فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال عِكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلًا منهم بماذا أعنت في هذا المسجد؟ فقال: أعنت فيه بسارية.
فقال: أبشر بها! سارية في عنقك من نار جهنم.
الثانية قوله تعالى: {ضِرَارًا} مصدر مفعول من أجله.
{وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَادًا} عطف كله.
وقال أهل التأويل: ضرار بالمسجد، وليس للمسجد ضرارًا، إنما هو لأهله.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن أبي سعيد الخُدْريّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضَرَر ولا ضِرار مَن ضارّ ضَارّ الله به ومن شاقّ شَاقَّ الله عليه» قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة.
والضِّرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة.
وقد قيل: هما بمعنى واحد، تكلّم بهما جميعًا على جهة التأكيد.
الثالثة قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأوّل فيبقى شاغرًا، إلا أن تكون المَحلّة كبيرة فلا يكفي أهلَها مسجدٌ واحد فيبنى حينئذ.
وكذلك قالوا.
لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني؛ ومن صلّى فيه الجمعة لم تُجْزِه.
وقد أحرق النبيّ صلى الله عليه وسلم مسجد الضّرار وهدمه.
وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلِّي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصلّ فيه بعدُ؛ فقال: لا أُحبّ أن أُصلِّي فيه؛ لأنه بُني على ضرار.
قال علماؤنا: وكل مسجد بُني على ضرار أو رياء وسُمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه.
وقال النقاش: يلزم من هذا ألاّ يصلَّى في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شرّ.
قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهودُ البيعة موضعًا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا.
وقد أجمع العلماء على أن من صلّى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة.
وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلِّي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل.
وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغِيتهم.
الرابعة قال العلماء: إن من كان إمامًا لظالم لا يصلَّى وراءه؛ إلا أن يظهر عذره أو يتوب؛ فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمِّع بن جارية أن يصلّي بهم في مسجدهم؛ فقال: لا ولا نعْمَة عين! أليس بإمام مسجد الضرار! فقال له مُجَمِّع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، فوالله لقد صلّيت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت بهم فيه، كنت غلامًا قارئًا للقرآن، وكانوا شيوخًا قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئًا، فصليت ولا أحسِب ما صنعتُ إثمًا، ولا أعلم بما في أنفسهم؛ فعذره عمر رضي الله عنهما وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُباء.
الخامسة قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا كان المسجد الذي يُتّخذ للعبادة وحضّ الشرع على بنائه فقال: «من بنى لله مسجدًا ولو كَمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة» يُهدَم وينزع إذا كان فيه ضرر بغيره، فما ظنك بسواه! بل هو أحْرَى أن يُزال ويُهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم.
وذلك كمن بنى فُرْنًا أو رَحًى أو حفر بئرًا أو غير ذلك مما يُدخل به الضرر على الغير.
وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضررًا مُنع.
فإن أدخل على أخيه ضررًا بفعل ما كان له فعله في ماله فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل؛ فإن كان تركُه أكبر ضررًا من الضرر الداخل على الفاعل قُطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأُصول.
مثال ذلك: رجل فتح كوّة في منزله يَطّلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرّم وقد ورد النهي فيه؛ فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوّة ما فتح مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر لأنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بُدٌّ من قطع أحدهما وهكذا الحكم في هذا الباب، خلافًا للشافعيّ ومن قال بقوله.
قال أصحاب الشافعيّ: لو حفر رجل في ملكه بئرًا وحفر آخر في ملكه بئرًا يسرق منها ماء البئر الأوّلة جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يُمنع من ذلك.
ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كِنيفًا يُفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه.
والقرآن والسنة يردّان هذا القول.
وبالله التوفيق.
ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبارِ الأندر والدودِ المتولّد من الزّبل المبسوط في الرّحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه.
وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غِنًى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فَنفْيُ الضرر في منع مثل هذا أعظمُ وأكبر من الصبر على ذلك ساعةً خفيفة.
وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر، كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه.
السادسة ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عَرَض لها، يعني مَسًّا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجُها وأجنبت أو دنا منها يشتدّ ذلك بها.
فقال مالك: لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها.
السابعة قوله تعالى: {وَكُفْرًا} لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قُباء ولا لمسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي.
وقيل: {وَكُفْرًا} أي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيرِيّ وغيره.
الثامنة قوله تعالى: {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} أي يفرّقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلكَ على أن المقصد الأكبر والغرضَ الأظهر من وضع الجماعة تأليفُ القلوب والكلمة على الطاعة، وعقدُ الذّمام والحرمة بفعل الدّيانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وَضَر الأحقاد.
التاسعة تفطّن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلِّي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافًا لسائر العلماء.
وقد رُوي عن الشافعيّ المنع؛ حيث كان تشتيتًا للكلمة وإبطالًا لهذه الحكمة وذرِيعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم.
قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدمًا منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة.
العاشرة قوله تعالى: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} يعني أبا عامر الراهب؛ وسُمِّيَ بذلك لأنه كان يتعبّد ويلتمس العلم فمات كافرًا بقِنَّسْرِين بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حُنين.
فلما انهزمت هوازِن خرج إلى الروم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح، وابنوا مسجدًا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدًا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار.
وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غَسِيل الملائكة.
والإرصاد: الانتظار؛ تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبًا له به.
قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر.
وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت.
وقوله تعالى: {مِن قَبْلُ} أي من قبل بناء مسجد الضرار.
{وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العِلة والحاجة.
وهذا يدلّ على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى}.
{والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي يعلم خُبث ضمائرهم وكِذبَهم فيما يحلفون عليه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا}
نزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجدًا يضارّون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلًا من أهل النفاق وديعة بن ثابت وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وجارية بن عمرو وابناه مجمع وزيد ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحرث وبجاد بن عثمان وبحزج بنوا هذا المسجد ضرارًا يعني مضارة للمؤمنين وكفرًا يعني ليكفروا فيه بالله ورسوله {وتفريقًا بين المؤمنين} لأنهم كانوا جميعًا يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم فيه مجمع بن جارية وكان شابًا يقرأ القرآن ولم يدر ما أرادوا ببنائه، فلما فرغوا من بنائه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا فيه».
وقوله سبحانه وتعالى: {وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله} يعني أنهم بنوا هذا المسجد للضرار والكفر وبنوه إرصادًا يعني انتظارًا وإعدادًا لمن حارب الله ورسوله {من قبل} يعني من قبل بناء هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسموح وتنصر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم».
فقال أبو عامر: فأنا عليها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها.
قال أبو عامر: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية.
فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طويدًا وحيدًا غريبًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آمين» وسماه الناس: أبا عامر الفاسق.
فلما كان يوم أحد، قال أبو عامر الفاسق للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن، يئس أبو عامر وخرج هاربًا إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدًا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك وقوله سبحانه وتعالى: {وإرصادًا} يعني انتظارًا لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام من قبل يعني أن أبا عامر الفاسق حارب الله ورسوله من قبل مسجد الضرار {وليحلفن} يعني الذين بنوا المسجد {إن أردنا} يعني ما أردنا ببنائه {إلا الحسنى} يعني إلا الفعلة الحسنى وهي: الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم {والله يشهد إنهم لكاذبون} يعني في قيلهم وحلفهم.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من تبوك راجعًا نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله هذه الآية خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيًا فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك أنظروني حتى أخرج إليكم بنار، فدخل أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فأحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة.
مات أبو عامر الراهب بالشام غريبًا وحيدًا.
وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم.
فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو إمام مسجد الضرار؟ قال مجمع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلامًا قارئًا للقرآن وكانوا شيوخًا لا يقرؤون فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولو أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر. اهـ.