فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله}
لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، ذكر حال من له عذر في تركه.
والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤولة، بحيث لا يمكنه الجهاد.
والمريض من عرض له المرض، أو كان زمِنًا ويدخل فيه العمى والعرج.
والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء.
قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلًا عليهم، كان له في ذلك ثواب جزيل.
فقد كان عمرو بنِ الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار، وهو في أول الجيش، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد عذرك» فقال: والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة.
وكان ابن أم مكتوم أعمى، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى، فضربت فأمسكه بصدره.
وقرأ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سرًا وجهرًا خالصة لله من الغش، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين، داعية لهم بالنصر والتمكين.
ففي سنن أبي داود «لقد تركتم بعدكم قومًا ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلا هم معكم فيه» قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: «حبسهم العذر» وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي: من لائمة تناط بهم أو عقوبة.
ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم، وقيل: المحسنين هنا المعذورون الناصحون، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس.
وإن المحسن هو المسلم، لانتفاء جميع السبيل، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة.
وقال الكرماني: المحسنين هم الذين أطاعوا الله ورسوله في أقوالهم وأفعالهم، ثم أكد الرجاء فقال: والله غفور رحيم، وقراءة ابن عباس: والله لأهل الإساءة غفور رحيم على سبيل التفسير، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
قيل: وقوله: {ما على المحسنين من سبيل}، فيه نوع من أنواع البديع يسمى: التمليح، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثلٍ سائر، أو شعرٍ نادر، أو قصةٍ مشهورة، أو ما يجري مجرى المثل.
ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه، وهو يشرب الخمر:
اليوم خمر ويبدو في غد خبر ** والدهر من بين إنعام وإيئاس

اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} كالهرمى والزَّمْنى {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} لفقرهم كمُزَينةَ وجُهينة وبني عذرة {حَرَجٌ} إثمٌ في التخلف {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وهو عبارةٌ عن الإيمان بهما والطاعةِ لهما في السر والعلنِ وتولِّيهما في السراء والضراءِ والحبِّ فيهما والبغضِ فيهما كما يفعل المَوْلى الناصحُ بصاحبه {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق أي ليس عليهم جناحٌ ولا إلى معاتبتهم سبيلٌ، ومن مزيدةٌ للتأكيد، ووضْعُ المحسنين موضِعَ الضمير للدِلالة على انتظامهم بنُصحهم لله ورسولِه في سلك المحسنين، أو تعليلٌ لنفي الحرجِ عنهم، أي ما على جنس المحسنين من سبيل وهم من جملتهم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مؤيدٌ لمضمون ما ذُكر مشيرٌ إلى أن بهم حاجةً إلى المغفرة وإن كان تخلُّفهم بعذر. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال: ضعوف وضعفان وجاء في الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي {وَلاَ على المرضى} جمع مريض ويجمع أيضًا على مراض ومراضي وهو من عراه سقم واضطراب طبيعة سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أولا كالزمانة وعدوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان في المرضى وان أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء، ويدل لدخول الأعمى في أحد المتعاطفين ما أخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الافراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاءه أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى}.
{وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي الفقراء العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة وجهينة وبنو عذرة {حَرَجٌ} أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه {إِذَا نَصَحُواْ الله وَرَسُولُهُ} بالإيمان والطاعة ظاهرًا وباطنًا كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحته ونصحت له، وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها، والعامل في الظرف على ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ.
{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} أي ما عليهم سبيل فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ووضع الظاهر موضع ضميرهم اعتناء بشأنهم ووصفًا لهم بهذا العنوان الجليل، وزيدت {مِنْ} للتأكيد، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل، ويحتمل أن يكون تعليلًا لنفي الحرج عنهم و{المحسنين} على عمومه أي ليس عليهم حرج لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم، قال ابن الفرس: ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييل مؤيد لمضمون ما ذكرو فيه إشارة إلى أن كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال: إنه نفى عنهم الإثم أولا فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء. اهـ.

.قال القاسمي:

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} وهم العاجزون مع الصحة، عن العدو، وتحمل المشاق، كالشيخ والصبي، والمرأة والنحيف {وَلا عَلَى الْمَرْضَى} أي: العاجزين بأمر عرض لهم، كالعمى والعرج والزمانة {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} أي: ولا على الأقوياء والأصحاء الفقراء، والعاجزين عن الإنفاق في السفر والسلاح، {حَرَجٌ} أي: إثم في القعود، والحرج أصل معناه الضيق، ثم استعمل للذنب، وهو المراد: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: أخلصوا الإيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا، ولم يثيروا الفتن وأوصلوا الخيرات للجاهدين، وقاموا بصالح بيوتهم.
وقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} استئناف مقرر لمضمون ما سبق، أي: ليس عليهم جناح، ولا إلى معاتبتهم سبيل، ومِنْ مزيدة للتأكيد، ووضع {الْمُحْسِنِينَ} موضع الضمير، للدلالة على انتظامهم، بنصحهم لله ورسوله، في سلك المحسنين، أو تعليل لنفي الحرج عنهم، أي: ما على جنس المحسنين من سبيل، وهم من جملتهم أفاده أبو السعود.
قال الشهاب: ليس على محسن سبيل، كلام جارٍ مجرى المثل، وهو إما عامّ، ويدخل فيه من ذكر، أو مخصوص بهؤلاء، فالإحسان: النصح لله والرسول، والإثم المنفي إثم التخلف، فيكون تأكيدًا لما قبله بعينه على أبلغ وجه، وألطف سبك، وهو من بليغ الكلام، لأن معناه لا سبيل لعاتب عليه، أي: لا يمرّ به العاتب، ويجوز في أرضه، فما أبعد العتاب عنه! فتفطن للبلاغة القرآنية كما قيل:
سُقْيًا لأيامنَا الَّتي سَلَفَتْ ** إِذ لا يَمُرُّ العذُولُ في بَلَدِي

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر، مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة، وإن كان تخلفهم بعذر- أفاده أبو السعود-.
أي: لأن المرء لا يخلو من تفريط ما، فلا يقال إنه نفى عنهم الإثم أولًا، فما الإحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب؟ أفاده الشهاب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} استئناف بياني لجواب سؤال مقدّر ينشأ عن تهويل القعود عن الغزو وما توجّه إلى المخلّفين من الوعيد.
استيفاءً لأقسام المخلّفين من ملوم ومعذور من الأعراب أو من غيرهم.
وإعادة حرف النفي في عطف الضعفاء والمرضى لتوكيد نفي المؤاخذة عن كلّ فريق بخصوصه.
والضعفاء: جمع ضعيف وهو الذي به الضعف وهو وهن القوة البدنية من غير مرض.
والمرضَى: جمع مريض وهو الذي به مرض.
والمرض تغيّر النظام المعتاد بالبدن بسبب اختلال يطرأ في بعض أجزاء المزاج، ومن المرض المزمنُ كالعمى والزمانة وتقدم في قوله: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} في سورة النساء (43).
والحرج: الضِيق ويراد به ضيق التكليف، أي النهي.
والنصح: العمل النافع للمنصوح وقد تقدّم عند قوله تعالى: {لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} في سورة الأعراف (79) وتقدّم وجه تعديته باللام وأطلق هنا على الإيمان والسعي في مرضاة الله ورسوله والامتثال والسعي لما ينفع المسلمين، فإنّ ذلك يشبه فعل الموالي الناصح لمنصوحه.
وجملة: {ما على المحسنين من سبيل} واقعة موقع التعليل لنفي الحرج عنهم وهذه الجملة نُظِمت نَظْم الأمثال.
فقوله: {ما على المحسنين من سبيل} دليل على علّة محذوفة.
والمعنى ليس على الضعفاء ولا على من عُطف عليهم حرج إذا نصحوا لله ورسوله لأنّهم محسنون غير مسيئين وما على المحسنين من سبيل، أي مؤاخذة أو معاقبة والمحسنون الذين فَعلوا الإحسان وهو ما فيه النفع التامّ.
والسبيل: أصله الطريق ويطلق على وسائل وأسباب المؤاخذة باللوم والعقاب لأنّ تلك الوسائل تشبه الطريق الذي يصل منه طالب الحقّ إلى مكان المحقوق، ولمراعاة هذا الإطلاق جُعل حرف الاستعلاء في الخبر عن السبيل دون حرف الغاية.
ونظيره قوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا} [النساء: 34] وقوله: {فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا} كلاهما في سورة النساء (90).
فدخل في المحسنين هؤلاء الذين نصحوا لله ورسوله.
وليس ذلك من وضع المظهر موضع المضمر لأنّ هذا مرمَى آخر هو أسمى وأبعد غاية.
و{مِنْ} مؤكّدة لشمول النفي لكلّ سبيل.
وجملة {والله غفور رحيم} تذييل والواو اعتراضية، أي شديد المغفرة ومن مغفرته أن لم يؤاخذ أهل الأعذار بالقعود عن الجهاد.
شديد الرحمة بالناس ومن رحمته أن لم يكلّف أهل الأعذار ما يَشق عليهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}
ونحن نعلم أن الضعيف هو من لا يقدر على العمل، لا بسبب المرض، بل لكبر سنه، أو هو صغير السن لا يقدر على الحرب، وكذلك يعفي الحق المرضى من القتال؛ وهم من أصيبوا بعاهة طارئة تجعلهم غير قادرين على القتال. وكذلك أعفى الله الذين لا يجدون ما ينفقون؛ لأنهم من شدة فقرهم لا يستطيعون شراء دابة تحملهم أو معدات قتال يقاتلون بها.
والنفقة- كما نعلم- هي أن تقدر أن تعول نفسك في الذهاب والإقامة مدة الحرب والعودة. وكان على كل مجاهد أن يُعِدَّ مطلوبات الحرب. فالله سبحانه قد رفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقونه، وجعل لهم وظيفة أخرى تخدم الجهاد، فقال سبحانه وتعالى: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: ينصحون ويشجعون أولئك القادرين على الجهاد؛ ليُحَمِّسوهم على القتال، ثم يكونون في عون أهل المجاهدين، ويواجهون الإشاعات والأكاذيب التي يطلقها المنافقون في المدينة؛ للنيل من الروح المعنوية للمسلمين فيردون عليها ليُخْرِسوا ألسنة السوء.
ثم يقول الحق: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والسبيل: هو الطريق، ومعناها: ما عليهم من إثم أو لوم أو توبيخ أو تعنيف. وكل هذا لا يجد سبيلًا على المحسنين، ولم يقل الحق: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ}؛ لأن السبيل يمر عليهم ولا ينتهي إليهم بلوم؛ لأن هناك فارقًا بين أن يمر عليهم وأن ينتهي إليهم، فالمرور أمر عادي، وليس هو الغاية؛ لذلك يوضح الحق أنه لا يوجد سبيل إليهم ولا إلى عتابهم؛ لأنهم أدوا كل ما تطلّبه الجهاد منهم، ولكنهم لم يذهبوا إلى ميدان القتال؛ لأسباب خارجة عن إراداتهم، وفعلوا كل ما يتطلّبه الإيمان.
أما إذا كان المجاهد لديه ما ينفقه، ولكنه لا يملك راحلة يركبها، فعليه أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه راحلة، فإذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فهذا إذن بالقعود. اهـ.