فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الوجه التاسع أن الله سبحانه أمر بالصلاة عليه عقب إخباره بأنه وملائكته يصلون عليه والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا أنتم عليه فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليما لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته من شرف الدنيا والآخرة ومن المعلوم أنه لو عبر عن هذا المعنى بالرحمة لم يحسن موقعه ولم يحسن النظم فينقض اللفظ والمعنى فإن التقدير يصير إلى أن الله وملائكته ترحم ويستغفرون لنبيه فادعوا أنتم له وسلموا وهذا ليس مراد الآية قطعا بل الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله تعالى فقد تضمنت الخبر والطلب.
والوجه الثاني أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشانئين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة 159] فلعنة الله تعالى لهم تتضمن ذمه وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل للعنته.
وإذا ثبت هذا فمن المعلوم أنه لو كانت الصلاة هي الرحمة لم يصح أن يقال لطالبها من الله مصليا وإنما يقال له مسترحما له كما يقال لطالب المغفرة مستغفرا له ولطالب العطف مستعطفا ونظائره ولهذا لا يقال لمن سأل الله المغفرة لغيره قد غفر له فهو غافر ولا لمن سأله العفو عنه قد عفا عنه وهنا قد سمي العبد مصليا فلو كانت الصلاة هي الرحمة لكان العبد راحما لمن صلى عليه وكان قد رحمه برحمة ومن رحم النبي مرة رحمه الله بها عشرا وهذا معلوم البطلان.
فإن قيل ليس معنى صلاة العبد عليه رحمته وإنما معناها طلب الرحمة له من الله قيل هذا باطل من وجوه:
أحدها أن طلب الرحمة مطلوب لكل مسلم وطلب الصلاة من الله يختص رسله صلوات الله وسلامه عليهم عند كثير من الناس كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
الثاني أنه لو سمي طالب الرحمة مصليا لسمي طالب المغفرة غافرا وطالب العفو عافيا وطالب الصفح صافحا ونحوه.
فإن قيل فأنتم قد سميتم طالب الصلاة من الله مصليا؛ قيل إنما سمي مصليا لوجود حقيقة الصلاة منه فإن حقيقتها الثناء وإرادة الإكرام والتقريب وإعلاء المنزلة وهذا حاصل من صلاة العبد لكن العبد يريد ذلك من الله عز وجل والله سبحانه وتعالى يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله.
وأما على الوجه الثاني وأنه سمي مصليا لطلبه ذلك من الله فلأن الصلاة نوع من الكلام الطلبي والخبري والإرادة وقد وجد ذلك من المصلي بخلاف الرحمة والمغفرة فإنها أفعال لا تحصل من الطالب وإنما تحصل من المطلوب منه والله أعلم.
الوجه العاشر أنه قد ثبت عن النبي في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا وأنه سبحانه وتعالى قال له إنه من صلى عليك من أمتك مرة صليت عليه بها عشرا وهذا موافق للقاعدة المستقرة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل فصلاة الله على المصلي على رسوله جزاء لصلاته هو عليه ومعلوم أن صلاة العبد على رسول الله ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها وإنما هي ثناء على الرسول وإرادة من الله تعالى أن يعلي ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا والجزاء من جنس العمل فمن أثنى على رسول جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه فصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له ومناسبته له كقوله: «من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة».
و«من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». حديث صحيح. و«من صلى على النبي مرة صلى الله عليه بها عشرا» ونظائره كثيرة.
الوجه الحادي عشر أن أحدا لو قال عن رسول الله رحمه الله أو قال رسول الله رحمه الله بدل لبادرت الأمة إلى الإنكار عليه وسموه مبتدعا غير موقر للنبي ولا مصل عليه ولا مثن عليه بما يستحقه ولا يستحق أن يصلي الله عليه بذلك عشر صلوات ولو كانت الصلاة من الله الرحمة لم يمتنع شيء من ذلك.
الوجه الثاني عشر أن الله سبحانه وتعالى قال: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} [النور 63] فأمر سبحانه ألا يدعى رسوله بما يدعو الناس بعضهم بعضا بل يقال يا رسول الله ولا يقال يا محمد وإنما كان يسميه باسمه وقت الخطاب الكفار وأما المسلمون فكانوا يخاطبونه يا رسول الله وإذا كان هذا في خطابه فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ما يدعى به له من جنس ما يدعو به بعضنا لبعض بل يدعى له بأشرف الدعاء وهو الصلاة عليه ومعلوم أن الرحمة يدعى بها لكل مسلم بل ولغير الآدمي من الحيوانات كما في دعاء الاستسقاء اللهم ارحم عبادك وبلادك وبهائمك.
الوجه الثالث عشر أن هذه اللفظة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلا والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء قال:
وإن ذكرت صلى عليها وزمزما

أي برك عليها ومدحها ولا تعرف العرب قط صلى عليه بمعنى الرحمة فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة.
الوجه الرابع عشر أنه يسوغ بل يستحب لكل أحد أن يسأل الله تعالى أن يرحمه فيقول اللهم ارحمني، كما علم النبي الداعي أن يقول اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فلما حفظها قال أما هذا فقد ملأ يديه من الخير.
ومعلوم أنه لا يسوغ لأحد أن يقول اللهم صل علي بل الداعي بهذا معتد في دعائه والله لا يحب المعتدين بخلاف سؤال الرحمة فإن الله تعالى يحب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته فعلم أنه ليس معناهما واحدا.
الوجه الخامس عشر أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة كقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف 156].
وقوله: «إن رحمتي سبقت غضبي».
وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف 56].
وقوله: {وكان بالمؤمنين رحيما} [الأحزاب 43].
وقوله: {إنه بهم رؤوف رحيم} [التوبة 117].
وقول النبي: «لله ارحم بعباده من الوالدة بولدها».
وقوله: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». الحديث صحيح.
وقوله: «من لا يرحم لا يرحم».
وقوله: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي». سنده حسن.
وقوله: «والشاة إن رحمتها رحمك الله». إسناده صحيح.
فمواضع استعمال الرحمة في حق الله وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها بل في أكثرها فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة والله أعلم.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما {إن الله وملائكته يصلون على النبي} قال يباركون عليه وهذا لا ينافي تفسيرها بالثناء وإرادة التكريم والتعظيم فإن التبريك من الله يتضمن ذلك ولهذا قرن بين الصلاة عليه والتبريك عليه وقالت الملائكة لإبراهيم: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود 73].
وقال المسيح: {وجعلني مباركا أينما كنت} [مريم 31].
قال غير واحد من السلف معلما للخير أينما كنت وهذا جزء المسمى فالمبارك كثير الخير في نفسه الذي يحصله لغيره تعليما وإقدارا ونصحا وإرادة واجتهادا ولهذا يكون العبد مباركا لأن الله بارك فيه وجعله كذلك والله تعالى متبارك لأن البركة كلها منه فعبده مبارك وهو المتبارك: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان 1] وقوله: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير} [الملك 1] وسنعود إلى هذا المعنى عن قريب إن شاء الله تعالى.
وقد رد طائفة من الناس تفسير الصلاة من الله بالرحمة بأن قال الرحمة معناها رقة الطبع وهي مستحيلة في حق الله سبحانه وتعالى كما أن الدعاء منه سبحانه مستحيل وهذا الذي قاله هذا عرق عرق جهمي ينضح من قلبه على لسانه وحقيقته إنكار رحمة الله جملة وكان جهم يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل هذا إنكارا لرحمته سبحانه.
وهذا الذي ظنه هذا القائل هو شبهة منكري صفات الرب سبحانه وتعالى فإنهم قالوا الإرادة حركة النفس لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها والرب تعالى يتعالى عن ذلك فلا إرادة له والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام والرب منزه عن ذلك فلا غضب له وسلكوا هذا المسلك الباطل في حياته وكلامه وسائر صفاته وهو من أبطل الباطل فإنه أخذ في مسمى الصفة خصائص المخلوق ثم نفاها جملة عن الخالق وهذا في غاية التلبيس والإضلال فإن الخاصة التي أخذها في الصفة لم يثبت لها لذاتها وإنما يثبت لها بإضافتها إلى المخلوق الممكن ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه ولا إثبات أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له كما أن ما نفي عن صفات الرب تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق ولا إطلاق الصفة على الخالق والمخلوق وهذا مثل الحياة والعلم فإن حياة العبد تعرض لها الآفات المضادة لها من المرض والنوم والموت وكذلك علمه يعرض له النسيان والجهل المضاد له وهذا محال في حياة الرب وعلمه فمن نفى علم الرب وحياته لما يعرض فيهما للمخلوق فقد أبطل وهو نظير نفي من نفى رحمة الرب وعلمه فمن نفى رحمة الرب عنه لما يعرض في رحمة المخلوق من رقة الطبع وتوهم المتوهم أنه لا تعقل رحمة إلا هكذا نظير توهم المتوهم أنه لا يعقل علم ولا حياة ولا إرادة إلا مع خصائص المخلوق.
وهذا الغلط منشؤه إنما هو توهم صفة المخلوق المقيدة به أولا وتوهم أن إثباتها لله هو مع هذا القيد وهذان وهمان باطلان فإن الصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهم فيها شيء من خصائص المخلوقين لا في لفظها ولا في ثبوت معناها وكل من نفى عن الرب تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق بل ويلزمه نفي ذاته لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة.
ومعلوم أن الرب سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها وهذا الباطل قد التزمه غلاة المعطلة وكلما أوغل النافي في نفيه كان قوله أشد تناقضا وأظهر بطلانا ولا يسلم على محك العقل الصحيح الذي لا يكذب إلا ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما قال تعالى: {سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين} [الصافات 159] فنزه سبحانه وتعالى عما يصفه به كل أحد إلا المخلصين من عباده وهم الرسل ومن تبعهم كما قال في الآية الأخرى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} [الصافات 180- 182] فنزه نفسه عما يصفه به الواصفون وسلم على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من كل نقص وعيب وحمد نفسه إذ هو الموصوف بصفات الكمال التي يستحق لأجلها الحمد ومنزه عن كل نقص ينافي كمال حمده. اهـ.

.تفسير الآية رقم (104):

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز {عسى}، وكان الأصل فيها الترجية في المحبوب والإشفاق في المكروه، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك، وكان إخراج المال شديدًا على النفوس لاسيما في ذلك الزمان، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل، فأتبع ذلك سبحانه بقوله: {ألم يعلموا} أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة {أن الله} أي الذي له الكمال كله {هو} أي وحده {يقبل} أي من شأنه أن يقبل {التوبة} تجاوزًا {عن عباده} أي التائبين المخلصين {ويأخذ} أي يقبل قبول الآخذ لنفسه {الصدقات} أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة {وأن الله} أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام {هو} أي وحده {التواب الرحيم} أي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم. اهـ.

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وما كان ذلك صريحًا في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات، والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة، وترغيب كل العصاة في الطاعة.