنه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلاَّ الرفع، وهو قوله: {ولا هم} لأنه معرفة، ولا لا تعمل في المَعَارِف، فالأولى أن يجعل المعطوف عليه كذلك لِتَتَشَاكل الجملتان، ثم نظره بقولهم: قام زيد وعمرًا كلّمته يعني في تَرْجيح النَّصْب في جملة الاشتغال للتشاكل.
ثم قال: والوجه الثاني: من جهة المعنى، وذلك أن البناء يدلّ على نفي الخوف عنهم بالكلية، وليس المراد ذلك، بل المراد نفيه عنهم في الآخرة.
فإن قيل: لم لا يكون وجه الرفع أن هذا الكلام مذكور في جزاء من اتبع الهُدَى، ولا يليق أن ينفى عنهم الخوف اليسير، ويتوهّم بثبوت الخوف الكثير.
قيل: الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير، تقديره: ولا خوف كثير عليهم، فيتوهّم ثبوت القليل، وهو عكس ما قدر في السُّؤال، فبان أن الوجه في الرفع ما ذكرنا.
قوله: {ولا هم يحزنون} تقدّم أنه جملة منفية، وأن الصَّحيح أنها غير عاملةٍ.
و{يحزنون} في محلّ رفع خبر للمبتدأ، وعلى ذلك القَوْل الضَّعيف يكون في محلّ نصب والخوف: الذُّعر والفَزَع، يقال: خاف يَخَاف خوفًا، فهو خائف، والأصل: خوف بوزن علم ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ} [الإسراء: 60] ولا يكون إلا في الأمر المستقبل.
والحُزْن: ضد السرور، وهو مأخوذ من الحَزْن، وهو ما غلظ من الأرض، فكأنه ما غلظ من الهَمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي، يقال: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْنًا وَحَزَنًا، ويتعدّى بالهمزة نحو: أَحْزَنْتُهُ، وحَزّنته بمعناه، فيكون فعّل وأَفْعَل بمعنى.
وقيل: أَحْزَنَهُ حَصَّل له حزنًا.
وقيل: الفتحة مُعَدِّية للفعل: نحو: شترَتْ عينه وشَتَرها الله، وهذا يدل علة قول من يرى أن الحركة تعدّي الفعل، وقد قرئ باللغتين: حَزَنَهُ وأَحْزنه، وسيأتي تحقيقهما إن شاء الله تعالى.
فَصْلٌ في لغات حزن:
قال ابن الخطيب: قال اليزيدي: حَزَنَه لغة قريش، وأَحْزَنَهُ لغة تميم، وَحَزِنَ الرجل- بالكسر- فهو حَزِنٌ وحَزِينٌ، وأُحْزِنَ فهو مَحْزُونٌ، واحتَزَنَ وتَحَزَّنَ بمعنى.
وهذه الجُمْلة مع اختصارها تجمع شيئًا كثيرًا من المعاني؛ لأن قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} دخل فيه الإنعام بجميع الأدلّة العقليّة، والشرعية الواردات للبيان، وجميع ما لا يتمّ ذلك إلاّ به من العقل، ووجوه التمكُّن، وجميع قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} تأمل الأدلّة بنصّها والنظر فيها، واستنتاج المعارف منها، والعمل بها وجميع قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جميع ما أعدَّ الله- تعالى- لأوليائه؛ لأن زوال الخوف يتضمّن السَّلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللَّذَّات والمرادات، وقدم على الخَوْف على عدم الحزن؛ لأن زوال ما لا ينبغي مقدّم على طَلَبِ ما ينبغي وهذا يدلّ على أن المكلّف الذي أطاع الله تَعَالَى لا يلحقه خوف في القَبْرِ، ولا عند البَعْثِ، ولا عند حضور المَوْقِف، ولا عند تَطَايُرِ الكُتب، ولا عند نَصْب الموازين، ولا عند الصراط كما قال: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] وقال قوم من المتكلّمين: إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكُفّار والفسّاق تصل إلى المؤمنين لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] فإذا انكشفت تلك الأهوال، وصاروا إلى الجنّة والرضوان صار ما تقدّم كأن لم يكن، بل ربما كان زائدًا في الالتذاذ بما يجده من النعيم، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] أخص من قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] والخاص مقدّم على العام.
فإن قيل: هذا يقتضي نَفْيَ الخَوْفِ والحُزْن مطلقًا في الدنيا والآخرة، وليس الأمر كذلك؛ لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ، ثم الأَوْلِيَاءِ ثُمّ الأَمْثَل فالأمْثَل».
وأيضًا فالمؤمن لا يمكنه القطع بأنه أتى بالعَبَادات كما ينبغي، فخوف التقصير حاصلٌ وأيضًا فخوف سوء العاقبة حاصل.
قلنا: قَرَائِنُ الكلام تدلّ على أنّ المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا، ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34]. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (39):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بشر المؤمنين الذين اتبعوا الهدى أتبعه إنذار الكافرين الذين نابذوه بقوله: {والذين كفروا} قال الحرالي: هذا من أسوأ الكفر لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز وجل علمًا على غيب عهده وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض وما بينهما كما قال تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة} [الشورى: 29] لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره وجعل في العقل نورًا يُقرأ به كتابه، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان، وإما صاحب نار، فقال: {وكذبوا بآياتنا} لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبّل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة، فكفروا بما رأوا فكانوا عميًا، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صُمًّا- انتهى.
والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب والألسنة {أولئك} أي البُعَداء البغضاء {أصحاب النار} وبين اختصاصهم بالخلود بقوله: {هم فيها خالدون} فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات الجنة، فالآية من الاحتباك، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في الثاني، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول، وقد علم من ذلك مع قوله: {مستقر ومتاع إلى حين} أنه لابد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف تكون منازلهم فيها! فكأنه جواب سائل قال: هل بعد هذا الهبوط من صعود؟ قال الحرالي: وقوله: {هم} فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس وغير ذلك من إحراق النار بواطنهم، وفيه إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون «الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله.
فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا في الدنيا بحقيقتها، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا وإن لم يشهدوا عيانها، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيبًا وفي الآخرة عيانًا وفي القبر عرضًا {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 6، 7] {النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا} [غافر: 46] وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس أهل الدعوة المحمدية صلى الله عليه وسلم: «الناس كلهم تبع لقريش، مؤمنهم لمؤمنهم، وكافرهم لكافرهم». انتهى.
يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول، وهو شامل لغيرهم، ومراد به ذلك الغير بالقصد الثاني، وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد من حيث إنها حادثة فلها محدث، وعلى النبوة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقًا لما في التوراة والإنجيل من غير تعلم، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء قدر على إعادتها- ذكره الأصفهاني عن الإمام.
وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي من أقبل على حرف منها حق الإقبال كفاه، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط مثال القراءة لحروفه السبعة وعلمها والعمل بها: اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نورًا من نوره، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقًا، ولأنه نفخ فيه من روحه كان أكمل حياة قبضًا وبسطًا، ولأنه رزقه نورًا من نوره كان أصفى عقلًا وأخلص لبًا وأفصح نطقًا وأعرب بيانًا جمعًا وفصلًا، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكًا وحسًا، وعقّله ما أقام من أمره فهمًا وعلمًا، ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفانًا ووجدًا؛ ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعًا وأنسًا فأناسه وردده من بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيهًا، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفًا.
{الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} [الكهف: 101] {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا} [النحل: 120].
ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظرًا واعتبارًا اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى إليه أيام الله، وذكروهم بما مضى من أيام الله، وأنزل الله سبحانه معهم كتبًا يتلونها عليهم ويبينونها لهم علمًا وعملًا وحالًا، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد في شَياخهم، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره المدعو لفظًا وعلمًا والمولد الغافل علمًا وعملًا، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار، وإنما جعله أمامه من قرأه علمًا وحالًا وعملًا، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذابًا في النار- أكثر منافقي أمتي قراؤها، {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فإذًا لابد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين، وإجماع على الاهتمام، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه.
{وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء} [الأعراف: 145] فخذها بقوة {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 13] {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112] فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره؛ ولكل حرف شرط يخصه- انتهى. اهـ.