فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
{وَآخَرُونَ} يعني من المتخلفين: {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} أي: مؤخرون أمرهم انتظارًا لحكمه تعالى فيهم، لتردّد حالهم بين أمرين {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} لتخلفهم عن غزوة تبوك.
{وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} يتجاوز عنهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي: بأحوالهم، {حَكِيمٌ} أي: فيما يحكم عليهم.
تنبيهات:
الأول: قرئ في السبعة: {مُرْجَؤُونَ} بهمزة مضمومة، بعدها واو ساكنة.
وقرئ: {مُرْجَوْنَ} بدون همزة. كما قرئ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} بهما، وهما لغتان، يقال: أرجأته وأرجيته، وكأعطيته.
ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة، كقولهم: قرأت وقريت، وتوضأت وتوضيت، وهو في كلامهم كثير.
وعلى كونه لغة أصلية فهو يائي، وقيل: إنه واوي كذا في العناية.
الثاني: روي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين. وكذا قال الأصم: إنهم منافقون أرجأهم الله، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم، وحذرهم بهذه الآية، إن لم يتوبوا، أن ينزِّل فيهم قرآنًا، فقال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}.
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد: إنهم الثلاثة الذي خلفوا، أي: عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلًا وميلًا إلى الدَّعة وطيب الثمار والظلال، لا شكًّا ونفاقًا، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجئ هؤلاء عن التوبة، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}، إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}.
قال في العناية: وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم، والجهادُ فرض كفاية، لما قيل إنه كان على الأنصار خاصة فرضَ عين، لأنهم بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه.
ألا ترى قول راجزهم في الخندق:
نَحْنُ الَّذيِنَ بَايعُوا مُحَمَّدًا ** على الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

وهؤلاء من أجلّهم، فكان تخلفهم كبيرة.
الثالث: إما في الآية، إما للشك بالنسبة إلى المخاطب، أو للإبهام بالنسبة إليه أيضًا، بمعنى أنه تعالى أبهم على المخاطبين أمرهم.
والمعنى: ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف، والمراد تفويض ذلك إلى إرادته تعالى ومشيئته، أو للتنويع، أي: أمرهم دائر بين هذين الأمرين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} هذا فريق آخر عطف خبره على خبر الفرق الآخرين.
والمراد بهؤلاء من بقي من المخلَّفين لم يتب الله عليه، وكان أمرهم موقوفًا إلى أن يقضي الله بما يشاء.
وهؤلاء نفر ثلاثة، هم: كعب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، وثلاثتهم قد تخلفوا عن غزوة تبوك.
ولم يكن تخلفهم نفاقًا ولا كراهية للجهاد ولكنهم شُغلوا عند خروج الجيش وهم يحسبون أنهم يلحقونه وانقضت الأيام وأيسوا من اللحاق.
وسأل عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تبوك.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم أتوه وصَدَقوه، فلم يكلمهم، ونهى المسلمين عن كلامهم ومخالطتهم، وأمرهم باعتزال نسائهم، فامتثلوا وبقُوا كذلك خمسين ليلة، فهم في تلك المدة مُرْجَون لأمر الله.
وفي تلك المدة نزلت هذه الآية: {ثم تاب الله عليهم} [المائدة: 71].
وأنزل فيهم قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} إلى قوله: {وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117 119].
وعن كعب بن مالك في قصته هذه حديث طويل أغر في صحيح البخاري.
على التوبة والتنبيه إلى فتح بابها.
وقد جوز المفسرون عود ضمير {ألم يعلموا} [التوبة: 104] إلى الفريقين اللذين أشرنا إليهما.
وقوله: {هو يقبل التوبة} [التوبة: 104] {هو} ضمير فصل مفيد لتأكيد الخبر.
و{عن عباده} [التوبة: 104] متعلقة بـ {يقبل} لتضمنه معنى يتجاوز، إشارة إلى أن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاصي المتوب منها.
فكأنه قيل: يقبل التوبة ويتجاوز عن عباده.
وكان حق تعدية فعل {يقبل} أن يكون بحرف (من).
ونقل الفخر عن القاضي عبد الجبار أنه قال: لعل (عن) أبلغ لأنه ينبئ عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت.
ولم يبين وجه ذلك، وأحسب أنه يريد ما أشرنا إليه من تضمين معنى التجاوز.
وجيء بالخبر في صورة كلية لأن المقصود تعميم الخطاب، فالمراد بـ {عباده} جميع الناس مؤمنهم وكافرهم لأن التوبة من الكفر هي الإيمان.
والآية دليل على قبول التوبة قطعًا إذا كانت توبة صحيحة لأن الله أخبر بذلك في غير ما آية.
وهذا متفق عليه بالنسبة لتوبة الكافر عن كفره لأن الأدلة بلغت مبلغ التواتر بالقول والعمل.
ومختلفٌ فيه بالنسبة لتوبة المؤمن من المعاصي لأن أدلته لا تعدو أن تكون دلالة ظواهر؛ فقال المحققون من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين.
مقبولة قطعًا.
ونقل عن الأشعري وهو قول المعتزلة واختاره ابن عطية وأبوه وهو الحق.
وادعى الإمام في المعالم الإجماعَ عليه وهي أولى بالقبول.
وقال الباقلاني وإمام الحرمين والمازري: إنما يقطع بقبول توبة طائفة غير معينة، يعنون لأن أدلة قبول جنس التوبة على الجملة متكاثرة متواترة بلغت مبلغ القطع ولا يقطع بقبول توبة تائب بخصوصه.
وكأنَّ خلاف هؤلاء يرجع إلى عدم القطع بأن التائب المعين تاب توبة نصوحًا.
وفي هذا نظر لأن الخلاف في توبة مستوفيةٍ أركانها وشروطها.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} الآية في سورة النساء (17).
والأخذ في قوله: {ويأخذ الصدقات} [التوبة: 104] مستعمل في معنى القبول، لظهور أن الله لا يأخذ الصدقة أخذًا حقيقيًا، فهو مستعار للقبول والجزاء على الصدقة.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مرجَوْن} بسكون الواو بدون همز على أنه اسم مفعول من أرجَاه بالألف، وهو مخفف أرجأه بالهمز إذا أخره، فيقال في مضارعه المخفف: أرجيته بالياء، كقوله: {تُرجي من تشاء منهن} [الأحزاب: 51] بالياء، فأصل مُرجَون مُرْجَيُون.
وقرأ البقية {مُرجَئُون} بهمز بعد الجيم على أصل الفعل كما قرئ {ترْجيءُ من تشاء} [الأحزاب: 51].
واللام في قوله: {لأمر الله} للتعليل، أي مؤخرون لأجل أمر الله في شأنهم.
وفيه حذف مضاف، تقديره: لأجل انتظار أمر الله في شأنهم لأن التأخير مشعر بانتظار شيء.
وجملة: {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} بيان لجملة: {وآخرون مُرجَون} باعتبار متعلق خبرها وهو {لأمر الله}، أي أمر الله الذي هو إما تعذيبهم، وإما توبته عليهم.
ويفهم من قوله: {يتوب عليهم} أنهم تابوا.
والتعذيب مفيد عدم قبول توبتهم حينئذٍ لأن التعذيب لا يكون إلا عن ذنب كبير.
وذنبهم هو التخلف عن النفير العام، كما تقدم عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] الآية.
وقبول التوبة عما مضى فضل من الله.
و{إما} حرف يدل على أحد شيئين أو أشياء.
ومعناها قريب من معنى (أو) التي للتخيير، إلا أن (إما) تدخل على كلا الاسمين المخير بين مدلوليهما وتحتاج إلى أن تتلى بالواو، و(أو) لا تدخل إلا على ثاني الاسمين.
وكان التساوي بين الأمرين مع (إما) أظهر منه مع (أو) لأن (أو) تشعر بأن الاسم المعطوف عليه مقصود ابتداء.
وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} في سورة الأعراف (115).
ويعذبهم ويتوب عليهم فعلان في معنى المصدر حذفت (أن) المصدرية منهما فارتفعا كارتفاع قولهم: تسمعُ بالمعيدي خير من أن تراه لأن موقع ما بعد (إما) للاسم نحو {إما العذاب وإما الساعة} [مريم: 75] و{وإما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنًا} [الكهف: 86].
وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل مناسب لإبهام أمرهم على الناس، أي والله عليم بما يليق بهم من الأمرين، محكم تقديره حين تتعلق به إرادته. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
والمقصودون بهذه الآية هم الثلاثة الذين سيخصهم القرآن بآيات خاصة يقول فيها: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وهم قد تخلفوا أيضًا عن غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر في التخلف أبدًا، فكل واحد يملك راحلته، وعندهم مالهم، وعندهم كل شيء، وقد قصّ واحد منهم حكايته، وبيّن لنا أنه لم يكن له عذر: وما كنت في يوم من الأيام أقدر على المال والراحلة مني في تلك الغزوة، كنت أقول: أتجهز غدًا، ويأتي الغد ولا أتجهز، حتى أنفصل الركب، فقلت ألحق بهم، ولم ألحق بهم.
هؤلاء هم الثلاثة الذين جاء فيهم القول: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}:
و{مُرْجَوْنَ} أو {مرجَئون} والإرجاء هو التأخير. أي: أن الحكم فيهم لم يظهر بعد؛ لأن الله يريد أن يبين للناس أمرًا، وخاصَّةً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينشئ في الدولة الإسلامية سجنًا يُعزَل فيه المجرم؛ وهذا لحكمة، فكونك تأخذ المجرم وتعزله عن المجتمع وتحبسه في مكان فهذا جائز. لكن النكال في أن تدعه طليقًا، وتسجن المجتمع عنه.
وهكذا تتجلى عظمة الإيمان؛ لذلك أصدر صلى الله عليه وسلم أمرًا بأن يقاطعهم الناس، فلا يكلمهم أحد، ولا يسأل عنهم أحد، حتى اقرباؤهم ولا يختلط بهم أحد في السوق أو في المسجد.
وكان أحدهم يتعمد أن يصلي قريبًا من النبي صلى الله عليه وسلم ويختلس النظرات ليرى هل ينظر النبي له أم لا؟ ثم يذهب لبيت ابن عمه ليتسلق السور، ويقول له: أتعلم أنني أحب الله ورسوله؟ فيرد عليه: الله ورسوله أعلم. وهكذا عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع عنهم، ولم يعزلهم عن المجتمع. وكذلك عزلهم عن زوجاتهم، وهو الأمر الذي يصعب التحكم فيه. وحذر صلى الله عليه وسلم زوجاتهم أن يقربوهم إلى أن يأتي الله بأمره.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}
هذا بالنسبة لنا- إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. لكن الحق سبحانه وحده هو الذي يعلم مصير كل واحد منهم.
فالتشكيك إذن هو بالنسبة لنا؛ لأنهم مُرْجَوْن لأمر الله ولم يبت فيهم بحكم لا إلى النار ولا إلى الجنة، ولم يبَت فيهم بالعفو. أما أمرهم فهو معلوم له سبحانه إما أن يعذب وإما أن يتوب؛ لأن كل حكم من الله له ميعاد يولد فيه، ولكل ميلاد حكمة، وهناك قوم عجّل الله بالحكم فيهم، وقوم أخّر الله الحكم فيهم؛ ليصفى الموقف تصفية تربية، لهم في ذاتهم، ولمن يشهدونهم.
وقد استمرت هذه المسألة أكثر من خمسين يومًا؛ ليتأدبوا الأدب الذي يؤدبهم به المجتمع الإيماني، فلم يشأ الله أن يبين الحكم حتى يستوفي هذا التأديب.
وإذا أُدِّب هؤلاء، فإن تأديبهم سيكون على مَرْأى ومسمع من جميع الناس، فيأخذون الأسوة من هذا التأديب.
ولو أن الله عجّل بالحكم، لمرّت المسألة بغير تأديب للمعتذرين كذبًا وغيرهم، فقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} وما دام سبحانه قد حكم هنا بأنهم مؤخَّرون لأمر الله، فليس لنا أن نتعجل قصتهم، إلى أن يأتي قول الله فيهم: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ...} [التوبة: 118]. اهـ.