فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ}
ومعنى يعتذر أي: يبدي عذرًا عن شيء يُخرجه من اللوم أو التوبيخ، ويقال: اعتذر فلان أي: فعل شيئًا مظنة أنه ذم، فيريد أن يعتذر عنه. والحق هنا يقول: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} وفي آية سابقة يقول مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ...} [التوبة: 83].
وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال: {رَجَعْتُمْ}، وعندما نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} مما يدلنا على أن زمام محمد صلى الله عليه وسلم بيد ربه وحده، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم.
وهنا يقول الحق: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ}، وفي هذا رد حاسم، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالًا في أن يكون هذا العذر مقبولًا أو مرفوضًا، ولكن حين ترفض مجرد سماع العذر، فمعنى ذلك ألاَّ وجه للمعذرة.
والحق سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} فكأنما ساعة أقبل المنافقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرمنين؛ وتهيأوا للاعتذار؛ وقبل أن ينطقوا بالعذر؛ أوضح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: لا تعتذروا، ورفض مجرد إبدائهم للعذر. ثم فاجأهم بالحكم في قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} ومادة آمن تدور حول عدة معان، نقول آمن أي: اعتقد وصدق مثل قولنا: آمن بالله، ويقال: آمن بالشيء أي: صدَّقه، وآمن بكذا أي: صدَّق ما قيل. والحق هو القائل: {فَمَا آمَنَ لموسى...} [يونس: 83].
وقال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17].
أي: لن تصدقنا. وآمن إذا تعدَّت بالباء فمعناها الاعتقاد، وإن تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بغير الباء وغير اللام فمعناها إعطاء الأمان، مثل قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
وتجيء أيضًا آمن وأمن بمعنى الائتمان، مثل قول الحق سبحانه وتعالى على لسان يعقوب: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ...} [يوسف: 64].
إذن: فآمن إن تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني، وإنْ تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدَّتْ بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان، وإن تعدت بالمفعول أيضًا؛ فمعناها القدرة على أداء الأمانات، مصداقًا لقول الحق: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا...} [آل عمران: 75].
وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم. فقد جاء المنافقون ليعتذروا بأعذار كاذبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض مجرد سماع الاعتذار، وأعلن لهم: لن نصدقكم. ولو امتلك المنافقون ذرة من ذكاء لفهموا أن رب محمد عليه الصلاة والسلام قد أخبره بكل شيء؛ حتى بما في قلوبهم قبل أن ينطقوه، ولو امتلكوا ذرة من فطنة لرجعوا عن نفاقهم، ولدخلوا في الإيمان، ولكنهم لم يستوعبوا الدرس، فجاء الحق سبحانه وتعالى بالأمر واضحًا في قوله سبحانه: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} فكأن المسألة ليست فراسة استنتاج، ولكنها وحي من الله.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.
ما هو العمل الذي سيراه الله سبحانه وتعالى ورسوله، بعد أن رفض رسول الله عذرهم، وأخبرهم بأن الله قد أخبره بما يُخْفونه من كذب في صدورهم؟ فسبحانه العالم بالسرائر كلها، لقد شاء سبحانه ألا يغلق أمامهم باب المرجع إليه، وكان يجب من بعد ذلك أن يرتدعوا وأن يتيقنوا أن رب محمد صلى الله عليه وسلم لا تخفى عليه حتى نواياهم. وما دُمْتم قد علمتم صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أبلغكم به، أصبح عليكم- إذن- أن ترجعوا وتخرجوا من دائرة النفاق لتدخلوا حظيرة الإيمان؛ وتراكم الدنيا من بعد ذلك وقد اختلفت أعمالكم من النفاق إلى الإيمان، أما إن أصررتم على ما أنتم فيه؛ فمعنى ذلك أنكم لم تستفيدوا من العملية الإعجازية التي أنبأ الله فيها رسوله بكذبكم.
إذن: فقد فتح الله باب التوبة أمامكم رحمة منه سبحانه، فانتهزوا هذه الفرصة؛ لأنه سبحانه سيرى أعمالكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرؤية يرتب لكم الجزاء على ما يكون منكم.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94].
وما دام سبحانه عالم الغيب، فمن باب أوْلى أنه عليم بعالم الشهادة. والغيب- كما نعرف- هو ما غاب عنك، فلم تعرف عنه شيئًا. ولكن إنْ غاب عنك ولم يَغِبْ عن غيرك فهو غّيْبٌ نسبي؛ لأن هناك حجبًا منعت عنك العلم، والمثَال: إن سُرق منك شيء فأنت لا تعرف السارق؛ ولكن السارق نفسه يعرف، ومن شاركه يعرف. والذي أخفى السارق عنده المسروقات يعرف. والذي ابتاع المسروقات يعرف.
إذن: فهو غيب عنك وليس غيبًا على غيرك. أما الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، وهناك من يلجأ إلى الدجالين ممن يدّعون قراءة الأفكار، ويسمونهم المنوِّمين المغناطيسيين، ويطلب المنوّم من أي واحد أن يُخرج ما في جيبه من نقود وأن يقوم بعدّها، ثم يخبره بعددها، وإن أردت أن تكشف ألاعيبه؛ ضع يدك في جيبك وأخرج كمية من النقود لا تعرف أنت مقدارها، واسأله عن هذا المقدار فلن يعرف، لماذا؟ لأنك نقلت المسألة من غيب قد يعرفه غيرك إلى غيب مطلق.
إذن: فالغيب المطلق هو ما غاب عنك عن غيرك، وهو أيضًا ما لا تكون له مقدمات توصلك إليه، فأنت إذا أعطيت ابنك تمرينًا هندسيًّا ليحله؛ فالحل غيب عنه ساعة يقرأ المسألة، ثم يستخدم المقدمات والنظريات حتى يصل إلى الحل، فكأن هناك أشياء لها مقدمات توصل إلى النتائج، وهذه ليست غيبًا؛ لذلك لا يقال لمن اكتشف الكهرباء والذي اكتشف تفتيت الذرة أنهما علما الغيب. فقد كانت هناك مقدمات في الكون أوصلتهما إلى كشف بعض القوانين الموجودة بالفعل، لكنّنا لم نكُنْ نعرفها.
وفي بعض التدريبات، نجد من يضع المسألة المطلوب حلّها، ويضع النتيجة الأخيرة بجانبها؛ لأنه لا يهدف إلى معرفة النتيجة، ولكنه يهدف لتعليم التلميذ كيف يصل إلى أسلوب الحل الصحيح.
ولذلك إذا أردت أن تحلّ شيئًا في الهندسة مثلًا، فلابد لك من معطيات توصلك إلى الحل؛ كأن يُطلب منك- مثلًا- إثبات أن الخطين متوازيان، وفي هذه الحالة يجب أن تكون كل زاويتين متناظرتين متساويتين، وكل زاويتين متبادلتين متساويتين. إذن: فانت قد أخذت مقدمات أو معطيات أوصلتك إلى النتيجة، وكذلك في تساوي ضلعي المثلث أو أضلاعه؛ يكون إثباته بتساوي الزوايا. فهل في هذه الحالة يقال: إنك اهتديت إلى الغيب؟ أم أنك استخدمت مقدمات أوصلتك إلى نتائج؟
وأنت حين تبرهن على صحة النظرية المباشرة، تقول: إن هذا يساوي هذا حسب النظرية رقم تسعة مثلًا، وإن هذا مقابل لهذا حسب النظرية الجديدة، وإذا وصلت في براهينك إلى نظرية رقم واحد فهي النظرية التي لا مقدمات لها، ولابد أن تكون بديهية.
وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بُني على نظريات أو مقدمات بديهية، ثم تطورت بعد ذلك إلى اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار. أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه: {عَالِمِ الغيب والشهادة} أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه؛ ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق؛ لأنه ليس معروفًا عند البعض، ومجهولًا عند غيرهم، وليس له مقدمات توصلنا إليه؛ لأنه الغيب الذي ينفرد به الحق عزّ وجلّ.
ونجد الحق سبحانه يقول: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ...} [الجن: 26-27].
فسبحانه عالم الغيب المطلق، وهو يختلف عن الغيب المستور عن البعض، ويقول الحق عن مواعيد الكشف عن أسرار الغيب المستور: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ...} [البقرة: 255].
وحين يشاء الله أن يكشف عن بعض أسرار الغيب فهو يحدد الوقت الذي يشاؤه لذلك، وكل شيء في الكون له ميعاد ميلاد؛ مثل: الكهرباء، والذرة، والوصول إلى القمر، وغزو الفضاء، وهذه كلها أشياء لها مواعيد ميلاد.
ويبحث العلماء عنها باستخدام المقدمات. ولكنهم لا يصلون إلى سر ميلاد أي اكتشاف إلا بإذن الله حين يلفتهم إلى هذا السرّ؛ إما بالبحث العلمي، وإما أن يتم معرفته صدفة.
وهكذا نجد أن البشر يُحَاطون عِلْمًا بهذه الأسرار بعد مقدمات وبإذن من الله.
وما دام الحق سبحانه هو عالم الغيب؛ فيكون سبحانه عالمًا بالشهادة من باب أولى، وقد يظن ظان أنه جلس في مكان معزول مستور ويفعل ما يريد، فلن يشهده الله؛ لأنه قد يفعل ما يريد دون أن يراه أحد، لكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة، فلا يوجد مستور عنه في هذا الكون، فلا الغيب يغيب عن علمه، ولا العالم المشهود يغيب عن علمه.
وما دام قد جاء الحق هنا بقوله: {عَالِمِ الغيب والشهادة} فلابد أن يأتي من بعدها {يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم مقدمًا بجزاء ما ستفعلونه من خير أو شر حتى لا يقول أحد: إنه لم يكن يعرف، أو أنه لو علم أن فعله يؤدي إلى الشر لما فعل؛ وحتى يكون كل إنسان شهيدًا على نفسه؛ لأن الله أبلغه بالجزاء، فيكون الجزاء عدلًا لا ظلمًا.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] فأنت الذي تحكم على نفسك. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ}
قوله تعالى: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ}
فيها وجهان:
أحدهما: أنها المتعديةُ إلى مفعولين أولهما نا.
والثاني: قوله: {مِنْ أخباركم}. وعلى هذا ففي {مِنْ} وجهان:
أحدهما: أنها غيرُ زائدةٍ، والتقدير: قد نَبَّأنا اللَّهُ أخبارًا مِنْ أخباركم، أو جملةً من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف.
والثاني: أن {مِنْ} مزيدةٌ عند الأخفش لأنه لا يَشْترط فيها شيئًا. والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني من الوجهين الأوَّلَيْن: أنها متعديةٌ لثلاثة كأعلم، فالأولُ والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوف اختصارًا للعلم به والتقدير: نَبَّأنا الله مِنْ أخباركم كَذِبًا ونحوه.
قال أبو البقاء: قد تتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفان، تقديره: أخبارًا مِنْ أخباركم مُثْبَتَة، و{مِنْ أخباركم} تنبيه على المحذوف وليست {مِنْ} زائدة، إذ لو كانت زائدة لكانت مفعولًا ثانيًا، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ لأن المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا البابِ لَزِم ذِكْرُ الثالث. وقيل: {مِنْ} بمعنى عن.
قلت: قوله: إنَّ حذف الثالث خطأ إنْ عنى حَذْفَ الاقتصارِ فمسَلَّم، وإن عنى حَذْفَ الاختصار فممنوعٌ، وقد مَرَّ بك في هذه المسألة مذاهبُ الناس. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}
وقال بعد هذا: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة...} الآية فيها أربع سؤالات: الأول: قوله في الأولى {وسيرى الله عملكم} بواو النسق ولم يرد فيها {والمؤمنون} وقال فيها {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} وقال في الثانية {فسيرى الله} بفاء التعقيب وفيها {والمؤمنون} ولم يقل في الأولى {والمؤمنون} وقال: {وستردون} بالواو وفى الأولى {ثم تردون}.
فاختلفت الآيتان في ثلاثة مواضع فيسأل عنها وهل كان يصح وقوع الأولى في موضع الثانية؟ والثانية في موضع الأولى؟ وكل منهما على ما بنى؟ فهذه أربعة أسئلة.
والجواب عنها على الجملة أن الآية الأولى في المنافقين لم يخالطهم سواهم والثانية في طائفة من المؤمنين كان فيهم تقصير ولهم إيمان فأنسوا وقوى رجاؤهم قال الطبرى: هي فيمن تاب من المخلفين.