فصل: (سورة التوبة: الآيات 91- 92)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة التوبة: الآيات 91- 92]

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92)}
{الضُّعَفاءِ} الهرمى والزمنى. والذين لا يجدون: الفقراء. وقيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. والنصح للّه ورسوله: الإيمان بهما، وطاعتهما في السر والعلن، وتوليهما، والحب والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} على المعذورين الناصحين، ومعنى: لا سبيل عليهم: لا جناح عليهم. ولا طريق للعاتب عليهم {قُلْتَ لا أَجِدُ} حال من الكاف في {أَتَوْكَ} وقد قبله مضمرة، كما قيل في قوله: {أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي إذا ما أتوك قائلا لا أجد: {تَوَلَّوْا} ولقد حصر اللّه المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها. وقيل: المستحملون أبو موسى الأشعرى وأصحابه. وقيل البكاءون، وهم ستة نفر من الأنصار {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} كقولك. تفيض دمعًا، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و{من} للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز {أَلَّا يَجِدُوا} لئلا يجدوا. ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو حزنًا. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
وفي مقابل المنافقين والكفار، يقف المؤمنون الصادقون. طبيعة غير الطبيعة، وسلوكًا غير السلوك، ومصيرًا غير المصير: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعيون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}.
إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة.. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. أن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض. فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف. وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك. والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء..
{المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}.
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}.
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة. طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر.
{يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}. وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون. ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفًا واحدًا. لا تدخل بينها عوامل الفرقة. وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولابد عنصر غريب عن طبيعتها، وعن عقيدتها، هو الذي يدخل بالفرقة. ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها. السمة التي يقررها العليم الخبير!
{بعضهم أولياء بعض}. يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض.
{ويقيمون الصلاة}.
الصلة التي تربطهم بالله.
{ويؤتون الزكاة}.
الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن.
{ويطيعون الله ورسوله}.
فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله. ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله.. وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم.
{أولئك سيرحمهم الله}.
والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولًا ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة الله في اطمئنان القلب، وفي الاتصال بالله، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث. ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله.
إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لتقابل من صفات المنافقين: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي.
وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار.. وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية:
{إن الله عزيز حكيم}.
قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف، حكيم في تقدير النصر والعزة لها، لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة الله بين العباد.
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين، وكانت لعنته لهم بالمرصاد، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان. فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين:
{جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن}.
للإقامة المطمئنة. ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم:
{ورضوان من الله أكبر}.
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم.
{ورضوان من الله أكبر}.
إن لحظة اتصال بالله. لحظة شهود لجلاله. لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة. لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار. لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع، وكل رجاء.. فكيف برضوان من الله يغمر هذا الأرواح، وتستشعره بدون انقطاع؟
{ذلك هو الفوز العظيم}.
وبعد بيان صفة المؤمنين الصادقين وصفة المنافقين الذين يدّعون الإيمان.. يأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار والمنافقين. ويقرر القرآن الكريم أن هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بأمر خيبهم الله فيه، وهو من وحي الكفر الذي صاروا إليه. ويعجب من نقمتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان لهم من بعثته إلا الخير والغنى. ويرغبهم في التوبة ويخوفهم التمادي في الكفر والنفاق:
{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرًا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير}.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم لاين المنافقين كثيرًا، وأغضى عنهم كثيرًا، وصفح عنهم كثيرًا. فها هو ذا يبلغ الحلم غايته، وتبلغ السماحة أجلها، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة، ويلحقهم بالكافرين في النص، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهادًا عنيفًا غليظًا لا رحمة فيه ولا هوادة.
إن للين مواضعه وللشدة مواضعها. فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة؛ وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع.. وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله، واللين في بعض الأحيان قد يؤذي، والمطاولة قد تضر.
وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين. أتكون بالسيف كما روي عن علي- كرم الله وجهه- واختاره ابن جرير- رحمه الله- أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه والذي وقع- كما سيجيء- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين..
{يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا}.
والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم، ويشير إلى ما أرادوه مرارًا من الشر للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.. وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية:
قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي. وذلك أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصاري: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. وقال: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا تحت ظل شجرة، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعين الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله عز وجل: {يحلفون بالله ما قالوا... الآية}.
وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه: أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقًا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها. فقال عمير: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم على أن يصله شيء يكره، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى. فأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكرها وحلف بالله ما قالها، فأنزل الله الآيات. فقال الرجل قد قلته، وقد عرض الله عليّ التوبة، فأنا أتوب، فقبل منه ذلك.
ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة: {وهموا بما لم ينالوا} وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة، من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيلة وهو عائد من تبوك. فنختار إحداها.
قال الإمام أحمد- رحمه الله- حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديًا فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عمارًا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة «قد. قد» حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع عمار. فقال يا عمار: «هل عرفت القوم؟» فقال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون.