فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}.
الحق سبحانه وتعالى بعد أن أعلمنا أن آدم حين يهبط إلى الأرض سيتلقى من الله منهجا لحركة حياته. من اتبعه خرج من حياته الخوف والحزن. وأصبح آمنا في الدنيا والآخرة. أراد الله تعالى أن يعطينا الصورة المقابلة. فالحكم في الآية السابقة كان عن الذين اهتدوا. والحكم في هذه الآية عن الذين كفروا. يقول الحق تبارك وتعالى.
{وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} والكفر كما بينا هو محاولة ستر وجود الله واجب الوجود. ومحاولة ستر هذا الوجود هو إعلان بأن الله تعالى موجود. فأنت لا تحاول أن تستر شيئا إلا إذا كان له وجود أولا.
إن الشيء الذي لا وجود له لا يحتاج إلى ستر؛ لأنه ليس موجودا في عقولنا. وعقولنا لا تفهم ولا تسع إلا ما هو موجود. توجد الصورة الذهنية أولا.. ثم بعد ذلك يوجد الاسم أو الصورة الكلامية. ولذلك إذا حدثك إنسان عن شيء ليس له وجود فأنت لا تفهمه. ولا تستطيع أن تعيه إلا إذا شبه لك بموجود. كأن يقال لك: مثل هذا الجبل أو مثل هذه البحيرة. أو مثل قرص الشمس أو غير ذلك حتى تستطيع أن تفهم. فأنت لا تفهم غير موجود إلا إذا شبه بموجود.
وكل شيء لابد أن يكون قد وجد أولا. ثم بعد ذلك تجتمع مجامع اللغة في العالم لتبحث عن لفظ يعبر عنه بعد أن وجد في الصورة الذهنية. فلم يكن هناك اسم للصاروخ مثلا قبل أن يوجد الصاروخ. ولا لسفينة الفضاء قبل أن تخترع. ولا لأشعة الليزر قبل أن تكتشف. إذن فكل هذا وجد أولا. ووضع له الاسم بعد ذلك.
الذين كفروا يحاولون ستر وجود الله. وستر وجود الله سبحانه وتعالى هو إثبات لوجوده. لأنك لا تستر شيئا غير موجود. وهكذا يكون الكفر مثبتا للإيمان. وعقلك لا يستطيع أن يفهم الاسم إلا إذا وجد المعنى في عقلك. وأنت لا تجد لغة من لغات العالم. ليس فيها اسم الله سبحانه وتعالى. بل إن الله جل جلاله- وهو غيب عنا- إذا ذكر اسمه فهمه الصغير والكبير. والجاهل والعالم. والذي طاف الدنيا. والذي لم يخرج من بيته. كل هؤلاء يفهمون الله بفطرة الإيمان التي وضعها في قلوبنا جميعا.
إذن الذين كفروا يحاولون ستر وجود الله سبحانه وتعالى.. وقوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} والآية هي الشيء العجيب اللافت. فهناك في الكون آيات كونية مثل الشمس والقمر والنجوم والأرض. والجبال والبحار وغير ذلك. هذه تسمى آيات. شيء فوق قدرة البشر خلقها الله سبحانه وتعالى لتكون آية في كونه وتخدم الإنسان.
وهناك الآيات وهي المعجزات. عندما يرسل الله رسولا أو نبيا إلى قومه فإنه سبحانه يخرق له قوانين الكون ليثبت لقومه أنه نبي مرسل من عند الله سبحانه وتعالى.
وهذه الآيات مقصود بها من شهدها. لأنها تأتي لتثبيت المؤمنين بالرسل. وهم يمرون بأزمة يحتاجون فيها إلى التثبيت. ودلالة على صدق رسالة النبي لقومه.. وتطلق الآيات على آيات القرآن الكريم. كلام الله المعجز الذي وضع فيه سبحانه وتعالى ما يثبت صدق الرسالة إلى يوم الدين.
يحدثنا الله سبحانه في آياته. عن كيفية خلق الإنسان. وعن منهج السماء للأرض وغير ذلك.
والذين كذبوا بآيات الله. هم الكافرون. وهم المشركون. وهم الذين يرفضون الإسلام. ويحاربون الدين. هؤلاء جميعا. حدد لنا الله تعالى مصيرهم. ولكن هل التكذيب عدم قدرة على الفهم؟ نقول أحيانا يكون التكذيب متعمدا مثلما حدث لآل فرعون عندما أصابهم الله بآفات وأمراض وبالعذاب الأصغر حتى يؤمنوا. ولكنهم رغم يقينهم بأن هذه الآيات من الله سبحانه وتعالى. لم يعترفوا بها.. ويقول الحق جل جلاله: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
والآيات في الكون كثيرة. لو أننا التفتنا إليها لآمَنَّا. فهي ليست محتاجة إلى فكر. بل إن الله تعالى، رحمة بنا جعلها ظاهرة. ليدركها الناس. كل الناس. ولكن البعض رغم ذلك يكذب بآيات الله. وهؤلاء هم الذين يريدون أن يتبعوا هوى النفس. والحق سبحانه وتعالى جمع الكافرين والمكذبين بآيات الله في عقاب واحد.. وقال جل جلاله: {أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} والصاحب هو الذي يألف صاحبه. ويحب أن يجلس معه. ويقضي أجمل أوقاته. فكان قوله تعالى: أصحاب النار. دليل على عشق النار لهم. فهي تفرح بهم، عندما يدخلونها. كما يفرح الصديق بصديقه. ولا تريد أن تفارقهم أبدا.. ولذلك اقرأ الحق سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30].
وهكذا نرى مدى العشق، بين النار والكافرين. إن النار تصاحبهم في كل مكان. وهي ليست مصاحبة كريهة بالنسبة للنار. ولكنها مصاحبة تحبها النار. فالنار حين تحرق كل كافر وآثم ومنافق تكون سعيدة. لأنها تعاقب الذين كفروا بمنهج الله وكذبوا بآياته في الحياة الدنيا.. وكذلك الحال بالنسبة للجنة. فإن الجنة أيضا تحب مصاحبة كل من آمن بالله وأخلص له العبادة وطبق منهجه.. واقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23].
أي أن الجنة تصاحب المؤمنين. وتحبهم وتلازمهم. مثلما تصاحب النار الكافرين والمكذبين.. وكما أن النار تكون سعيدة وهي تحرق الكافر. فالجنة تكون سعيدة وهي تمتع المؤمن.. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي أن العذاب فيها دائم. لا يتغير ولا يفتر. ولا يخفف. بل هو مستمر إلى الأبد.. واقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 86].
وهكذا نعرف أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل المنهج إلى الأرض مع آدم، وأن آدم. نزل إلى الأرض ومعه الهدى ليطبق أول منهج للسماء على الأرض. فكأن الله سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان لحظة واحدة على الأرض دون أن يعطيه المنهج الذي يبين له طريق الهدى وطريق الضلال. ومع المنهج شرعت التوبة. وشرع قبول التوبة حتى لا ييأس الإنسان. ولا يحس أنه إذا أخطأ أو نسي أصبح مصيره جهنم. بل يحس أن أبواب السماء مفتوحة له دائما. وأن الله الذي خلقه رحيم به. إذا أخطأ فتح له أبواب التوبة وغفر له ذنوبه. حتى يحس كل إنسان برعاية الله سبحانه وتعالى له هو على الأرض. من أول بداية الحياة.
فالمنهج موجود لمن يريد أن يؤمن. والتوبة قائمة لكل من يخطئ.
وحذر الله سبحانه وتعالى آدم وذريته أنه من يطع ويؤمن يعش الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة. ومن يكفر ويكذب. فإن مصيره عذاب أبدي.
لقد عرف الله آدم بعدوه إبليس. وطلب منه أن يحذره. فماذا فعل بنو آدم؟ هل استقبلوا منهج الله بالطاعة أو بالمعصية؟ وهل تمسكوا بتعاليم الله. أو تركوها وراء ظهورهم؟. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
و{الذين} مبتدأ وما بعدها صلة وعائد، و{بآياتنا} متعلّق ب {كذبوا} ويجوز أن تكون أن تكون الآية من باب الأعمال؛ لأن {كفروا} يطلبها، ويكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوّل، والتَّقدير: والذين كفروا بنا وكذّبوا بآياتنا.
و{أولئك} مبتدأ ثان، و{أصحاب} خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون {أولئك} بدلًا من الموصول، أو عطف بيان له، و{أصحاب} خبر المبتدأ الموصول.
وقوله: {هم فيها خالدون} جملة اسمية في محلّ نصب على الحال للتَّصريح بذلك في مواضع قال تعالى: {أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدينَ}.
وأجاز أبو البقاء: أن تكون حالًا من {النار} قال: لأن فيها ضميرًا يعود عليها، ويكون العامل فيها معنى الإضافة، أو اللاَّم المقدرة.
وقد عرف ما في ذلك، ويجوز أن تكون في محل رفع خبر ل {أولئك} أيضًا، فيكون قد أخبر عنه بخبرين:
أحدهما: مفرد وهو {أصحاب}.
والثاني: جملة، وقد عرف ما فيه من الخلاف.
و{فيها} متعلّق ب {خالدون} قالوا: وقد حذف من الكلام الأوّل ما أثبت في الثاني، ومن الثاني ما أثبت في الأول، والتقدير: فمن تبع هُدَاي فلا خوف ولا حُزْن يلحقه، وهو صاحب الجَنَّة، ومن كفر وكذب لحقه الخَوْفُ والحزن، وهو صاحب النار؛ لأنّ التقسيم يقتضي ذلك، ونظروه بقول الشَّاعر: الطويل:
وَإِنِّي لتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ** كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ

والآية لغة: العلامة؛ قال النَابغَةُ: الطويل:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ** لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا للعَامُ سَابِعُ

وسميت آية القرآن آية؛ لأنه علامة لانفصال ما قبلها عما بعدها، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها تجمع حروفًا من القرآن، فيكون من قولهم، خَرَجَ بنُو فلاَنٍ بآيتِهِمْ أي: بجماعتهم؛ قال: الطويل:
خَرَجْنَا مَنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا ** بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ المَطَافِلاَ

واختلف النحويون في وزنها: فمذهب سيبويه والخليل أنها فَعَلَة والأصل: أَيَيَة- بفتح العين- تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الفًا، وهو شاذّ؛ لأنه إذا اجتمع حرفا عِلّة أعلّ الأخير؛ لأنه محلّ التغيير نحو: هوى وحوى، ومثلها في الشّذوذ: غَايَة، وطَايَة، وَرَايَة.
ومذهب الكِسَائِيّ أن أصلها: آيِيَة على وزن فَاعِلَة، فكان القياس أن يدغم فيقال: آية كدابّة، إلاّ أنه ترك ذلك تخفيفًا، فحذوفوا عينها، كما خففوا كَيْنُونة والأصل: كيّنونة بتشديد الياء، وضعفوا هذا بأن كيّنونة أثقل فَنَاسب التَّخفيف بخلاف هذه.
ومذهب الفَرَّاء أنها فَعْلَة بسكون العين، واختاره أبو البَقَاء قال: لأنها من تايَّا القوم، إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء، فظهرت الياء الأولى، والهمزة الأخير بدل من ياء، ووزنه أفعال والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كانت عينها واو لقالوا في الجمع: آواء ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفًا على غير قياس.
يعني: أن حرف العلّة لا يقلب حتى يتحرّك وينفتح ما قبله.
وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها آيِيَة بكسر العَيْنِ مثل نَبِقَة فَأُعِلّ، وهو في الشّذوذ كمذهب سيبويه والخَليل.
وقيل: وزنها فَعُلَة بضم العَيْن، وقيل: أصلها: أَيَاة بإعلال الثاني، فقلبت: بأن قدمت الازم، وأخرت العين، وهو ضعيف.
فهذه ستة مذاهب لا يسلم واحد منها من شذوذ. اهـ.

.فصول نفيسة:

.فصل نفيس لابن تيمية:

سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَنْ آدم لَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ: هَلْ سَجَدَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ أَمْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ خَاصَّةً؟ وَهَلْ كَانَ جبرائيل وميكائيل مَعَ مَنْ سَجَدَ؟ وَهَلْ كَانَتْ الْجَنَّةُ الَّتِي سَكَنَهَا جَنَّةَ الْخُلْدِ الْمَوْجُودَةِ؟ أَمْ جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ خَلَقَهَا اللَّهُ لَهُ؟ وَلَمَّا أُهْبِطَ هَلْ أُهْبِطَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ؟ أَمْ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ مِثْلِ بَنِي إسْرَائِيلَ.
فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَسْجَدَ لَهُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} فَهَذِهِ ثَلَاثُ صِيَغٍ مُقَرِّرَةٍ لِلْعُمُومِ وَلِلِاسْتِغْرَاقِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {الْمَلَائِكَةِ} يَقْتَضِي جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ: كَقوله: «رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» فَهُوَ رَبُّ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ.
الثَّانِي: {كُلُّهُمْ} وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْعُمُومِ.
الثَّالِثُ قَوْلُهُ: {أَجْمَعُونَ} وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْعُمُومِ. فَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ؛ بَلْ مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ فَقَدْ رَدَّ الْقُرْآنَ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ وَهَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ قُوَى النَّفْسِ الصَّالِحَةِوالشَّيَاطِينَ قُوَى النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ وَيَجْعَلُونَ سُجُودَ الْمَلَائِكَةِ طَاعَةَ الْقُوَى لِلْعَقْلِ وَامْتِنَاعَ الشَّيَاطِينِ عِصْيَانَ الْقُوَى الْخَبِيثَةِ لِلْعَقْلِ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا أَصْحَابُ رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا وأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَعَبِّدَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ نَحْوُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ الَّتِي لَا إسْنَادَ لَهَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى: مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَأْمُورَيْنِ بِالسُّجُودِ أَحَدٌ مِنْ الشَّيَاطِينِ؛ لَكِنْ أَبُوهُمْ إبْلِيسُ هُوَ كَانَ مَأْمُورًا فَامْتَنَعَ وَعَصَى وَجَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِدُخُولِهِ فِي الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ وَبَعْضُهُمْ مِنْ الْجِنِّ لِأَنَّ لَهُ قَبِيلًا وَذُرِّيَّةً وَلِكَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ وَلَا بِاعْتِبَارِ مِثَالِهِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ: لَا جبرائيل وَلَا ميكائيل وَلَا غَيْرُهُمَا. وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ خَوَاصِّ الْقُرْآنِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِلَافٍ فَأَقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا وَبُطْلَانَهَا بِكَلَامِ مَبْسُوطٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ. وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ إكْرَامًا لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ إبْلِيسُ: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ كُرِّمَ عَلَى مَنْ سَجَدَ لَهُ.
والْجَنَّةُ الَّتِي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَزَوْجَتَهُ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا جَنَّةٌ فِي الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ أَوْ بِأَرْضِ جُدَّةَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُلْحِدِينَ أَوْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدِعِينَ فَإِنَّ هَذَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَرُدُّانِ هَذَا الْقَوْلَ وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلَى قَوْلِهِ: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَهُمْ بِالْهُبُوطِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ عَدُوٌّ لِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ}. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا أهبطوا إلَى الْأَرْضِ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَانْتَقَلُوا إلَى أَرْضٍ أُخْرَى كَانْتِقَالِ قَوْمِ مُوسَى مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ لَكَانَ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَتَاعُهُمْ إلَى حِينٍ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الْهُبُوطِ وَبَعْدَهُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْأَعْرَافِ لَمَّا قَالَ إبْلِيسُ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}.
فَقَوْلُهُ: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} يُبَيِّنُ اخْتِصَاصَ السَّمَاءِ بِالْجَنَّةِ بِهَذَا الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {مِنْهَا} عَائِدٌ إلَى مَعْلُومٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ مَا أهبطوا فِيهِ وَقَالَ هُنَا: {اهْبِطُوا} لِأَنَّ الْهُبُوطَ يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ وَعِنْدَ أَرْضِ السَّرَاةِ حَيْثُ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ حِيَالَ السَّرَاةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْمِصْرِ الَّذِي يَهْبِطُونَ إلَيْهِ وَمَنْ هَبَطَ مِنْ جَبَلٍ إلَى وَادٍ قِيلَ لَهُ: هَبَطَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا يَسِيرُونَ وَيَرْحَلُونَ وَاَلَّذِي يَسِيرُ وَيَرْحَلُ إذَا جَاءَ بَلْدَةً يُقَالُ: نَزَلَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِي عَادَتِهِ أَنَّهُ يَرْكَبُ فِي سَيْرِهِ فَإِذَا وَصَلَ نَزَلَ عَنْ دَوَابِّهِ. يُقَالُ: نَزَلَ الْعَسْكَرُ بِأَرْضِ كَذَا وَنَزَلَ الْقُفْلُ بِأَرْضِ كَذَا؛ لِنُزُولِهِمْ عَنْ الدَّوَابِّ. وَلَفْظُ النُّزُولِ كَلَفْظِ الْهُبُوطِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ هَبَطَ إلَّا إذَا كَانَ مِنْ عُلُوٍّ إلَى سُفْلٍ. وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {قَالَ اهْبِطُوا} الْآيَتَيْنِ. فَقَوْلُهُ هُنَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ} يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ هَبَطُوا إلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا وَقَالَ: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَانِ فِيهِ يَحْيَوْنَ وَفِيهِ يَمُوتُونَ وَمِنْهُ يُخْرَجُونَ وَإِنَّمَا صَارُوا إلَيْهِ لَمَّا أهبطوا مِنْ الْجَنَّةِ.
وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ كَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحه وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتنَا وَذُرِّيَّتَك مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ فَهَلْ تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ: وَعَصَى آدَمَ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: فَلِمَاذَا تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ فَقَالَ: فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى».
وَمُوسَى إنَّمَا لَامَ آدَمَ لِمَا حَصَلَ لَهُ وَذُرِّيَّتُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالنَّكَدِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بُسْتَانًا فِي الْأَرْضِ لَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ بَسَاتِينِ الْأَرْضِ يُعَوِّضُ عَنْهُ.
وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ عَلَى أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ وَيَتُوبَ إلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ والمعائب. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: