فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ألم يعلموا} تقرير، والمعنى حق لهم أن يعلموا، وقوله: {وقل اعملوا} الآية، صيغة أمر مضمنها الوعيد، وقال الطبري: المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن المراد بها الذين اعتذورا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذين في ضمير قوله: {ألم يعلموا} إلا على الاحتمال الثاني من أن الآيات كلها في {الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا} [التوبة: 84]. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة}
قرأ الجمهور {يعلموا} بالياء.
وروى عبد الوارث: {تعلموا} بالتاء.
وقوله: {يقبل التوبة عن عباده} قال أبو عبيدة: أي: من عَبيده.
تقول: أخذته منك، وأخذته عنك.
قوله تعالى: {ويأخذ الصدقات} قال ابن قتيبة: أي: يقبلها.
ومثله: {خذ العفو} [الأعراف: 199] أي اقبله. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
فيه مسألتان:
الأولى قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يُكلّمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصّة التي خُصُّوا بها دوننا؛ فنزلت: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} فالضمير في {يعلموا} عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين.
قال معناه ابن زيد.
ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم.
وقوله تعالى: {هُوَ} تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور.
وتحقيق ذلك أنه لو قال: أن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبولُ رسوله قبولًا منه؛ فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبيّ ولا ملك.
الثانية قوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصدقات} هذا نصّ صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثِيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبيّ صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن تُوُفّي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حيّ لا يموت.
وهذا يبيّن أن قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقةً} ليس مقصورًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
روى الترمذِيّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فَيُربِيها لأحدكم كما يربِي أحدكم مُهْره حتى أن اللقمة لتصير مثلَ أُحُد وتصديق ذلك في كتاب الله وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربي الصدقات» قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي صحيح مسلم: «لا يتصدّق أحد بتمرة من كسبٍ طيّب إلا أخذها الله بيمينه في رواية فتربُو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» الحديث.
وروي: «إن الصدقة لتقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله والله يضاعف لمن يشاء» قال علماؤنا رحمة الله عليهم في تأويل هذه الأحاديث: إن هذا كناية عن القبول والجزاء عليها؛ كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض تعطفًا عليه بقوله: «يا ابن آدم مَرِضت فلم تَعُدْني» الحديث.
وقد تقدّم هذا المعنى في البقرة.
وخصّ اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه أو يوضع له فيه؛ فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزّه عن الجارحة.
وقد جاءت اليمين في كلام العرب بغير معنى الجارحة؛ كما قال الشاعر:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجْدٍ ** تلقّاها عَرابة باليمينِ

أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يُرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنًى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى.
وكذلك اليمين في حق الله تعالى.
وقد قيل: إن معنى «تربو في كف الرحمن» عبارة عن كِفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف؛ كأنه قال: فتربو كِفّة ميزان الرحمن.
وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أَمِرُّوها بلا كَيْف؛ قاله الترمذِي وغيره.
وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. اهـ.

.قال الخازن:

{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} هذه صيغة استفهام إلا أن المقصود منه التقرير فبشر الله هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ومعنى الآية ألم يعلم الذين تابوا أن الله تعالى يقبل التوبة الصادقة والصدقة الخالصة.
وقيل: إن المراد بهذه الآية غير التائبين ترغيبًا لهم في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما بالهم اليوم فأنزل الله هذه الآية ترغيبًا لهم في التوبة.
وقوله سبحانه وتعالى عن عباده قيل: لا فرق بين عن عباده ومن عباده إذا لا فرق بين قولك أخذت هذا العلم عنك أو منك.
وقيل: بينهما فرق ولعل عن في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشيرًا بقبول التوبة مع تسهيل سبيلها وقوله سبحانه وتعالى: {ويأخذ الصدقات} يعني يقبلها ويثيب عليها وإنما ذكر لفظ الأخذ ترغيبًا في بذل الصفقة وإعطائها الفقراء وقيل معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها.
ولما كان هو المجازي عليها والمثيب بها، أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان الفقير أو السائل هو الآخر لها وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله تعالى يقبلها من عبده المتصدق.
(ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا اخذها الرحمن بيمينه وإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله» لفظ مسلم.
وفي البخاري: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب» وفي رواية: «ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرجه الترمذي ولفظه: «إن الله سبحانه وتعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} و{يمحق الله الربا ويربى الصدقات}.
وقوله: من كسب طيب. أي: حلال.
وذكر اليمين والكف في الحديث كناية عن قبول الصدقة وأن الله سبحانه وتعالى قد قبلها من المعطي، لأن من عادة الفقير أو السائل، أخذ الصدقة بكفه اليمين، فكأن المتصدق قد وضع صدقته في القبول والإثابة.
وقوله: فتربو أي تكبر.
يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد وكبر.
والفُلوا: بضم الفاء وفتحها لغتان المهر أول ما يولد والفصيل ولد الناقة إلى أن ينفصل عنها.
وقوله سبحانه وتعالى: {وأن الله هو التواب الرحيم} تأكيد لقوله سبحانه وتعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم}
قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون، فنزلت.
وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه: ألم تعلموا بالتاء على الخطاب، فاحتمل أن يكون خطابًا للمتخلفين الذين قالوا: ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى: قل لهم يا محمد، وأن يكون خطابًا على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء.
وهو تخصيص وتأكيد أنّ الله من شأنه قبول توبة من تاب، فكأنه قيل: أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله؟ وقيل: وجه التخصيص بهو، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره، فاقصدوه ووجهوها إليه.
قال الزجاج: وأخذ الصدقات معناه قبولها، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل.
وقال ابن عطية: المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول: أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه.
وعن بمعنى مِن، وكثيرًا ما يتوصل في موضع واحد بهذه، وهذه تقول: لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره، وعن أسره ونظره انتهى.
وقيل: كلمة مِن وكلمة عَن متقاربتان، إلا أنّ عن تفيد البعد.
فإذا قيل: جلس عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته.
فلفظة عن كالتنبيه على أنه لابد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى.
والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة.
فإن قلت: أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد دل على ابتداء الغاية، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد.
وعن أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع من.
وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم.
ألا ترى إلى قوله: {وأن الله هو التواب الرحيم}، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة.
ألا ترى إلى ما روي: «ومَن تقرب إليّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة». اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} وقرئ بالتاء، والضمير إما للتائبين فهو تحقيقٌ لما سبق من قبول توبتِهم وتطهيرِ الصدقة وتزكيتِها لهم، وتقريرٌ لذلك وتوطينٌ لقلوبهم ببيان أن المتوليَ لقبول توبتِهم وأخذِ صدقاتِهم هو الله سبحانه وإن أُسند الأخذُ والتطهيرُ والتزكيةُ إليه عليه الصلاة والسلام أي ألم يعلمْ أولئك التائبون {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} الصحيحةَ الخالصةَ {عَنْ عِبَادِهِ} المخلِصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يُفصح عنه كلمةُ عن والمرادُ بهم إما أولئك التائبون، ووضعُ المظهرِ في موضع المضمرِ للإشعار بعلّية العبادةِ لقبولها، وإما كافةُ العباد وهم داخلون في ذلك دخولًا أوليًا {وَيَأْخُذُ الصدقات} أي يقبل صدقاتِهم على أن اللامَ عوضٌ عن المضاف إليه أو جنسُ الصدقاتِ المندرجُ تحته صدقاتُهم اندراجًا أوليًا أي هو الذي يتولى قَبولَ التوبةِ وأخذَ الصدقاتِ وما يتعلق بها من التطهير والتزكية، وإن كنتَ أنتَ المباشرَ لها ظاهرًا، وفيه من تقرير ما ذكر ورفعِ شأنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نهج قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} ما لا يخفى {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} تأكيدٌ لما عُطف عليه وزيادةُ تقريرٍ لما يقرره مع زيادةِ معنى ليس فيه، أي ألم يعلموا أنه المختصُّ المستأثرُ ببلوغ الغايةِ القصوى من قبول التوبةِ والرحمةِ وأن ذلك سُنةٌ مستمرةٌ له وشأنٌ دائم، والجملتان في حيز النصبِ بيعلموا بسدّ كلِّ واحدةٍ منهما مسدّ مفعوليه. وإما لغير التائبين من المؤمنين فقد روي أنهم قالوا لما تِيب على الأولين: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون فما لهم فنزلت. أي ألم يعلموا ما للتائبين من الخصال الداعيةِ إلى التكرِمة والتقريبِ والانتظامِ في سلك المؤمنين والتلقّي يحسن القَبولِ والمجالسة فهو ترغيبٌ لهم في التوبة والصدقة. اهـ.