فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي صيغة المبالغة في التواب، وفي الرحيم مع توسيط ضمير الفصل.
والتأكيد من التبشير لعباده والترغيب لهم ما لا يخفى.
قوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} فيه تخويف وتهديد: أي إن عملكم لا يخفى على الله، ولا على رسوله ولا على المؤمنين، فسارعوا إلى أعمال الخير، وأخلصوا أعمالكم لله عزّ وجلّ، وفيه أيضًا ترغيب وتنشيط، فإن من علم أن عمله لا يخفى سواء كان خيرًا أو شرًّا رغب إلى أعمال الخير، وتجنب أعمال الشرّ، وما أحسن قول زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم

والمراد بالرؤية هنا: العلم بما يصدر منهم من الأعمال، ثم جاء سبحانه بوعيد شديد فقال: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} أي: وستردّون بعد الموت إلى الله سبحانه، الذي يعلم ما تسرّونه وما تعلنونه، وما تخفونه وما تبدونه.
وفي تقديم الغيب على الشهادة: إشعار بسعة علمه عزّ وجلّ، وأنه لا يخفى عليه شيء، ويستوي عنده كل معلوم.
ثم ذكر سبحانه ما سيكون عقب ردّهم إليه فقال: {فَيُنَبّئُكُمْ} أي: يخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتفضل على من يشاء من عباده.
قوله: {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} ذكر سبحانه ثلاثة أقسام في المتخلفين: الأوّل: المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني: التائبون المعترفون بذنوبهم، الثالث: الذين بقي أمرهم موقوفًا في تلك الحال، وهم المرجون لأمر الله، من أرجيته وأرجأته: إذا أخرته.
قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص {مُرْجَوْنَ} بالواو من غير همزة.
وقرأ الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم.
والمعنى: أنهم مؤخرون في تلك الحال، لا يقطع لهم بالتوبة لاو بعدمها، بل هم على ما يتبين من أمر الله سبحانه في شأنهم {إما يُعَذّبْهُمُ} إن بقوا على ما هم عليه، ولم يتوبوا {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن تابوا توبة صحيحة وأخلصوا إخلاصًا تامًا، والجملة في محل نصب على الحال، والتقدير {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} حال كونهم، إما معذبين، وإما متوبًا عليهم {والله عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} فيما يفعله بهم من خير أو شرّ.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وأبو نعيم في المعرفة، عن أبي موسى، أنه سئل عن قوله: {والسابقون الأولون} فقال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن سعيد بن المسيب، مثله.
وأخرج ابن المنذر، وأبو نعيم، عن الحسن، ومحمد بن سيرين، مثله أيضًا.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: هم أبو بكر، وعمر، وعليّ، وسلمان، وعمار بن ياسر.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن الشعبي قال: هم من أدرك بيعة الرضوان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} قال: التابعون.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، قال: هم من بقي من أهل الإسلام، إلى أن تقوم الساعة.
وأخرج أبو الشيخ، وابن عساكر، عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أريد الفتن، قال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أيّ موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: ألا تقرءون قوله تعالى: {والسابقون الأولون} الآية أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطًا لم يشرطه فيهم.
قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان.
يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك.
قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، وما عرفت تفسيرها حتى قرأها عليّ ابن كعب.
وأخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، والقسم ومكحول، وعبدة بن أبي لبابة، وحسان بن عطية، أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لما أنزلت هذه الآية: {والسابقون الأولون} إلى قوله: {وَرَضُواْ عَنْهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا لأمتي كلهم، وليس بعد الرضا سخط».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب} الآية، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبًا، فقال: «قم يا فلان فاخرج، فإنك منافق»، اخرج يا فلان، فإنك منافق، فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم، ولم يكن عمر بن الخطاب يشهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر، وظنوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل عمر المسجد، فإذا الناس لم ينصرفوا، فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم، فهو: العذاب الأوّل، والعذاب الثاني: عذاب القبر.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الأعراب} قال: جهينة ومزينة، وأشجع وأسلم وغفار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} قال: أقاموا عليه، ولم يتوبوا كما تاب آخرون.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، في الآية قال: ماتوا عليه: عبد الله بن أبيّ، وأبو عامر الراهب، والجدّ بن قيس.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} قال: بالجوع والقتل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي مالك، قال: بالجوع وعذاب القبر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي، عن قتادة قال: عذاب في القبر، وعذاب في النار.
وقد روى عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين، والظاهر ما قدّمنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله: {وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صالحا} قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رجع عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة، وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تطلقهم وتعذرهم، قال: وأنا أقسم بالله، لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فنزلت: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} و{عسى} من الله واجب، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا، واستغفر لنا، قال: «ما أمرت أن آخذ أموالكم»، فأنزل الله عزّ وجل: {خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ} يقول: استغفر لهم {إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ} يقول: رحمة لهم، فأخذ منهم الصدقة واستغفر لهم، وكانوا ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجئوا سنة لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم؟ فأنزل الله عزّ وجل: {لَقَدْ تَابَ الله على النبى} إلى قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} إلى قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} يعني: إن استقاموا.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، مثله سواء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن مجاهد في قوله: {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} قال: هو أبو لبابة إذ قال لقريظة ما قال، وأشار إلى حلقه بأن محمدًا يذبحكم إن نزلتم على حكمه، والقصة مذكورة في كتب السير.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {خَلَطُواْ عَمَلًا صالحا} قال: غزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَآخَرَ سَيِّئًا} قال: تخلفهم عنه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} قال: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها {إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ} قال: رحمة لهم.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قال: «اللهم صلّ على آل فلان»، فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} قال: هذا وعيد من الله عزّ وجلّ.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في الشعب، وابن أبي الدنيا، والضياء في المختارة، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة، لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان» وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة، في قوله: {وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} قال: هم الثلاثة الذين خلفوا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية قال: هم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} يقول: يميتهم على معصية {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} فأرجأ أمرهم ثم نسخها فقال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ}. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} أَيْ خُذْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ ذُكِرَ، وَمِنْ سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ- عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَمِنْهَا مَالُ التِّجَارَةِ- صَدَقَةً مُعَيَّنَةً كَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ التَّطَوُّعُ- فَالصَّدَقَةُ مَا يُنْفِقُهُ الْمُؤْمِنُ قُرْبَةً لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَفَقَةِ مُؤْمِنِي الْأَعْرَابِ {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أَيْ تُطَهِّرُهُمْ بِهَا مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ وَالدَّنَاءَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ الْبَائِسِينَ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَتُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ بِهَا: أَيْ تُنَمِّيهَا وَتَرْفَعُهَا بِالْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ الْخُلُقِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ حَتَّى تَكُونَ بِهَا أَهْلًا لِلسَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، فَالْمُطَهِّرُ هُنَا الرَّسُولُ وَالْمُطَهَّرُ بِهِ الصَّدَقَةُ. وَالتَّزْكِيَةُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الزَّكَاءِ وَهُوَ نَمَاءُ الزَّرْعِ وَنَحْوُهُ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: رَجُلٌ زَكِيٌّ زَائِدُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ بَيِّنُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ، {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً} (19: 13). اهـ.
وَالتَّزْكِيَةُ لِلْأَنْفُسِ بِالْفِعْلِ تُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ الْمُوَفِّقُ لِلْعَبْدِ لِفِعْلِ مَا تَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَتَصْلُحُ، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (4: 21) وَتُسْنَدُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرَبِّي لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَعْلُو قَدْرُهَا بِسُنَّتِهِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ فِي بَيَانِ كِتَابِ اللهِ، وَمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (62: 2) فَتَزْكِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم لِلْأُمَّةِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبَعْثَةِ وَتُسْنَدُ إِلَى الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْفَاعِلَ لِمَا جَعَلَهُ اللهُ سَبَبًا لِطَهَارَةِ نَفْسِهِ وَزَكَائِهَا كَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَمِنْهُ قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (91: 9، 10) وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (87: 14 و15) وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (4: 49) وَقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (53: 32) فَهُوَ فِي زَكَاءِ النَّفْسِ بِدَعْوَى اللِّسَانِ، فَالتَّزْكِيَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُزَكَّى وَهِيَ الْأَصْلُ وَعَلَى الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: {صَلَاتُكَ} بِالْمُفْرَدِ أَيْ جِنْسُهَا وَالْبَاقُونَ: {صَلَوَاتُكَ} بِالْجَمْعِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ جَمَاعَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ. وَالصَّلَاةُ اسْمٌ مِنْ صَلَّى يُصَلِّي تَصْلِيَةً، وَقَدْ هُجِرَ لَفْظُ التَّصْلِيَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُ:
تَرَكْتُ الدِّنَانَ وَعَزْفَ الْقِيَانِ ** وَأَدْمَنْتُ تَصْلِيَةً وَابْتِهَالًا

وَمَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الدُّعَاءُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، وَسُمِّيَتِ الْعِبَادَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ صَلَاةً مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِأَهَمِّ أَجْزَائِهِ، فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا، وَقِيلَ فِي التَّعْلِيلِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالصَّلَاةُ مِنَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الرَّحْمَةُ وَالْحَنَانُ، وَمِنْ مَلَائِكَتِهِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (33: 43) ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (33: 56) وَصَلَاتُنَا عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم دُعَاؤُنَا لَهُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِنَا فِي دُعَاءِ الْأَذَانِ الْمَأْثُورِ: «اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ». رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا، وَالسَّكَنُ: مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَتَرْتَاحُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَتَاعٍ وَثَنَاءٍ.