فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى: أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو، فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك.
قيل: وجملة {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} في محل نصب على الحال من الكاف في {أتوك} بإضمار قد: أي إذا ما أتوك قائلًا لا أجد.
وقيل: هي بدل من أتوك.
وقيل: جملة معترضة بين الشرط والجزاء، والأوّل: أولى.
وقوله: {تَوَلَّوْاْ} جواب {إذا}، وجملة: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} في محل نصب على الحال: أي تولوا عنك لما قلت لهم: لا أجد ما أحملكم عليه، حال كونهم باكين، و{حَزَنًا} منصوب على المصدرية، أو على العلية، أو الحالية، و{أَن لا يَجِدُواْ} مفعول له، وناصبه {حَزَنًا} وقال الفراء: إن {لا} بمعنى ليس، أي حزنًا أن ليس يجدوا.
وقيل المعنى: حزنًا على أن لا يجدوا.
وقيل المعنى: حزنًا أنهم لا يجدون ما ينفقون، لا عند أنفسهم ولا عندك.
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال: {إِنَّمَا السبيل} أي: طريق العقوبة والمؤاخذة {عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَك} في التخلف عن الغزو، والحال أنهم {أَغْنِيَاء} أي: يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به، وجملة: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} مستأنفة كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء.
وقد تقدّم تفسير الخوالف قريبًا.
وجملة: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} معطوفة على {رَضُواْ} أي: سبب الاستئذان مع الغنى أمران: أحدهما: الرضا بالصفقة الخاسرة، وهي أن يكونوا مع الخوالف، والثاني: الطبع من الله على قلوبهم {فَهُمُ} بسبب هذا الطبع {لاَّ يَعْلَمُونَ} ما فيه الربح لهم، حتى يختاروه على ما فيه الخسر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والدارقطني في الإفراد، وابن مردويه، عن زيد ابن ثابت، قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت براءة، فكنت أكتب ما أنزل عليه، فإني لواضع القلم عن أذني إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، قال: أنزلت هذه الآية في عابد بن عمر المزني.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: نزل من عند قوله: {عَفَا الله عَنكَ} إلى قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} في المنافقين.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال: ما على هؤلاء من سبيل بأنهم نصحوا لله ورسوله ولم يطيقوا الجهاد، فعذرهم الله وجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين، ألم تسمع أن الله يقول: {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [النساء: 95].
فجعل الله للذين عذر من الضعفاء، وأولي الضرر، والذين لا يجدون ما ينفقون من الأجر مثل ما جعل للمجاهدين.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال: والله لأهل الإساءة {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ} الآية، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء وعزيز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملًا، فأنزل الله عذرهم {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ} الآية.
وأخرج ابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن عبد الله بن مغفل، قال: إني لا أجد ارهط الذين ذكر الله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير، عن محمد بن كعب، قال: هم سبعة نفر من بني: عمر بن عوف سالم بن عمير، ومن بني: واقف حرميّ بن عمرو، ومن بني: مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى، ومن بني: المعلى سلمان بن صخر، ومن بني: حارثة عبد الرحمن بن زيد أبو عبلة، ومن بني: سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني.
وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة.
واختلفوا في البعض، ولا يأتي التطويل في ذلك بكثير فائدة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم؛ أن رجالًا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، ثم ذكروا أسماءهم، وفيه، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة.
قال: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن الحسن، قال: كان معقل بن يسار من البكائين الذين قال الله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس بن مالك، في قوله: {لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} قال: الماء والزاد.
وأخرج ابن المنذر، عن عليّ بن صالح، قال: حدّثني مشيخة من جهينة، قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان، فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن إبراهيم بن أدهم، عمن حدّثه في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} قال: ما سألوه الدوابّ ما سألوه إلا النعال.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن بن صالح، في الآية قال: استحملوه النعال.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} قال: هي وما بعدها إلى قوله: {إِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} في المنافقين. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

قَوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}
{الْمُعَذِّرُونَ} بِالتَّشْدِيدِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ التَّعْذِيرِ كَالْمُقَصِّرُونَ مِنَ التَّقْصِيرِ. هَكَذَا قَرَأَ الْكَلِمَةَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِعْذَارِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، وَكَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 66 مَعْنَى الْعُذْرِ وَالِاعْتِذَارِ. وَالْإِعْذَارُ إِبْدَاءُ الْعُذْرِ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ وَأُعْذِرَ: ثَبَتَ لَهُ عُذْرٌ- وَقَصَّرَ وَلَمْ يُبَالِغْ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مُبَالِغٌ، كَأَنَّهُ ضِدٌّ- وَكَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَعُيُوبُهُ، وَلَهُ مَعَانٍ أُخْرَى كَمَا فِي الْقَامُوسِ (قَالَ) وَقوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} بِتَشْدِيدِ الذَّالِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ: الْمُعْتَذِرُونَ الَّذِينَ لَهُمْ عُذْرٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُعَذِّرُ غَيْرَ مُحِقٍّ، فَالْمَعْنَى: الْمُقَصِّرُونَ بِغَيْرِ عُذْرٍ. اهـ.
وَزَادَ شَارِحُهُ، وَمَعْنَى الْمُعَذِّرُونَ الَّذِينَ يَعْتَذِرُونَ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهُوَ هَاهُنَا شَبِيهٌ بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ، وَيَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُعِذِّرُونَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. الَّذِينَ يُعَذِّرُونَ: يُوهِمُونَ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا وَلَا عُذْرَ لَهُمْ.
قال أَبُو بَكْرٍ: فَفِي الْمُعَذِّرِينَ وَجْهَانِ: إِذَا كَانَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ عَذِرَ الرَّجُلِ فَهُوَ مُعَذِّرٌ فَهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُعَذِّرُونَ أَصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ فَأُلْقِيَتْ فَتْحَةُ التَّاءِ عَلَى الْعَيْنِ، وَأُبْدِلَ مِنْهَا ذَالٌ وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ الَّتِي بَعْدَهَا فَلَهُمْ عُذْرٌ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَعْنَاهُ الْمُعْتَذِرُونَ. يُقَالُ: عَذَرَ عِذَارًا فِي مَعْنَى اعْتَذَرَ، وَيَجُوزُ عَذَرَ الرَّجُلِ يَعْذِرُ عُذْرًا فَهُوَ مُعَذَّرٌ.
قال وَمِثْلُهُ: هَدَى يَهْدِي هُدَاءً إِذَا اهْتَدَى.
قال اللهُ: {أَمَّنْ لَا يَهِدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (10: 35) اهـ.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَادَّةِ وَالْمُرَادِ مِنْهَا فِي الْآيَةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِي الصِّيغَتَيْنِ بَيَانُ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ فِي أَعْذَارِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عُذْرٌ صَحِيحٌ هُوَ مُوقِنٌ بِهِ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ صُورِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ وَهُوَ يُوهِمُ أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخَادِعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ عُذْرٌ ضَعِيفٌ هُوَ فِي شَكٍّ مِنْهُ إِنْ نُوقِشَ فِيهِ عَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي انْتِحَالِهِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْعَجِيبِ بِالْإِتْيَانِ بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَقْسَامَ كُلَّهَا، مُبْهَمَةً إِلَّا عِنْدَ أَهْلِهَا لِلْحِكْمَةِ الْآتِيَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِبْهَامِهَا.
وَالْمَعْنَى: وَجَاءَ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ امْتِثَالًا لِلنَّفِيرِ الْعَامِّ، مِنْ أُولِي التَّعْذِيرِ وَالْإِعْذَارِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ جَاءُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ: إِنْ نَحْنُ غَزَوْنَا مَعَكَ تُغِيرُ أَعْرَابُ طَيِّئٍ عَلَى حَلَائِلِنَا وَأَوْلَادِنَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ أَنْبَأَنِي اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيُغْنِي اللهُ عَنْكُمْ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قَوْمٌ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقُولُ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ عُذْرَهُمْ حَقٌّ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، كَمُقَابِلِهِ الَّذِي يُذْكَرُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو.
{وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ: وَقَعَدَ عَنِ الْقِتَالِ وَعَنِ الْمَجِيءِ لِلِاعْتِذَارِ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ، أَيْ: أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ بِهِمَا كَذِبًا وَإِيهَامًا، يُقَالُ- كَمَا فِي الْأَسَاسِ- كَذَبَتْهُ نَفْسُهُ إِذَا حَدَّثَتْهُ بِالْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا، وَكَذَبَتْهُ عَيْنُهُ إِذَا أَرَتْهُ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
قال الْأَخْطَلُ:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ** غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا

وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ الْأَقْحَاحُ.
قال أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ مُسِيئًا: قَوْمٌ تُكَلَّفُوا عُذْرًا بِالْبَاطِلِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} وَقَوْمٌ تَخَلَّفُوا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَعَدُوا جَرْأَةً عَلَى اللهِ تَعَالَى وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَأَوْعَدَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ يَعُودُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَامًّا فِي الْمُكَذِّبِينَ، وَخَاصًّا بِبَعْضِ الْمُعَذِّرِينَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قوله تعالى: {مِنْهُمْ} أَيِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ وَقَعَدَ بَعْضٌ، فَإِنَّ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ كُلُّهُمْ كَفَّارٌ، وَأَمَّا الْمُعْتَذِرُونَ فَمِنْهُمُ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ وَالْكَاذِبُ فِيهِ لِمَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، أَوْ لِتَكْذِيبِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ فَيُحَاسِبُهَا إِذَا وَجَدَ الْوَعِيدَ مَوْضِعًا لِلْعِبْرَةِ مِنْهَا، وَلَوْ جَعَلَ التَّبْعِيضَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ لَظَلَّ الْقَاعِدُونَ الْكَاذِبُونَ بِغَيْرِ وَعِيدٍ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ شَرِّهِمْ، فَلَا يَصِحُّ التَّبْعِيضُ فِيهِمْ وَحْدَهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَى التَّحْقِيقُ أَنْ يُوَجَّهَ الْوَعِيدُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ لَا لِاعْتِذَارِهِمْ، وَإِلَى الَّذِينَ قَعَدُوا لِكُفْرِهِمْ لَا لِقُعُودِهِمْ، بَلْ لِلْكَذِبِ الَّذِي كَانَ سَبَبَهُ وَهُوَ عَيْنُ الْكَفْرِ، وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْقُعُودِ مَا يَكُونُ بِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَهُمْ أُولُو الضَّرَرِ فِي قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} (4: 95) إِلَخْ. فَالْإِبْهَامُ لِمُسْتَحَقِّي هَذَا الْوَعِيدِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا إِعْجَازُهُ الْبَيَانِيُّ، وَهَذَا الْعَذَابُ الْأَلِيمُ يُرَادُ بِهِ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ جَمِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْآيَةِ (74).
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُوكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءٌ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْأَعْذَارَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَقْبُولَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ رَسُولِهِ بِالتَّفْصِيلِ فَعُلِمَ مِنْهُ بُطْلَانُ مَا عَدَاهَا، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ شَرُّ مَا عَدَاهَا وَهُوَ اسْتِئْذَانُ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} الضُّعَفَاءُ: جَمْعُ ضَعِيفٍ وَهُوَ ضِدُّ الْقَوِيِّ، أَيْ: مَنْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ فِي أَبْدَانِهِمْ تُمَكِّنُهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَزَةَ، وَقِيلَ: هُمُ الصِّبْيَانُ، وَقِيلَ: النِّسْوَانُ. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ. وَالزَّمْنَى بِوَزْنِ الْمَرْضَى وَبِالتَّحْرِيكِ جَمْعُ زَمِينٍ كَمَرِيضٍ- وَيُقَالُ: زَمِنٌ (كَكَتِفٍ) وَزَمِنُونَ؛ وَهُمْ مَنْ أَصَابَتْهُمُ الزَّمَانَةُ وَهِيَ الْعَاهَةُ الَّتِي لَا تَزَالُ بَلْ تَبْقَى عَلَى الزَّمَانِ. وَمِنْهَا الْكُسَاحُ (بِالضَّمِّ) وَالْعَمَى وَالْعَرَجُ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُمْ دَائِمٌ لَا يَزُولُ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى جَمْعُ مَرِيضٍ، وَهُمُ الَّذِينَ عَرَضَتْ لَهُمْ أَمْرَاضٌ لَا يَتَمَكَّنُونَ مَعَهَا مِنَ الْجِهَادِ كَالْحُمَّيَاتِ، وَعُذْرُهُمْ يَنْتَهِي بِالشِّفَاءِ مِنْهَا {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} وَهُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَالًا يُنْفِقُونَ مِنْهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا خَرَجُوا لِلْجِهَادِ وَيَتْرُكُونَ لِعِيَالِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُجَهِّزُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ، فَالْفَقِيرُ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَالْغَنِيُّ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ سِعَتَهُ كَمَا فَعَلُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَيْتُ مَالٍ غَنِيٍّ يُنْفَقُ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْغُزَاةِ وَهَذَا الْعُذْرُ خَاصٌّ بِالْمَالِ، وَيَزُولُ إِذَا كَانَ لِلْأُمَّةِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ، أَيْ لَيْسَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ {حَرَجٌ} أَيْ ضِيقٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ يُعَدُّونَ بِهِ مُذْنِبِينَ، وَلَا إِثْمَ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فِي حَالِ قُعُودِهِمْ لِعَجْزِهِمْ، أَيْ: إِذَا أَخْلَصُوا لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ وَلِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّاعَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَلَاسِيَّمَا الَّذِي تَقْتَضِيهِ حَالَةُ الْحَرْبِ فَالنَّصِيحَةُ وَالنُّصْحُ (بِالضَّمِّ) تَحَرِّي مَا يَصْلُحُ بِهِ الشَّيْءُ، وَيَكُونُ خَالِيًا مِنَ الْغِشِّ وَالْخَلَلِ وَالْفَسَادِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَصَحَ الْعَسَلَ وَنُصِحَ إِذَا كَانَ مُصَفًّى خَالِصًا وَنَصَحَ الْخَيَّاطُ الثَّوْبَ إِذَا أَنْعَمَ خِيَاطَتَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ فَتْقًا وَلَا خَلَلًا ذَكَرَهُ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ وَقَالَ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالنُّصْحِ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي جَعْلِ الْمَعَانِي الْحِسِّيَّةِ مِنَ الْمَجَازِ، وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَنَحْنُ نَرَى عَكْسَ هَذَا- أَعْنِي أَنَّ نُصْحَ الْعَسَلِ وَالْخَيَّاطِ حَقِيقَةٌ، وَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ وَالطَّاعَةِ هُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ، وَالْأَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ مَجَازًا، إِلَّا أَنْ يَكْثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فَيُعَدُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ. وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ مِنَ النُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كُلُّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْأُمَّةِ، وَلَاسِيَّمَا الْمُجَاهِدِينَ مِنْهَا، مِنْ كِتْمَانِ سَرٍّ، وَحَثٍّ عَلَى بِرٍّ، وَمُقَاوَمَةِ خِيَانَةِ الْخَائِنِينَ فِي سِرٍّ وَجَهْرٍ، فَالنُّصْحُ الْعَامُّ رُكْنٌ مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، بِهِ عَزَّ السَّلَفُ وَبَزُّوا، وَبِتَرْكِهِ ذَلَّ الْخَلْفُ وَابْتَزُّوا.