فصل: قال ابن عطية في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيتين:

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ}
قيل إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك وذلك أن بعض المنافقين اعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في القعود قبل مسيره فأذن لهم فخرجوا من عنده وقال أحدهم والله ما هو إلا شحمة لأول آكل، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل فيهم القرآن، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم: والله لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فيكم قرآن، فقالوا له وما ذلك؟ فقال لا أحفظ إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس، فقال لهم مخشي والله لوددت أن أجلد مائة جلدة ولا أكون معكم، فخرج حتى لحق برسول الله صلى اله عليه وسلم، فقال له ما جاء بك؟ فقال: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح وأنا في الكنّ، فروي أنه ممن تاب وقوله: {فأعرضوا عنهم} أمرنا بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق.
وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله، بل كان لكل واحد منهم ميدان المغالطة مبسوطًا، وقوله: {رجس} أي نتن وقذر، وناهيك بهذا الوصف محطة دنياوية، ثم عطف بمحطة الآخرة فقال: {ومأواهم جهنم} أي مسكنهم، ثم جعل ذلك جزاء بتكسبهم المعاصي والكفر مع أن ذلك مما قدره الله وقضاه لا رب غيره ولا معبود سواه، وأسند الطبري عن كعب بن مالك أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جلس للناس فجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وقوله: {يحلفون لكم لترضوا عنهم}، هذه الآية والتي قبلها مخاطبة للمؤمنين مع الرسول، والمعنى يحلفون لكم مبطلين ومقصدهم أن ترضوا لا أنهم يفعلون ذلك لوجه الله ولا للبر، ولقوله: {فإن ترضوا} إلى آخر الآية، شرط يتضمن النهي عن الرضى عنهم، وحكم هذه الآية يستمر في كل مغموص عليه ببدعة ونحوها، فإن المؤمن ينبغي أن يبغضه ولا يرضى عنه لسبب من أسباب الدنيا. اهـ.

.قال الخازن في الآيتين:

قوله: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} يعني إذا رجعتم من سفركم إليهم يعني إلى المتخلفين بالمدينة من المنافقين {لتعرضوا عنهم} يعني لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم ولا تؤبخوهم بسبب تخلفهم {فأعرضوا عنهم} يعني فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق.
وقيل: يريد ترك الكلام يعني لا تكلموهم ولا تجالسوهم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لا تجالسوهم ولا تكلموهم قال أهل المعاني إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم فقال تعالى: {إنهم رجس} يعني أن بواطنهم خبيثة نجسة وأعمالهم قبيحة {ومأواهم} يعني مسكنهم في الآخرة {جهنم جزاء بما كانوا يكسبون} يعني من الأعمال الخبيثة في الدنيا.
قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلًا من المنافقين فقال النبي: صلى الله عليه وسلم: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لا إله إلا هو أنه لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها {يحلفون لكم لترضوا عنهم} يعني: يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم {فإن ترضوا عنهم} يعني فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا لكم وقبلتم عذرهم {فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} يعني أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم أبدًا. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِمْ، قَالَ عَزَّ وجل: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ}: يَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ أَصِحَّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} مِنْ سَفَرِكُمْ هَذَا عَنْ جَمِيعِ سَيِّئَاتِهِمْ {قُلْ} أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ حِينَئِذٍ {لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} لَنْ نُصَدِّقَكُمْ تَصْدِيقَ جُنُوحٍ وَائْتِمَانٍ لَكُمْ بِتَلَبُّسِكُمْ بِالْإِسْلَامِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ، وَلَا عَمَلًا بِالظَّوَاهِرِ، وَلِمَاذَا؟ {قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ} بِوَحْيِهِ إِلَى رَسُولِهِ الْمُهِمَّ {مِنْ أَخْبَارِكُمْ} الَّتِي تُسِرُّونَهَا فِي ضَمَائِرِكُمْ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِظَوَاهِرِكُمُ الَّتِي تَعْتَذِرُونَ بِهَا، وَنَبَأُ اللهِ هُوَ الْحَقُّ الْيَقِينُ، وَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ لَا يَقْبَلُ الْبَاطِلَ، وَلَا يُصَدِّقُ الْكَاذِبَ، وَلَمْ يَقُلْ {نَبَّأَنِي} وَهُوَ صلى الله عليه وسلم الْمُنَبَّأُ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُنْبِئَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا النَّبَأُ خَاصًّا بِهِ، وَاعْتِذَارُهُمْ لِلْجَمِيعِ يَقْتَضِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمِيعَ عَالِمُونَ بِمَا فَضَحَهُمُ اللهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَهُمْ هُوَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَهُ مِنَ الرِّيَاسَةِ، وَمَا لِخَبَرِهِ مِنَ الثِّقَةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا أَحَدٌ، وَالتَّأْثِيرِ الَّذِي يُحْسَبُ لَهُ كُلُّ حِسَابٍ. فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّبْلِيغَاتِ الرَّسْمِيَّةِ الْعُلْيَا الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، دَعْ كَوْنَهُ أَسْمَى وَأَعْلَى لِأَنَّهُ نَبَأُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} بَعْدَ الْآنَ. وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ: إِمَّا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ، وَإِمَّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِذْعَانِ فِي الْإِيمَانِ، الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ. وَأَمَّا أَقْوَالُكُمْ فَلَا قِيمَةَ لَهَا وَإِنْ أَكَّدْتُمُوهَا بِالْأَيْمَانِ، فَإِنْ تُبْتُمْ وَأَنَبْتُمْ، وَشَهِدَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ بِصَلَاحِ سَرِيرَتِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَكُمْ، وَيُعَامِلُكُمْ رَسُولُهُ بِمَا يُعَامِلُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَشْهَدُ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ بِإِخْلَاصِهِمْ وَصِدْقِهِمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْإِصْرَارَ عَلَى نِفَاقِكُمْ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى نِفَاقِ سُوقِ كَذِبِكُمْ بِأَعْذَارِكُمْ وَأَيْمَانِكُمْ، فَسَيُعَامِلُكُمْ رَسُولُهُ بِمَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جِهَادِكُمْ وَالْإِغْلَاظِ عَلَيْكُمْ كَإِخْوَانِكُمُ الْكُفَّارِ الْمُجَاهِرِينَ، وَعَدَمِ السَّمَاحِ لَكُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ أَبَدًا وَلَا بِأَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُ عَدُوًّا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ إِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ {ثُمَّ تُرَدُّونَ} مِنْ هَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى الذُّلِّ وَالْمَوْتِ عَلَيْهِ: {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الَّذِي يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، وَمَا تَكْتُمُونَ وَمَا تُظْهِرُونَ.
وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ عِلْمُهُ، وَالشَّهَادَةُ: مَا يَشْهَدُونَهُ وَيَعْرِفُونَهُ.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عِنْدَمَا تُحْشَرُونَ وَتُحَاسَبُونَ، وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ، وَهُوَ مَا أَوْعَدَكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي غَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (4: 145).
وَمِنَ الْفِقْهِ فِي الْآيَةِ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ تَحَامِيَ كُلِّ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يَحْتَاجُ فَاعِلُهُ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَوَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ «إِيَّاكَ وَكُلَّ أَمْرٍ يُعْتَذَرُ مِنْهُ» رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى غَيْرُهُ مِثْلَهُ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ آخَرَ.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} سَيُؤَكِّدُونَ لَكُمُ اعْتِذَارَهُمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ إِذَا انْقَلَبْتُمْ وَتَحَوَّلْتُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ سَفَرِكُمْ لِأَجْلِ أَنْ تُعْرِضُوا عَنْ عَتْبِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى قُعُودِهِمْ مَعَ الْخَالِفِينَ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَالْعَجَزَةِ، وَبُخْلِهِمْ بِالنَّفَقَةِ، وَلَمْ يُذْكَرِ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُمُولِهِ لِكُلِّ مَا يُعْتَذَرُ عَنْهُ: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} إِعْرَاضَ إِهَانَةٍ وَاحْتِقَارٍ، لَا إِعْرَاضَ صَفْحٍ وَإِعْذَارٍ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَبْغُونَ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَرْجُونَهُ مِنْهُ بَلْ عَلَى ضِدِّهِ، وَقَدْ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أَيْ قَذَرٌ مَعْنَوِيٌّ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ تَنَزُّهًا عَنِ الْقُرْبِ مِنْهُ بِأَشَدَّ مِمَّا يَتَنَزَّهُ الطَّاهِرُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ عَنْ مُلَابَسَةِ الْأَرْجَاسِ وَالْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ. وَهَذَا بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (28) وَسَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الرِّجْسِ فِي تَفْسِيرِ آية: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (5: 90) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَيْ وَمَلْجَؤُهُمُ الْأَخِيرُ نَارُ جَهَنَّمَ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَعْمَالِ النِّفَاقِ الَّتِي دَنَّسَتْ أَنْفُسَهُمْ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ آيَاتِ اللهِ الَّذِي زَادَهُمْ رِجْسًا عَلَى رِجْسِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ (125) الْآتِيَةِ.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} فَتَسْتَدِيمُوا مُعَامَلَتَهُمُ السَّابِقَةَ بِظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ وَهَذَا غَرَضٌ آخَرُ وَرَاءَ غَرَضِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ لَا يَهْنَأُ عَيْشُهُمْ بِدُونِهِ، وَلَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَهُ وَلَوْ كَانَ إِسْلَامُهُمْ عَنْ إِيمَانٍ لَكَانَ غَرَضُهُمُ الْأَوَّلُ إِرْضَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آية: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} (62) إِلَخْ. وَلَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ وَهَذِهِ حَالَتُهُمْ {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} فَرْضًا وَقَدْ أَعْلَمَكُمُ اللهُ بِحَالِهِمْ {فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} عَنْ أَمْرِهِ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَذَا الْفُسُوقَ سَبَبٌ أَوْ عِلَّةٌ لِسُخْطِ اللهِ تَعَالَى، فَالْحُكْمُ بِعَدَمِ رِضَاهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بِذَوَاتِهِمْ وَشُخُوصِهِمْ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إِذَا فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ وَآمَنَ لَهُمْ بِاعْتِذَارِهِمْ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ كَانَ فَاسِقًا مِثْلَهُمْ، مَحْرُومًا مِنْ رِضَائِهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ مَنْ يَتُوبُ مِنْهُمْ وَيُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ يَخْرُجُ مِنْ حُدُودِ سُخْطِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدْخُلُ فِي حَظِيرَةِ مَرْضَاتِهِ؛ إِذْ لَا يُعَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَاسِقًا. فَأَحْكَامُ اللهِ الْعَامَّةُ وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ لَا بِالذَّوَاتِ وَالْأَعْيَانِ، وَلَوْ قَالَ: {فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ} لَمَا أَفَادَ التَّعْبِيرُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ وَالْمَعَانِيَ، بَلْ كَانَ يَكُونُ حُكْمًا عَلَى أَفْرَادٍ مُعَيَّنِينَ، مُسَجِّلًا عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ عَلَى كَفْرِهِمْ وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَمَا أَبْعَدَ هَذَا عَنْ حِكْمَةِ اللهِ وَعَنْ هِدَايَةِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ؟
وَلَا يُنَافِي هَذَا التَّحْقِيقُ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابِهِمَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِأَلَّا يُجَالِسُوهُمْ وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مَقْصُودُونَ مِنَ الْآيَاتِ بِذَوَاتِهِمْ وَشُخُوصِهِمْ كَالَّذِينِ نُهِيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَعَلَّلَهُ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِ، فَإِنَّهُ حَلَفَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ عَوْدَتِهِ بِأَلَّا يَتَخَلَّفَ عَنْهُ، وَطَلَبَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَالْآيَاتُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ. وَهِيَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ بِمَا فِيهَا مِنْ بَيَانِ مَقَاصِدِهِمُ الْخَفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِذَارُ وَالْحَلِفُ مِنْ سَجَايَاهُمْ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ كَثْرَةَ الْحَلِفِ؛ لِشُعُورِ الْمُنَافِقِ دَائِمًا بِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ.
وَيَجِبُ التَّنَبُّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِجَهْلٍ فَظِيعٍ- وَقَفْنَا عَلَيْهِ بِمُذَاكَرَةِ بَعْضِ الْمُشْتَغِلِينَ بِعُلُومِ الدِّينِ التَّقْلِيدِيَّةِ- مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا عَابَهُ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَاتِّخَاذِ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِهِ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَهُ فِيمَا يَطْلُبُونَ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِمَّا لَا يُنَالُ بِالْكَسْبِ، فَهُوَ خَاصٌّ بِهِمْ وَبِأَوْلِيَائِهِمْ وَشُفَعَائِهِمْ وَأَنَّ وُقُوعَ مِثْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يُنَافِي صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ، وَالِاعْتِدَادَ بِإِسْلَامِهِمْ؛ لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ مَنْ يَدْعُو الْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ وَيَجْعَلُهَا وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى تَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ وَتُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَمَنْ يَدْعُو الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لِذَلِكَ وَهُمْ عِبَادُ اللهِ الْمُكْرَمُونَ، الَّذِينَ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ؟؟
جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الشِّرْكَ وَالْكُفْرَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ فَمَنْ يَدْعُو مَعَ اللهِ صَنَمًا أَوْ كَوْكَبًا، كَمَنْ يَدْعُو نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا، عَلَى أَنَّ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ كَانَتْ تَمَاثِيلَ لِذِكْرَى بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَالْقُبُورِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ نِسْبَةً صَحِيحَةً أَوْ مُزَوَّرَةً، وَلَكِنْ مَاذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمُدَافِعُونَ عَنِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَدْعُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ، مُتَوَسِّلِينَ بِهِمْ وَمُسْتَشْفِعِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعَ الْقُبُورِيُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُنَنَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ تَحْذِيرًا وَإِنْذَارًا بِقَوْلِهِ: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ» الْحَدِيثَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِرَارًا، وَفُصِّلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} (31) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا.
وَيَذْكُرُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ بِالْقُرْآنِ وَتَارِيخِ الْإِسْلَامِ فَرْقًا آخَرَ بَيْنَ شِرْكِ الْمُسْلِمِينَ وَشِرْكِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ السَّابِقِينَ اتَّخَذُوا أَوْثَانَهُمْ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ آلِهَةً وَأَرْبَابًا، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الْأَوْلِيَاءَ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ طَلَبًا لِشَفَاعَتِهِمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ آلِهَةً وَلَا أَرْبَابًا وَإِنَّمَا يَتَّخِذُونَهُمْ وَسَائِلَ وَوَسَائِطَ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِثْلَهُمْ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلِ الْفَرِيقَيْنِ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ أَصْنَامَهُمْ أَرْبَابًا، بَلْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقَهُمْ وَمُدَبِّرَ أُمُورِهِمُ الَّذِي يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا مُقْتَضَى لُغَتِهِمْ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يُسَمُّونَهَا آلِهَةً لِأَنَّ الْإِلَهَ فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالْمَعْبُودُ هُوَ مَنْ يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَيُدْعَى فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ النَّاسُ بِكَسْبِهِمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ، وَيُعَظَّمُ وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالذَّبَائِحِ وَغَيْرِهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ سُلْطَانُهُ عَلَى النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى أَوْ بِشَفَاعَتِهِ عِنْدَ اللهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا. وَسَيُعَادُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِيهِ، فَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ تَوَسُّلًا فِي عُرْفِ بَعْضِ النَّاسِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَلَا عَنْ كَوْنِ اسْمِهَا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عِبَادَةً وَهُوَ مَا كَانَ يُسَمِّيهَا بِهِ أَهْلُ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَإِنَّمَا التَّوَسُّلُ الشَّرْعِيُّ التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِمَا شَرَعَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا بِالْأَهْوَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَا بِالتَّقَالِيدِ الْمُتَّبَعَةِ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}
من كان مسخوطَ الحقِّ لا ينفعه أن يكون مرضيَّ الخَلْقِ، وليست العِبْرَةُ بقولِ غيرِ اللهِ إِنَّما المدارُ على ما سَبَقَ من السعادة في حُكْمِ الله. اهـ.