فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى أبو صالح عن ابن عباس: أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس ابن ثعلبة، ووديعة بن خِذام الأنصاري.
وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وزيد ابن أسلم: كانوا ثمانية.
وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم كانوا سبعة.
والثاني: أنها نزلت في أبي لبابة وحده.
واختلفوا في ذنبه على قولين.
أحدهما: أنه خان الله ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح، وهذا قول مجاهد، وقد شرحناه في [الأنفال: 27].
والثاني: أنه تخلُّفه عن تبوك، قاله الزهري.
فأما الاعتراف، فهو الاقرار بالشيء عن معرفة.
والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول.
قوله تعالى: {خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا} قال ابن جرير: وُضع الواوُ مكان الباء، والمعنى: بآخر سيء، كما تقول: خلطت الماءَ واللبن.
وفي ذلك العمل قولان:
أحدهما: أن العمل الصالح: ما سبق من جهادهم، والسيء: التأخر عن الجهاد، قاله السدي.
والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم، والسيء: تخلُّفهم، ذكره الفراء.
وفي قوله: {عسى} قولان:
أحدهما: أنه واجب من الله تعالى، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق، وذلك يصد عن اللهو والإهمال. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد.
فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين، وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلّفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد.
وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقةً}؛ ذكره المهدوي.
وقال زيد بن اسلم: كانوا ثمانية.
وقيل: كانوا ستة.
وقيل: خمسة.
وقال مجاهد: نزلت الآية في أبي لُبابة الأنصاريّ خاصة في شأنه مع بني قُريظة؛ وذلك أنهم كلّموه في النزول على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأشار لهم إلى حلَقه.
يريد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وأقسم ألا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت؛ فمكث كذلك حتى عفا الله عنه، ونزلت هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلّه؛ ذكره الطبريّ عن مجاهد، وذكره ابن إسحاق في السيرة أَوْعَب من هذا.
وقال أشهب عن مالك: نزلت {وآخرُون} في شأن أبي لبابة وأصحابه.
وقال حين أصاب الذنب: يا رسول الله، أجاورك وأنخلع من مالي؟ فقال: «يجزيك من ذلك الثلث» وقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ورواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك.
والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلّفين عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لُبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رَغبوا عنّي وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين» فأنزل الله هذه الآية؛ فلما نزلت أرسل إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم.
فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلّفتْنا عنك، فتصدّق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا.
فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا» فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
قال ابن عباس: كانوا عشرة أنفس منهم أبو لبابة؛ فأخذ ثلث أموالهم وكانت كفارة الذنوب التي أصابوها.
فكان عملهم السيء التخلف بإجماع من أهل هذه المقالة.
واختلفوا في الصالح؛ فقال الطبريّ وغيره: الاعتراف والتوبة والندم.
وقيل: عملهم الصالح الذي عملوه أنهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وربطوا أنفسهم بسواري المسجد وقالوا: لا نقرب أهلًا ولا ولدًا حتى ينزل الله عذرنا.
وقالت فرقة: بل العمل الصالح غزْوُهم فيما سلف من غزو النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية وإن كانت نزلت في أعرابٍ فهي عامّة إلى يوم القيامة فيمن له أعمال صالحة وسيئة؛ فهي ترجى.
ذكر الطبري عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}.
وفي البخاري عن سُمرة بن جُنْدبُ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلِبِنٍ ذهبٍ ولِبنٍ فضّة فتلقانا رجال شَطْرٌ من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ وشَطْرٌ كأقبح ما أنت راءٍ قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السُّوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عَدْن وهذاك منزلك قالا: أمّا القوم الذي كانوا شَطْر منهم حَسَن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا تجاوز الله عنهم» وذكر البيهقي من حديث الربيع بن أنس عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء وفيه قال: «ثم صعد بي إلى السماء...» ثم ذكر الحديث إلى أن ذكر صعوده إلى السماء السابعة فقالوا: «حَيّاه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء فإذا برجل أشْمط جالسٍ على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء فأتوا نهرًا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خَلَص من ألوانهم شيء ثم إنهم أتوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثلَ ألوان أصحابهم فجلسوا إلى أصحابهم فقال يا جبريل من هؤلاء بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر وقد خلصت ألوانهم فقال هذا أبوك إبراهيم هو أوّل رجل شَمَط على وجه الأرض وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم قال وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا فتابوا فتاب الله عليهم.
فأما النهر الأول فرحمة الله وأما النهر الثاني فنعمة الله.
وأما النهر الثالث فسقاهم ربهم شرابًا طهورًا»
وذكر الحديث.
والواو في قوله: {وَآخَرَ سَيِّئًا} قيل: هي بمعنى الباء، وقيل: بمعنى مع؛ كقولك استوى الماء والخشبة.
وأنكر ذلك الكوفيون وقالوا: لأن الخشبة لا يجوز تقديمها على الماء، و{آخَرَ} في الآية يجوز تقديمه على الأوّل؛ فهو بمنزلة خلطت الماء باللبن. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} فيه قولان: أحدهما: أنهم قوم من المنافقين تابوا من نفاقهم وأخلصوا وحجة هذا القول أن قوله تعالى: {وآخرون} عطف على قوله: {وممن حولكم من الأعراب منافقون} والعطف موهم ويعضده ما نقله الطبري.
عن ابن عباس أنه قال: هم الأعراب.
والقول الثاني: وهو قول جمهور المفسرين إنها نزلت في جماعة من المسلمين من أهل المدينة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك.
واختلف المفسرون في عددهم فروي عن ابن عباس أنهم كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروي أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية أحدهم أبو لبابة وثقال وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة أحدهم أبو لبابة.
وقيل: كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، وذلك أنهم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا بعد ذلك وتابوا وقالوا أنكون في الظلال ومع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء؟ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا: والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم فرآهم فقال: «من هؤلاء»؟ فقالوا: هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم»، ورغبوا عني وتخلفوا عن الغزوة مع المسلمين.
فأنزل الله هذه الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا» فأنزل الله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} الآية.
وقال قوم: نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد: نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية.
وقال: والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًا عليه، فإنزل الله هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحله بيده فقال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة.
قالوا جميعًا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن الله سبحانه وتعالى قال: خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم.
لأن لفظة من تقتضي التبعيض.
وقال الحسن وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم.
أما تفسير الآية: فقوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} قال أهل المعاني: الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا.
فإن قلت: الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا؟
قلت: مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة.
وقوله سبحانه وتعالى: {خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا} قيل: أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: العمل الصالح هو خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك.
وقيل: إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصًا بمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم.
فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطًا فما المخلوط به.
قلت: إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملًا صالحًا بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي.
وقال: اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معًا بقي كل واحد منهما على حاله كما هو مذهبنا فإن عندنا القول بالإحباط باطل فالطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موبجة للذم والعقاب فقوله سبحانه وتعالى: {خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا} فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر فليس إلا الجمع الملطق.
وقال الواحدي: العرب تقول خالطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن كما تقول جمعت زيدًا وعمرًا.
والواو في الآية أحسن من الباء لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط.
ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ كما يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما وقوله سبحانه وتعالى: {عسى الله أن يتوب عليهم} قال ابن عباس وجمهور المفسرين: عسى من الله واجب والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} وقد فعل ذلك.
وقال أهل المعاني: لفظة عسى هنا تفيد الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الاتكال والإهمال.
وقيل: إن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله على سبيل التفضل والتطول والإحسان فذكر لفظة عسى التي هي للترجي والطمع حتى يكون العبد بين الترجي والإشفاق ولكن هو إلى نيل ما يرجوه منه أقرب لأنه ختم الآية بقوله: {إن الله غفور رحيم} وهذا يفيد إنجاز الوعد. اهـ.