فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}.
قال ابن عطية: أفاد قوله: {كذّبوا} أن المراد بالكفر الشرك فيخرج كفر النّعم والمعاصي.
قال ابن عرفة: وفي الآية عندي حذف التقابل والمعنى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَأوُلئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَلاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي لا حزن عليهم وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وعليهم الخوف وهم يحزنون. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.
بَعْدَمَا عَرَّفَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِمَكَانَةِ آدَمَ وَوَجْهِ جَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أَمَرَهُمْ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّجُودِ فَقَالَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وَهُوَ سُجُودٌ لَا نَعْرِفُ صِفَتَهُ، وَلَكِنَّ أُصُولَ الدِّينِ تُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَيْسَ سُجُودَ عِبَادَةٍ إِذْ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى وَالسُّجُودُ فِي اللُّغَةِ: التَّطَامُنُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ، وَأَعْظَمُ مَظَاهِرِهِ الْخُرُورُ نَحْوَ الْأَرْضِ لِلْأَذْقَانِ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى التُّرَابِ، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ مِنْ تَحِيَّةِ النَّاسِ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَمِنْهُ سُجُودُ يَعْقُوبَ وَأَوْلَادِهِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَالسُّجُودُ لِلَّهِ تَعَالَى قِسْمَانِ: سُجُودُ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ لَهُ تَعَبُّدًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَسُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا لِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فِيهَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [13: 15] الآية، وَقَالَ: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [55: 6] وَفِي مَعْنَاهِمَا آيَاتٌ: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [7: 11، 20: 116] أَيْ سَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقِصَّةِ إِلَّا آيَةَ الْكَهْفِ فَإِنَّهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [18: 50] وَلَيْسَ عِنْدَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ فَصْلًا جَوْهَرِيًّا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ أَصْنَافٍ عِنْدَمَا تَخْتَلِفُ أَوْصَافٌ، كَمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ. فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجِنَّ صِنْفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْجِنَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [37: 158] وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّاسِ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ حَقَائِقَهَا وَلَا نَبْحَثُ عَنْهَا وَلَا نَقُولُ بِنِسْبَةِ شَيْءٍ إِلَيْهَا مَا لَمْ يَرِدْ لَنَا فِيهِ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَنِ الْمَعْصُومِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَفَ اللهُ تَعَالَى إِبْلِيسَ بِأَنَّهُ {أَبَى} السُّجُودَ وَالِانْقِيَادَ {وَاسْتَكْبَرَ}.
فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْحَقِّ تَرَفُّعًا عَنْهُ، وَزَعْمًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ عُنْصُرًا، وَأَزْكَى جَوْهَرًا، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلْقَتَهُ مِنْ طِينٍ} [7: 12] وَالِاسْتِكْبَارُ بِمَعْنَى التَّكَبُّرِ وَهُوَ الظُّهُورُ بِصِفَةِ الْكِبْرِيَاءِ الَّتِي مِنْ آثَارِهَا التَّرَفُّعُ عَنِ الْحَقِّ، كَأَنَّ السِّينَ وَالتَّاءَ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْكِبْرَ لَيْسَ مِنْ طَبِيعَةِ إِبْلِيسَ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، ثُمَّ قَالَ تعالى بَعْدَ وَصْفِهِ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ مِنْ حَقِّ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَاسْتَكْبَرَ وَأَبَى؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ عِنْدَهُ سَبَبُ الِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِكْبَارُ سَبَبُ الْإِبَاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُفَسِّرِ يُعَلِّلُ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي النَّظْمِ بِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَلَكِنَّ نَظْمَ الْآيَةِ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ فِي الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَهُوَ الْإِبَاءُ، ثُمَّ يُذْكُرُ سَبَبَهُ وَعِلَّتَهُ وَهُوَ الِاسْتِكْبَارُ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ وَهُوَ الْكُفْرُ.
أَقُولُ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ كان هُنَا بِمَعْنَى صَارَ، وَخَطَّأَهُ ابْنُ فُورَكَ وَقَالَ: إِنَّ الْأُصُولَ تَرُدُّهُ، وَوَجْهُهُ عِنْدَ قَائِلِهِ: وَصَارَ بِهَذَا الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ، لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ هَذَا الْعِصْيَانِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُهُمْ مَنَاطَ كُفْرِهِ هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى رَبِّهِ- عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَحْدَهَا لَا تَقْتَضِي الْكُفْرَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ الْمُذْعِنُ لِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ إِذَا غَلَبَهُ غَضَبٌ أَوْ شَهْوَةٌ فَعَصَى، وَهُوَ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْدَمَ وَيَتُوبَ.
وَعِصْيَانُ إِبْلِيسَ رَفْضٌ لِلْإِذْعَانِ وَالِاسْتِسْلَامِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ كُفْرٌ بِغَيْرِ نِزَاعٍ كَكُفْرِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرُّسُلَ بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُمْ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [27: 14] وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَعْنَى: وَكَانَ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ الْكَافِرِينَ.
ثُمَّ إِنَّ الْأُسْتَاذَ أَعَادَ هُنَا مُلَخَّصَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا، وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَتَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي الْكَلَامِ عَنِ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ مُلَخَّصًا: تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ خَلْقٌ غَيْبِيٌّ لَا نَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ، وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ بِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى الَّذِي نَقِفُ عِنْدَهُ وَلَا نَزِيدُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَاطِقٌ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَصْنَافٌ، لِكُلِّ صِنْفٍ وَظِيفَةٌ وَعَمَلٌ. وَنَقُولُ الْآنَ:
إِنَّ إِلْهَامَ الْخَيْرِ وَالْوَسْوَسَةَ بِالشَّرِّ مِمَّا جَاءَ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أُسْنِدَا إِلَى هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْغَيْبِيَّةِ. وَخَوَاطِرُ الْخَيْرِ الَّتِي تُسَمَّى إِلْهَامًا وَخَوَاطِرُ الشَّرِّ الَّتِي تُسَمَّى الْوَسْوَسَةَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَحِلُّهُ الرُّوحُ، فَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ إِذَنْ أَرْوَاحٌ تَتَّصِلُ بِأَرْوَاحِ النَّاسِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُمَثَّلَ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّمَاثِيلِ الْجُثْمَانِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ لَنَا لِأَنَّ هَذِهِ لَوِ اتَّصَلَتْ بِأَرْوَاحِنَا، فَإِنَّمَا تَتَّصِلُ بِهَا مِنْ طُرُقِ أَجْسَامِنَا، وَنَحْنُ لَا نُحِسُّ بِشَيْءٍ بِأَبْدَانِنَا لَا عِنْدَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِدَاعِي الْخَيْرِ مِنَ النَّفْسِ، فَإِذَنْ هِيَ مِنْ عَالَمٍ غَيْرِ عَالِمِ الْأَبْدَانِ قَطْعًا وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ الْآيَةِ: الْإِيمَانُ بِمَضْمُونِهَا مَعَ التَّفْوِيضِ أَوِ الْحَمْلِ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ تَمْثِيلٍ، ثُمَّ الِاعْتِبَارُ بِهَا بِالنَّظَرِ فِي الْحِكَمِ الَّتِي سِيقَتْ لَهَا الْقِصَّةُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ إِسْنَادَ الْوَسْوَسَةِ إِلَى الشَّيَاطِينِ مَعْرُوفٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا إِسْنَادُ إِلْهَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ خِطَابِ الْمَلَائِكَةِ لِمَرْيَمَ- عَلَيْهَا السَّلَامُ- وَمِنْ حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ فِي الْمُحَدَّثِينَ وَكَوْنِ عُمَرَ مِنْهُمْ- وَالْمُحَدَّثُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِهَا: الْمُلْهَمُونَ- وَمِنْ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ وَهُوَ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَرَأَ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [3: 268] قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ. وَالرِّوَايَةُ: إِيعَادٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْآيَةَ مِنَ الثُّلَاثِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَمَا قَالُوهُ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْإِيعَادِ أَغْلَبِيٌّ فِيمَا يَظْهَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَاللَّمَّةُ بِالْفَتْحِ الْإِلْمَامُ بِالشَّيْءِ وَالْإِصَابَةُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مَذْهَبًا آخَرَ فِي فَهْمِ مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ: وَهُوَ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي الْمَلَائِكَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ مُوَكَّلِينَ بِالْأَعْمَالِ مِنْ إِنْمَاءِ نَبَاتٍ وَخِلْقَةِ حَيَوَانٍ وَحِفْظِ إِنْسَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الْخَاصَّةِ بِمَا هُوَ أَدَقُّ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا النُّمُوَّ فِي النَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِرُوحِ خَاصٍّ نَفَخَهُ اللهُ فِي الْبَذْرَةِ فَكَانَتْ بِهِ هَذِهِ الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، فَكُلُّ أَمْرٍ كُلِّيٍّ قَائِمٍ بِنِظَامٍ مَخْصُوصٍ تَمَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي إِيجَادِهِ، فَإِنَّمَا قِوَامُهُ بِرُوحٍ إِلَهِيٍّ سُمِّيَ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مَلَكًا، وَمَنْ لَمْ يُبَالِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالتَّوْقِيفِ يُسَمِّي هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةَ، إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مِنْ عَالَمِ الْإِمْكَانِ إِلَّا مَا هُوَ طَبِيعَةٌ أَوْ قُوَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الطَّبِيعَةِ. وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ هُوَ أَنَّ فِي بَاطِنِ الْخِلْقَةِ أَمْرًا هُوَ مَنَاطُهَا، وَبِهِ قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، لَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُنْكِرَهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ مَلَكًا وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَحْيِ تَسْمِيَتَهُ قُوَّةً طَبِيعِيَّةً أَوْ نَامُوسًا طَبِيعِيًّا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ. فَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ وَالْعَاقِلُ مَنْ لَا تَحْجِبُهُ الْأَسْمَاءُ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَرَى لِلْأَرْوَاحِ وَجُودًا لَا يُدْرِكُ كُنْهَهُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ الرُّوحَ وَلَكِنْ أَعْرِفُ قُوَّةً لَا أَفْهَمُ حَقِيقَتَهَا. وَلَا يَعْلَمُ إِلَّا اللهُ عَلَامَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ، وَكَلٌّ يُقِرُّ بِوُجُودِ شَيْءٍ غَيْرِ مَا يَرَى وَيُحِسُّ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ، وَلَا يَصِلُ بِعَقْلِهِ إِلَى إِدْرَاكِ كُنْهِهِ، وَمَاذَا عَلَى هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَقَدِ اعْتَرَفَ بِمَا غُيِّبَ عَنْهُ لَوْ قَالَ: أُصَدِّقُ بِغَيْبٍ أَعْرِفُ أَثَرَهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أُقَدِّرُهُ قَدْرَهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، وَيَفْهَمُ بِذَلِكَ مَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الْوَحْيِ، وَيَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ؟.
يَشْعُرُ كُلُّ مَنْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَوَازَنَ بَيْنَ خَوَاطِرِهِ عِنْدَمَا يَهِمُّ بِأَمْرٍ فِيهِ وَجْهٌ لِلْحَقِّ أَوْ لِلْخَيْرِ، وُوَجْهٌ لِلْبَاطِلِ أَوْ لِلشَّرِّ، بِأَنَّ فِي نَفْسِهِ تَنَازُعًا كَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ عُرِضَ فِيهَا عَلَى مَجْلِسِ شُورَى فَهَذَا يُورِدُ وَذَاكَ يَدْفَعُ، وَاحِدٌ يَقُولُ: افْعَلْ، وَآخَرُ يَقُولُ: لَا تَفْعَلْ، حَتَّى يَنْتَصِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، وَيَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْخَاطِرَيْنِ، فَهَذَا الشَّيْءُ الَّذِي أُودِعَ فِي أَنْفُسِنَا، وَنُسَمِّيهِ قُوَّةً وَفِكْرًا- وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَعْنَى لَا يُدْرَكُ كُنْهُهُ، وَرُوحٌ لَا تُكْتَنَهُ حَقِيقَتُهَا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ اللهُ تَعَالَى مَلَكًا أَوْ يُسَمِّيَ أَسْبَابَهُ مَلَائِكَةً أَوْ مَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ لَا حَجْرَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَكَيْفَ يَحْجُرُ فِيهَا عَلَى صَاحِبِ الْإِرَادَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالسُّلْطَانِ النَّافِذِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ؟
وَأَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَ الْغَزَالِيَّ سَبَقَ بَيَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّبَبِ وَقَالَ: إِنَّهُ سُمِّيَ مَلَكًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا قَسَّمَ الْخَوَاطِرَ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ قَالَ: ثُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الْخَوَاطِرَ حَادِثَةٌ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ حَادِثٍ فَلابد لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَمَهْمَا اخْتَلَفَتِ الْحَوَادِثُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ، هَذَا مَا عُرِفَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى الْأَسْبَابِ، فَمَهْمَا اسْتَنَارَتْ حِيطَانُ الْبَيْتِ بِنُورِ النَّارِ وَأَظْلَمَ سَقْفُهُ بِالدُّخَانِ عَلِمْتَ أَنَّ سَبَبَ السَّوَادِ غَيْرُ سَبَبِ الِاسْتِنَارَةِ، وَكَذَلِكَ لِأَنْوَارِ الْقَلْبِ وَظُلْمَتِهِ سَبَبَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الْخَيْرِ يُسَمَّى مَلَكًا، وَسَبَبُ الْخَاطِرِ الدَّاعِي إِلَى الشَّرِّ يُسَمَّى شَيْطَانًا، وَاللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ الْقَلْبُ لِقَبُولِ إِلْهَامِ الْخَيْرِ يُسَمَّى تَوْفِيقًا، وَالَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ لِقَبُولِ الشَّرِّ يُسَمَّى إِغْوَاءً وَخِذْلَانًا، فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ تَحْتَاجُ إِلَى أَسَامِي مُخْتَلِفَةٍ. اهـ. الْمُرَادُ مِنْهُ فَلْيُرَاجِعْهُ فِي كِتَابِ شَرْحِ عَجَائِبِ الْقَلْبِ مِنَ الْإِحْيَاءِ.
ثُمَّ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ:
فَإِذَا صَحَّ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَةِ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَدَبَّرَهَا بِمَا شَاءَ مِنَ الْقُوَى الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهَا وَنِظَامُهَا، وَجَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْقُوَى مَخْصُوصًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَعَدَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّى مَا حُدِّدَ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ الَّذِي خُصَّ بِهِ، خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ وَأَعْطَاهُ قُوَّةً يَكُونُ بِهَا مُسْتَعِدًّا لِلتَّصَرُّفِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْقُوَى وَتَسْخِيرِهَا فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَسْخِيرِ هَذِهِ الْقُوَى لَهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي يُفِيدُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالتَّسْخِيرِ، وَجَعَلَهُ بِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ وَالتَّصَرُّفِ الَّذِي لَمْ يُعْطَ لِغَيْرِهِ خَلِيفَةَ اللهِ فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، وَاسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقُوَى قُوَّةً وَاحِدَةً عَبَّرَ عَنْهَا بِإِبْلِيسَ، وَهِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي لَزَّهَا اللهُ بِهَذَا الْعَالَمِ لَزًّا، وَهِيَ الَّتِي تَمِيلُ بِالْمُسْتَعِدِّ لِلْكَمَالِ أَوْ بِالْكَامِلِ إِلَى النَّقْصِ وَتُعَارِضُ مَدَّ الْوُجُودِ لِتَرُدَّهُ إِلَى الْعَدَمِ أَوْ تَقْطَعَ سَبِيلَ الْبَقَاءِ وَتَعُودَ بِالْمَوْجُودِ إِلَى الْفَنَاءِ أَوِ الَّتِي تُعَارِضُ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَتَصُدُّ عَنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتُنَازِعُ الْإِنْسَانَ فِي صَرْفِ قُوَاهُ إِلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا خِلَافَتُهُ فَيَصِلُ إِلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الْوُجُودِيِّ الَّتِي خُلِقَ مُسْتَعِدًّا لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي ضَلَّلَتْ آثَارُهَا قَوْمًا فَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْعَالَمِ إِلَهًا يُسَمَّى إِلَهَ الشَّرِّ. وَمَا هِيَ بِإِلَهٍ وَلَكِنَّهَا مِحْنَةُ إِلَهٍ لَا يَعْلَمُ أَسْرَارَ حِكْمَتِهِ إِلَّا هُوَ.
قَالَ: وَلَوْ أَنَّ نَفْسًا مَالَتْ إِلَى قَبُولِ هَذَا التَّأْوِيلِ لَمْ تَجِدْ فِي الدِّينِ مَا يَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَالْعُمْدَةُ عَلَى اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ وَرُكُونِ النَّفْسِ إِلَى مَا أَبْصَرَتْ مِنَ الْحَقِّ.
وَأَقُولُ: إِنَّ غَرَضَ الْأُسْتَاذِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِيمَاءِ وَبِالْإِشَارَةِ إِقْنَاعُ مُنْكِرِي الْمَلَائِكَةِ بِوُجُودِهِمْ، بِتَعْبِيرٍ مَأْلُوفٍ عِنْدَهُمْ تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمْ، وَقَدِ اهْتَدَى بِهِ.
كَثِيرُونَ، وَضَلَّ بِهِ آخَرُونَ فَأَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ قُوًى لَا تَعْقِلُ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ كِتَابَةً بِمَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ:
وَلَسْتُ أُحِيطُ عِلْمًا بِمَا فَعَلَتِ الْعَادَةُ وَالتَّقَالِيدُ فِي أَنْفُسِ بَعْضِ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْمُتَشَدِّدِينَ فِي الدِّينِ إِذْ يَنْفِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا يَنْفِرُ الْمَرْضَى أَوِ الْمُخَدَّجُونَ مِنْ جَيِّدِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّهُمْ، وَقَدْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا قِوَامُ بِنْيَتِهِمْ، وَيَتَشَبَّثُونَ بِأَوْهَامٍ مَأْلُوفَةٍ لَهُمْ تَشَبُّثَ أُولَئِكَ الْمَرْضَى وَالْمُخَدَّجِينَ بِأَضَرِّ طَعَامٍ يُفْسِدُ الْأَجْسَامَ وَيَزِيدُ السَّقَامَ، لَا أَعْرِفُ مَا الَّذِي فَهِمُوهُ مِنْ لَفْظِ رُوحٍ أَوْ مَلَكٍ، وَمَا الَّذِي يَتَخَيَّلُونَهُ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِ قُوَّةٍ، أَلَيْسَ الرُّوحُ فِي الْآدَمِيِّ مَثَلًا هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ، وَإِذَا سُلِبُوهُ سُلِبُوا مَا يُسَمَّى بِالْحَيَاةِ؟ أَوَلَيْسَتِ الْقُوَّةُ هِيَ مَا تَصْدُرُ عَنْهُ الْآثَارُ فِيمَنْ وُهِبَتْ لَهُ، فَإِذَا سُمِّيَ الرُّوحُ لِظُهُورِ أَثَرِهِ قُوَّةً، أَوْ سُمِّيَتِ الْقُوَّةُ لِخَفَاءِ حَقِيقَتِهَا رُوحًا فَهَلْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدِّينِ أَوْ يَنْقُصُ مُعْتَقِدُهُ شَيْئًا مِنَ الْيَقِينِ؟
أَلَّا لَا يُسَمَّى الْإِيمَانُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ إِذْعَانًا، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يَسْتَسْلِمَ الْوِجْدَانُ وَتَخْشَعَ الْأَرْكَانُ لِذَلِكَ السُّلْطَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيمَانُ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ حَتَّى يُلْقِيَ الْوَهْمُ سِلَاحَهُ وَيَبْلُغَ الْعَقْلُ فَلَاحَهُ، وَهَلْ يُسْتَكْمَلُ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُمْكِنُهُ فَهْمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ عِلْمُهُ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَعْرِفُ الْحَقُّ أَهْلَهُ وَلَا يَضِلُّ سُبُلَهُ، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ، لَوْ أَنَّ مِسْكِينًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَلْفَاظِ مِنْ أَشَدِّهِمْ ذَكَاءً وَأَذْرَبِهِمْ لِسَانًا أَخَذَ بِمَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ قَابِلَةٌ لِلتَّشَكُّلِ، ثُمَّ تَطَلَّعَ عَقْلُهُ إِلَى أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى نُورَانِيَّةِ الْأَجْسَامِ، وَهَلِ النُّورُ وَحْدَهُ لَهُ قِوَامٌ يَكُونُ بِهِ شَخْصًا مُمْتَازًا بِدُونِ أَنْ يَقُومَ بِجِرْمٍ آخَرَ كَثِيفٍ ثُمَّ يَنْعَكِسُ عَنْهُ كَذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ أَوْ سِلْكِ الْكَهْرَبَاءِ، وَمَعْنَى قَابِلِيَّةِ التَّشَكُّلِ، وَهَلْ يُمْكِنُ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي أَشْكَالٍ مِنَ الصُّوَرِ مُخْتَلِفَةٍ حَسْبَمَا يُرِيدُ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، أَلَا يَقَعُ فِي حَيْرَةٍ؟ وَلَوْ سُئِلَ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ مِنْ ذَلِكَ أَلَا يُحْدِثُ فِي لِسَانِهِ مِنَ الْعُقَدِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ حَلَّهُ؟ أَلَيْسَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَيْرَةِ يُعَدُّ شَكًّا؟ نَعَمْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْحَيْرَةُ حَيْرَةَ مَنْ وَقَفَ دُونَ أَبْوَابِ الْغَيْبِ يَطْرِفُ لِمَا لَا يَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، لَكِنَّهَا حَيْرَةُ مَنْ أَخَذَ بِقَولٍ لَا يَفْهَمُهُ، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ عِلْمَ مَا لَا تَعْلَمُهُ. فَلَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَلَائِكَةِ إِيمَانًا صَحِيحًا وَاطْمَأَنَّتْ بِإِيمَانِهِ نَفْسُهُ وَأَذْعَنَ لَهُ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَبْقَ لِوَهْمِهِ سِلَاحٌ يُنَازِعُ بِهِ عَقْلَهُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ صَاحِبِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ.
فَلْيَرْجِعْ هَؤُلَاءِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي وَقَرَ فِيهَا تَقَالِيدُ حُفَّتْ بِالْمَخَاوِفِ، لَا عُلُومٌ حُفَّتْ بِالسَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، هَؤُلَاءِ لَمْ يُشْرِقْ فِي نُفُوسِهِمْ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ الْإِلَهِيِّ وَالضِّيَاءِ الْمَلَكُوتِيِّ وَاللَّأْلَاءِ الْقُدُسِيِّ، أَوْ مَا يُمَاثِلُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، لَمْ يَسْبِقْ لِنُفُوسِهِمْ عَهْدٌ بِمُلَاحَظَةِ جَانِبِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَكْتَحِلْ أَعْيُنُ بَصَائِرِهِمْ بِنَظْرَةٍ إِلَى مَطْلَعِ الْوُجُودِ مِنْهُ عَلَى الْخَلْقِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ فَانٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ لَيْسَ فِي الْكَوْنِ بَاقٍ كَانَ أَوْ يَكُونُ إِلَّا وَجْهُ الْكَرِيمِ، وَأَنَّ مَا كُشِفَ مِنَ الْكَوْنِ وَمَا لَطُفَ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمَا بَطَنَ إِنَّمَا هُوَ فَيْضٌ مِنْ جُودِهِ، وَنِسْبَةٌ إِلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ الشَّرِيفُ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْلَى بِذِكْرِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا الْخَسِيسُ إِلَّا مَا بَيَّنَ لَنَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَوَّلِ نِسْبَتَهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْوُجُودِ فِي نَفْسِهِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَعْلَى وَلَا أَحَطَّ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ- وَلابد أَنْ يَكُونَ كَمَا قَدَّرَهُ- لَوْ عَرَفُوا ذَلِكَ كُلَّهُ لَأَطْلَقُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ تَجُولَ فِي تِلْكَ الشُّئُونِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى مُسْتَقَرِّ الطُّمَأْنِينَةِ، حَيْثُ لَا يُنَازِعُ الْعَقْلَ شَيْءٌ مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَلَا تَجِدُ طَائِفًا مِنَ الْخَوْفِ، ثُمَّ لَا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظٍ مَكَانَ لَفْظٍ.
هَذِهِ الْقُوَى الَّتِي نَرَى آثَارَهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ تَحْتَ حَوَاسِّنَا، وَقَدْ خَفِيَتْ حَقَائِقُهَا عَنَّا، وَلَمْ يَصِلْ أَدَقُّ الْبَاحِثِينَ فِي بَحْثِهِ عَنْهَا إِلَّا إِلَى آثَارٍ تَجِلُّ إِذَا كُشِفَتْ وَتَقِلُّ بَلْ تَضْمَحِلُّ إِذَا حُجِبَتْ، وَهِيَ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَمَالُ الْوُجُودِ وَبِهَا يَنْشَأُ النَّاشِئُ وَبِهَا يَنْتَهِي إِلَى غَايَتِهِ الْكَامِلُ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى نَبِيهٍ وَلَا خَامِلٍ، أَلَيْسَتْ أَشِعَّةً مِنْ ضِيَاءِ الْحَقِّ؟ أَلَيْسَتْ أَجَلَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ سُلْطَانِهِ؟ أَلَّا تُعَدُّ بِنَفْسِهَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَإِنْ كَانَتْ آثَارُهَا مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْعُرَ الشَّاعِرُ مِنْهَا بِضَرْبٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَالِاخْتِيَارِ خَاصٍّ بِهَا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ لِاحْتِجَابِهِ بِمَا نَتَصَوَّرُهُ مِنْ حَيَاتِنَا وَاخْتِيَارِنَا؟ أَلَا تَرَاهَا تُوَافِي بِأَسْرَارِهَا مَنْ يَنْظُرُ فِي آثَارِهَا وَيُوَفِّيهَا حَقَّ النَّظَرِ فِي نِظَامِهَا؟ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ بِمَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْ شُئُونِهَا، وَمَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اسْتِدْرَارِ مَنَافِعِهَا؟
أَلَيْسَ الْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ الْأَعْلَى مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَآثَارُهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ؟ أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي وَهَبَ تِلْكَ الْقُوَى خَوَاصَّهَا وَقَدَّرَ لَهَا آثَارَهَا؟ لِمَ لَا نَقُولُ أَيُّهَا الْغَافِلُ: إِنَّهُ بِذَلِكَ وَهَبَهَا حَيَاتَهَا الْخَاصَّةَ بِهَا، وَلِمَ قَصَرْتَ مَعْنَى الْحَيَاةِ عَلَى مَا تَرَاهُ فِيكَ وَفِي حَيَوَانٍ مِثْلِكَ؟!
مَعَ أَنَّكَ لَوْ سُئِلْتَ عَنْ هَذَا الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّكَ فَهِمْتَهُ وَسَمَّيْتَهُ حَيَاةً لَمْ تَسْتَطِعْ لَهُ تَعْرِيفًا وَلَا لِفِعْلِهِ تَصْرِيفًا! لَا تَقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ وَبِهِ نَقُولُ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمِنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [17: 44]؟
أَفَلَا تَزْعُمُ أَنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ وَمَلَائِكَةً فِي السَّمَاءِ؟ هَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ تَسْكُنُ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ؟ وَهَلْ حَدَّدْتَ أَمْكِنَتَهَا وَرَسَمْتَ مَسَاكِنَهَا؟ وَهَلْ عَرَفْتَ أَيْنَ يَجْلِسُ مَنْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَنْ يَمِينِكَ؟ وَمَنْ يَكُونُ عَنْ يَسَارِكَ؟ هَلْ تَرَى أَجْسَامَهُمُ النُّورَانِيَّةَ تُضِئُ لَكَ فِي الظَّلَامِ أَوْ تُؤْنِسُكَ إِذَا هَجَمَتْ عَلَيْكَ الْأَوْهَامُ؟ فَلَوْ رَكَنْتَ إِلَى أَنَّهَا قُوًى أَوْ أَرْوَاحٌ مُنْبَثَّةٌ فِيمَا حَوْلَكَ وَمَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَمَا خَلْفَكَ، وَأَنَّ اللهَ ذَكَرَهَا لَكَ بِمَا كَانَ يَعْرِفُهَا سَلَفُكَ، وَبِالْعِبَارَةِ الَّتِي تَلَقَّفْتَهَا عَنْهُمْ كَيْلَا يُوحِشَكَ بِمَا يُدْهِشُكَ، وَتَرَكَ لَكَ النَّظَرَ فِيمَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُكَ مِنْ وُجُوهٍ تَعْرِفُهَا، أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَرْوَحُ لِنَفْسِكَ وَأَدْعَى إِلَى طُمَأْنِينَةِ عَقْلِكَ؟ أَفَلَا تَكُونُ قَدْ أَبْصَرْتَ شَيْئًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَوَقَفْتَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ؟ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِكَ اسْتِعْدَادًا لِقَبُولِ أَشِعَّةِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَكُنْتَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَيُفَوِّضُ فِي إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ وَيَقُولُ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فَلَا تَرْمِ طُلَّابَ الْعِرْفَانِ بِالرَّيْبِ مَا دَامُوا يُصَدِّقُونَ بِالْكِتَابِ الَّذِي آمَنْتَ بِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ الَّذِي صَدَّقْتَ بِرِسَالَتِهِ، وَهُمْ فِي إِيمَانِهِمْ أَعْلَى مِنْكَ كَعْبًا وَأَرْضَى مِنْكَ بِرَبِّهِمْ نَفْسًا، أَلَا إِنَّ مُؤْمِنًا لَوْ مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى فَهْمِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا قُلْنَا كَانَ مِنْ دِينِهِ فِي ثِقَةٍ، وَمِنْ فَضْلِ رَبِّهِ فِي سَعَةٍ. اهـ.
هَذَا مَا كَتَبَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْضِيحِ كَلَامِهِ فِي تَقْرِيبِ مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الْكَائِنَاتِ مِنْ لَفْظِ الْقُوَى إِلَى مَا يَفْهَمُهُ عُلَمَاءُ الشَّرْعِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا يَفْقَهُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْقُوَى وَإِسْنَادِ كُلِّ أَحْدَاثِ الْكَائِنَاتِ وَتَطَوُّرَاتِهَا إِلَيْهَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِجَهْلِ كُنْهِهَا، وَإِلْمَامٌ أَيْضًا بِمَا كَانَ يَقُولُهُ قُدَمَاءُ الْيُونَانِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ إِلَهًا أَوْ رَبًّا مُدَبِّرًا هُوَ الْمُسَيِّرُ لِنِظَامِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَرْبَابِ خَاضِعَةٌ لِلرَّبِّ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَالْمَعْنَى الْعَامُّ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ هُوَ أَنَّ أَحْدَاثَ هَذَا الْعَالَمِ وَتَغَيُّرَاتِهَا وَتَطَوُّرَاتِهَا وَالنِّظَامَ فِيهَا كُلِّهَا لابد لَهُ مِنْ سَبَبٍ خَفِيٍّ غَيْرِ أَجْزَاءِ مَادَّتِهَا، فَالتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْنَا بِاصْطِلَاحَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَعْبِيرُ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْطِيلِ، وَتَعْبِيرُ الْقُرْآنِ وَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ هُوَ الَّذِي حَرَّرَ الْحَقِيقَةَ الَّتِي يُمْكِنُ إِذْعَانُ الْعُقَلَاءِ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْفَاعِلَ الْحَقِيقِيَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ نِظَامَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْ نَاطَهُ سُبْحَانَهُ بِمَوْجُودَاتٍ رُوحِيَّةٍ خَفِيَّةٍ ذَاتِ قُوًى عَظِيمَةٍ جِدًّا سُمِّيَتِ الْمَلَائِكَةُ، فَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ: إِنَّ التَّسْمِيَةَ وَحْدَهَا لَا تُعْطِي أَحَدًا عِلْمَ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الْحَقِيقَةَ لَا يَحْجُبُهَا عَنْهُ اخْتِلَافُ التَّسْمِيَةِ، وَأَرَادَ بِهَذَا أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَادِّيِّينَ وَيُقْنِعَهُمْ بِصِحَّةِ مَا جَاءَ الْوَحْيُ مِنْ طَرِيقِ عِلْمِهِمُ الْمُسَلَّمِ عِنْدَهُمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صَفْحَةِ 223 فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُبَّادُ الْأَلْفَاظِ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مُرَادَهُ، وَهُوَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي الْإِقْنَاعِ بِحَقِّيَّةِ الدِّينِ كَانَ حُجَّةً لِلَّهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَحَدُ نَوَابِغِ رِجَالِ الْقَضَاءِ الْأَذْكِيَاءِ: إِنَّكَ بِتَفْسِيرِكَ لِلْقُرْآنِ بِالْبَيَانِ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَلَا يَأْبَاهُ الْعِلْمُ قَدْ قَطَعْتَ الطَّرِيقَ عَلَى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ الْوَقْتُ الَّذِي يَهْدِمُونَ فِيهِ الدِّينَ وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ قُيُودِهِ وَجَهْلِ رِجَالِهِ وَجُمُودِهِمْ.
وَإِنَّنِي أَنَا قَدْ جَرَّبْتُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي اسْتَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا لَهَا دَحْضًا، ذَلِكَ بِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ إِلَهَ اللَّاهُوتِيِّينَ وَكَذَا إِلَهُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا إِلَهَ الْخَلِيقَةِ، فَإِذَا قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ تَعْقِلُونَ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ الدَّقِيقَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَوَحْدَةَ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي مَجْمُوعِهَا كُلِّهَا قَدْ وُجِدُوا بِالْمُصَادَفَةِ وَلَيْسَ لَهُمَا مَصْدَرٌ وُجُودِيٌّ؟ يَقُولُونَ: لَا، بَلْ لابد لِذَلِكَ مِنْ مَصْدَرٍ لَكِنَّنَا نَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ، حِينَئِذٍ. كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ: وَهَذَا أُسُّ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَنَّنَا نَجْهَلُ كُنْهَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ بِآثَارِهِ فِي خَلْقِهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَنَا لَفْظِيٌّ.
ذَلِكَ- وَإِنَّ تَرْتِيبَ النَّظْمِ يَلْتَئِمُ مَعَ التَّأْوِيلِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي السِّيَاقِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الَّتِي وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْحِكَايَةِ وَبَرَزَتْ فِي صُورَةِ التَّمْثِيلِ جَاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [2: 29] وَبَقِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ.
فِي الدَّرْسِ وَقَدْ سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قُوَّةٍ مِنْ قُوَى هَذِهِ الْأَرْضِ وَكُلَّ نَامُوسٍ مِنْ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ فِيهَا خُلِقَ خَاضِعًا لِلْإِنْسَانِ، وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مُسْتَعِدًّا لِتَسْخِيرِهِ لِمَنْفَعَتِهِ إِلَّا قُوَّةَ الْإِغْرَاءِ بِالشَّرِّ، وَنَامُوسَ الْوَسْوَسَةِ بِالْإِغْرَاءِ الَّذِي يَجْذِبُ الْإِنْسَانَ دَائِمًا إِلَى شَرِّ طِبَاعِ الْحَيَوَانِ، وَيُعِيقُهُ عَنْ بُلُوغِ كَمَالِهِ الْإِنْسَانِيِّ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَغْلِبُ هَذِهِ الْقُوَّةَ وَلَا يُخْضِعُهَا مَهْمَا ارْتَقَى وَكَمُلَ، وَقُصَارَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْكَامِلُونَ هُوَ الْحَذَرُ مِنْ دَسَائِسِ الْوَسْوَسَةِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهَا بِأَلَّا يَكُونَ لَهَا سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِ الْكَامِلِ تَجْعَلُهُ مُسَخَّرًا لَهَا وَتَسْتَعْمِلُهُ بِالشُّرُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [17: 65] وَقَالَ- عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [7: 201] ثُمَّ زَادَ الْأُسْتَاذُ هُنَا قَوْلَهُ: «أَمَّا سُلْطَانُ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِي الْفَنَاءِ وَقَطْعِ حَرَكَةِ الْوُجُودِ إِلَى الصُّعُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُ إِخْضَاعَهُ لِقُدْرَتِهِ مِنَ الْبَشَرِ كَامِلٌ، وَلَا يُقَاوِمُ نُفُوذَهُ عَامِلٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهَذَا حُكْمُهَا فِي الْكَائِنَاتِ، إِلَى أَنْ تَبَدَّلَ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ» فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْبَصِيرَةِ وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
مُجْمَلُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ لَمَّا اسْتَعَدَّ لِوُجُودِ هَذَا النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِيجَادَهُ وَاسْتِخْلَافَهُ فِي الْأَرْضِ آذَنَ اللهُ تَعَالَى الْأَرْوَاحَ الْمُنْبَثَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ لِتَدْبِيرِهَا وَنِظَامِهَا بِذَلِكَ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ فَهِمَتْ مِنْ مَعْنَى كَوْنِ الْإِنْسَانِ خَلِيفَةً أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّظَامَ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، حَتَّى أَعْلَمَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ عِلْمَهَا لَمْ يُحِطْ بِمَوَاقِعِ حِكْمَتِهِ وَلَا يَصِلْ إِلَى حَيْثُ يَصِلُ عِلْمُهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَوْجَدَ آدَمَ وَفَضَّلَهُ بِتَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، عَلَى أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ لَا يَعْلَمُ إِلَّا طَائِفَةً مِنْهَا؛ وَلِذَلِكَ أَخْضَعَ لَهُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ إِلَّا رُوحًا وَاحِدًا هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَمَصْدَرُ الْإِغْوَاءِ فَقَدْ أَبَى الْخُضُوعَ وَاسْتَكْبَرَ عَنِ السُّجُودِ لِمَا كَانَ فِي طَبِيعَتِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَالِاسْتِعْدَادُ فِي الشَّيْءِ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِظُهُورِ مُتَعَلِّقِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِذَا كَانَ لِكُلِّ رُوحٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى الْغَيْبِيَّةِ عِلْمٌ مَحْدُودٌ فَكَيْفَ ظَهَرَ مِنَ الرُّوحِ الْإِبْلِيسِيِّ مَا لَمْ يُسْبَقْ لَهُ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَالتَّصَدِّي لِإِغْوَائِهِ؟ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِهَذَا الْعِصْيَانِ وَالْإِبَاءِ فَلَمَّا أُمِرَ عَصَى، وَلَمَّا وَجَدَ خَلْقًا مُسْتَعِدًّا لِلْوَسْوَسَةِ اتَّصَلَ بِهِ وَوَسْوَسَ إِلَيْهِ، كَمَا أَنَّ أَلْوَانَ وَرَقِ الشَّجَرِ وَالزُّهُورِ مَوْجُودَةٌ كَامِنَةٌ فِي الْبَذْرَةِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِعْدَادِ بِهَا بِبُلُوغِ الطَّوْرِ الْمَحْدُودِ مِنَ النُّمُوِّ.
وَمُجْمَلُ الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ آدَمَ وَزَوْجَهُ بِسُكْنَى الْجَنَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وَنَهَاهُمَا عَنِ الْأَكْلِ مِنْ شَجَرَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ قُرْبَهَا ظُلْمٌ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَزَلَّهُمَا عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ إِلَى ضِدِّهِ، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَقَبِلَهُ، ثُمَّ جَعَلَ سَعَادَةَ هَذَا النَّوْعِ بِاتِّبَاعِ هُدَى اللهِ وَشَقَاءَهُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا قَدْ سِيقَتْ لِلْاعْتِبَارِ بِبَيَانِ الْفِطْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا الْمَلَائِكَةَ وَالْبَشَرَ، وَتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يُلَاقِي مِنَ الْإِنْكَارِ- وَتَقَدَّمَ وَجْهُ ذَلِكَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ- وَأَمَّا وَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مِنْ شَأْنِ الْبَشَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَلَا تَأْسَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وَلَا تَبْخَعْ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهَا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا فَقَدْ كَانَ الضَّعْفُ فِي طِبَاعِهِمْ يَنْتَهِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ سَلَفٍ لَهُمْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْوَسَاوِسُ، وَتَذْهَبُ بِصَبْرِهِمُ الدَّسَائِسُ، انْظُرْ مَا وَقَعَ لِآدَمَ وَمَا كَانَ مِنْهُ، وَسُنَّةُ اللهِ مَعَ ذَلِكَ لَا تَتَبَدَّلُ، فَقَدْ عُوقِبَ آدَمُ عَلَى خَطِيئَتِهِ بِإِهْبَاطِهِ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ وَغَفَرَ هَفْوَتَهُ فَالْمَعْصِيَةُ دَائِمًا مَجْلَبَةٌ لِلشَّقَاءِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْبَشَرِ عَلَى أَنَّ سَعَادَتَهُمْ فِي اتِّبَاعِ الْهِدَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَشَقَاءَهُمْ فِي الِانْحِرَافِ عَنْ سُبُلِهَا.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ هَلْ هِيَ الْبُسْتَانُ أَوِ الْمَكَانُ الَّذِي تُظَلِّلُهُ الْأَشْجَارُ بِحَيْثُ يَسْتَتِرُ الدَّاخِلُ فِيهِ كَمَا يَفْهَمُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ؟ أَمْ هِيَ الدَّارُ الْمَوْعُودُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتْرِيدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بِالتَّأْوِيلَاتِ: نَعْتَقِدُ أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ بُسْتَانٌ مِنَ الْبَسَاتِينِ أَوْ غَيْضَةٌ مِنَ الْغِيَاضِ كَانَ آدَمُ وَزَوْجُهُ مُنَعَّمِينَ فِيهَا، وَلَيْسَ عَلَيْنَا تَعْيِينُهَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْ مَكَانِهَا، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَلَا دَلِيلَ لِمَنْ خَاضَ فِي تَعْيِينِ مَكَانِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْحَلُّ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ:
1- أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ لِيَكُونَ هُوَ وَنَسْلُهُ خَلِيفَةً فِيهَا، فَالْخِلَافَةُ مَقْصُودَةٌ مِنْهُمْ بِالذَّاتِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً عَارِضَةً.
2- أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ حَصَلَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
3- أَنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، فَكَيْفَ دَخَلَهَا الشَّيْطَانُ الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ؟
4- أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ.
5- أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ فِيهَا مِنَ التَّمَتُّعِ مِمَّا يُرِيدُ مِنْهَا.
6- أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهَا الْعِصْيَانُ.
وَبِالْجُمْلَةِ: إِنَّ الْأَوْصَافَ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا الْجَنَّةُ الْمَوْعُودُ بِهَا لَا تَنْطَبِقُ عَلَى مَا كَانَ فِي جَنَّةِ آدَمَ، وَمِنْهُ كَوْنُ عَطَائِهَا غَيْرَ مَجْذُوذٍ وَلَا مَقْطُوعٍ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
أَقُولُ: وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الْإِشْكَالَاتِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِشْكَالَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ أَطَالَ فِي بَيَانِهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا، وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْوَقْفِ وَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا أَقْوَى، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَدْ كَانَ ظَهَرَ لِي عِنْدَ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَلَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ آدَمَ أُسْكِنَ جَنَّةَ الْآخِرَةِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآخِرَةُ هِيَ الدَّارُ الْأُولَى وَالدُّنْيَا، فَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ لِلدَّارَيْنِ غَيْرَ صَحِيحَةٍ، وَيُنَافِي أَيْضًا كَوْنَ الْجَنَّةِ دَارَ ثَوَابٍ يَدْخُلُهَا الْمُتَّقُونَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وَلَمْ يَقُلْ: ادْخُلْ وَلَوِ انْتَقَلَ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا إِلَى الْجَنَّةِ لَقَالَ هَذَا أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى الِانْتِقَالِ، فَقَوْلُهُ: {اسْكُنْ} يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْخِلْقَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْجَنَّةِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} إِبَاحَةٌ لِلتَّمَتُّعِ بِتِلْكَ الْجَنَّةِ وَالتَّنَعُّمِ بِمَا فِيهَا أَيْ كُلَا مِنْهَا أَكْلًا رَغَدًا وَاسِعًا هَنِيًّا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ مِنْهَا إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا نَهَاهُمَا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} لِأَنْفُسِكُمَا بِالْوُقُوعِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهَا، وَلَمْ يُعَيِّنِ اللهُ تَعَالَى لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَلَا نَقُولُ فِي تَعْيِينِهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهُ، وَلَعَلَّ فِي خَاصِّيَّةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مَا هُوَ سَبَبُ خُرُوجِهِمَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْأَكْلِ مِنْهَا ضَرَرٌ، أَوْ كَانَ النَّهْيُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا مِنْهُ تَعَالَى لِيَظْهَرَ بِهِ مَا فِي اسْتِعْدَادِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَاخْتِبَارِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ضَرَرٌ.
قَالَ تَعَالَى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أَيْ حَوَّلَهُمَا وَزَحْزَحَهُمَا عَنِ الْجَنَّةِ، أَوْ حَمَلَهُمَا عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِ الشَّجَرَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ: {فَأَزَالَهُمَا} وَالشَّيْطَانُ: إِبْلِيسُ الَّذِي لَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَخْضَعْ، وَقَدْ وَسْوَسَ لَهُمَا بِمَا ذُكِرَ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ حَتَّى أَوْقَعَهُمَا فِي الزَّلَلِ وَحَمَلَهُمَا عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَا {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَا فِيهِ، فَكَانَ الذَّنْبُ مُتَّصِلًا بِالْعُقُوبَةِ اتِّصَالَ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ الْإِخْرَاجِ بِقَوْلِهِ: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} يَعْنِي آدَمَ وَزَوْجَهُ وَإِبْلِيسَ، فَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِالْجَمْعِ كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ فِي قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} تُنَافِي هَذَا التَّقْدِيرَ فَإِنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ لَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَذُرِّيَّتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي الْهُبُوطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ مِنْهُ؛ وَلِذَلِكَ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ فِي السَّمَاءِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ الِانْتِقَالِ أَوْ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي الْمَعْنَى، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْهُبُوطُ الِانْحِدَارُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْجَنَّةُ فِي رَبْوَةٍ، فَسِمَةُ الْخُرُوجِ مِنْهَا هُبُوطًا، أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا انْتَقَلُوا إِلَيْهِ دُونَ مَا كَانُوا فِيهِ، أَوْ هُوَ كَمَا يُقَالُ: هَبَطَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، كَقَوْلِهِ تعالى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [2: 61].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أَيْ إِنَّ اسْتِقْرَارَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَمَتُّعَكُمْ فِيهَا يَنْتَهِيَانِ إِلَى زَمَنٍ مَحْدُودٍ وَلَيْسَا بِدَائِمَيْنِ، فَفِي الْكَلَامِ فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ مُمَهَّدَةٌ وَمُهَيَّأَةٌ لِلْمَعِيشَةِ فِيهَا وَالتَّمَتُّعِ بِهَا.
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ طَبِيعَةَ الْحَيَاةِ فِيهَا تُنَافِي الْخُلُودَ وَالدَّوَامَ، فَلَيْسَ الْهُبُوطُ لِأَجْلِ الْإِبَادَةِ وَمَحْوِ الْآثَارِ، وَلَيْسَ لِلْخُلُودِ كَمَا زَعَمَ إِبْلِيسُ بِوَسْوَسَتِهِ إِذْ سَمَّى الشَّجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا {شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [20: 120] يَعْنِي أَنَّ اللهَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ جَنَّةِ الرَّاحَةِ إِلَى أَرْضِ الْعَمَلِ لَا لِيُفْنِيَهُمْ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَارِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا لِيُعَاقِبَهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِخَيْرَاتِ الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَتَاعِ، وَلَا لِيُمَتِّعَهُمْ بِالْخُلُودِ وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْمَتَاعِ إِلَى حِينٍ.
ثُمَّ قَالَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أَيْ أَلْهَمَهُ اللهُ إِيَّاهَا بِهَا وَهِيَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [7: 23] تَابَ آدَمُ بِذَلِكَ وَأَنَابَ إِلَى رَبِّهِ {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أَيْ قَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَعَادَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ التَّوَّابُ؛ أَيِ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ كَثِيرًا، فَمَهْمَا يُذْنِبِ الْعَبْدُ وَيَنْدَمْ وَيَتُبْ يَتُبِ الرَّبُّ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ مَهْمَا يُسِئْ أَحَدُهُمْ بِمَا هُوَ سَبَبٌ لِغَضَبِهِ تَعَالَى وَيَرْجِعْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحُفُّهُ بِرَحْمَتِهِ. وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي هُبُوطِ آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ تَعْيِينِ الْأَمْكِنَةِ فَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْبَاطِلَةِ.
وَبَقِيَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مَسْأَلَتَانِ قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ فِيهِمَا وَهُمَا: مَسْأَلَةُ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ، وَمَسْأَلَةُ عِصْمَةِ آدَمَ.
فَأَمَّا الْأُولَى فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ فِيهَا وَلَا يَلْزَمُنَا حَمْلُ قَوْلِهُ تَعَالَى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عَلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ مُطَابَقَةِ سِفْرِ التَّكْوِينِ، فَإِنَّ الْقِصَّةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْقُرْآنِ كَمَا وَرَدَتْ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي فِي أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ- حِكَايَةً تَارِيخِيَّةً- وَإِنَّمَا جَاءَ الْقُرْآنُ بِمَوْضِعِ الْعِبْرَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ وَاسْتِعْدَادِ الْكَوْنِ لِأَنْ يَتَكَمَّلَ بِهِ، وَكَوْنِهِ قَدْ أُعْطِيَ اسْتِعْدَادًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا لِيُظْهِرَ حُكْمَ اللهِ وَيُقِيمَ سُنَنَهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونَ خَلِيفَةً لَهُ، وَكَوْنِهِ لَا يَسْلَمُ مِنْ دَاعِيَةِ الشَّرِّ وَالتَّأَثُّرِ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَحْمِلُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلِكَوْنِ التَّارِيخِ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَهُ لِأَنَّ مَسَائِلَهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَارِيخٌ لَيْسَتْ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينٌ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ الدِّينُ مِنَ التَّارِيخِ إِلَى وَجْهِ الْعِبْرَةِ دُونَ غَيْرِهِ، لَمْ يُبَيَّنِ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ كَمَا بُيِّنَ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَكَانَ بَيَانُهُمَا سَبَبًا لِرَفْضِ الْبَاحِثِينَ فِي الْكَوْنِ وَتَارِيخِ الْخَلِيقَةِ لِدِّينِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الِاخْتِبَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ أَظْهَرَ خَطَأَ مَا جَاءَ مِنَ التَّارِيخِ فِي التَّوْرَاةِ، وَوُجِدَتْ لِلْإِنْسَانِ آثَارٌ فِي الْأَرْضِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْدَمُ مِمَّا حَدَّدَتْهُ التَّوْرَاةُ فِي تَارِيخِ تَكْوِينِهِ، فَقَامَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَرْكَبُ التَّعَاسِيفَ فِي التَّأْوِيلِ، وَفَرِيقٌ يَكْفُرُ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْزِيلِ.
أَقُولُ فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي تَعْلِيلِ التَّوْصِيَةِ بِالنِّسَاءِ: «فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ» قُلْنَا: إِنَّهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [21:37] كَمَا قَالُوا فِي شَرْحِهِ- وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ- وَلَمْ يَتَعَرَّضْ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلُ مَا سَتَرَاهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ مَا نَصُّهُ: