فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي كون التأسيس ليس أصلًا لممتد منع ظاهر.
نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن كثيرًا من الآيات وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه، وقوله تعالى: {...} في الظروف كثيرًا ما تقع بمعنى في انتهى.
وفي كون التأسيس ليس أصلًا لممتد منع ظاهر.
نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن كثيرًا من الآيات وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه، وقوله تاعلى: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} خبر المبتدأ و{أَحَقُّ} افعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير أو هو على زعمهم، وقيل: إنه بمعنى حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه، واختلف في المراد منه.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
والضحاك أنه مسجد قباء.
وقد جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه.
فأخرج ابن أبي شيبة والترمذي والحاكم وصححه وابن ماجه عن أسيد بن ظهير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة».
قال الترمذي: لا نعرف لأسيد هذا شيئًا يصح غير هذا الحديث، وفي معناه ما أخرجه أحمد والنسائي عن سهل بن حنيف.
وأخرج ابن سعد عن ظهير بن رافع الحارثي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا بما أخرجه مسلم والترمذي وابن جرير والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى.
فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيا رسول الله عليه الصلاة والسلام فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد لمسجده صلى الله عليه وسلم وقال: في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء.
وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: هو مسجدي هذا، وأيد القول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل مسجد المدينة، وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك السهيلي وقال: كل من المسجدين مراد لأن كلًا منهما أسس على التقوى من أوب يوم تأسيسه، والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذاك، ولا يخفى بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني وأيده بأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله سبحانه: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} يستدعي المداومة، ويعضده توكيد النهي بقوله تعالى: {أَبَدًا} ومداومة الرسول عليه الصلاة والسلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام.
وأما ما رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل وعلا: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب وجابر وأنس من أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثني عليكم خيرًا في الطهور فما طهوركم هذا؟» قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال: فهل مع ذلك غير؟ قالوا: لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي باملاء.
قال عليه الصلاة والسلام: «هو ذاك فعليكموه» فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلى الله عليه وسلم من الأنصار، وأنا أقول: قد كثرت الأخبار في نزول هذه الآية في أهل قباء.
فقد أخرج أحمد وابن خزيمة والطبراني وابن مردويه والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟» فذكروا أنهم كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه والبغوي في معجمه وابن جرير والطبراني عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه نحو ذلك.
وأخرج عبد الرزاق والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: «ما هذا الطهور الذي خصصتم به في هذه الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}؟» قالوا: يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل مقعدته.
وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن عبد الله بن الحرث بن نوفل نحوه إلى غير ذلك، وروى القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من الصحابة وغيرهم كابن عمر وسهل الأنصاري وعطاء وغيرهم.
وأما الأخبار الدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثيرة أيضًا وكذا الذاهبون إلى ذلك كثيرون أيضًا، والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر، وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفًا فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى.
وظاهر كلام البعض يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد من المسجد مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا حادثًا بعده ولا يمكن أن يراد من أول الأيام مطلقًا ضرورة.
نعم قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء: إن المراد من أول أيام الهجرة ودخول المدينة.
قال السهيلي: ويستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وبنيت المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن، فإن كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن أدكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر انتهى.
ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كان عن اجتهاد وأن قوله: وليس هاهنا إضافة إلخ محل نظر، ويستفاد من الآية أيضًا على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء وسمعت أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، وألحق بذلك كل مسجد بني بمال غير طيب.
وروي عن شقيق ما يؤيد ذلك.
وروي عن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه، ومن حمل التطهير فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال: يستفاد منها سنة الاستنجاء بالماء، وجاء من حديث البزار تفسيره بالجمع بين الماء والحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما، وفسره بعضهم بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له، وإذا فسر بما يسمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه، وجوز في جملة {فِيهِ رِجَالٌ} ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلك المسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل، وأن يكون صفة للمبتدأ جاءت بعد خبره، وأن تكون حالًا من الضمير في {فِيهِ} وعلى كل حال ففيها تحقيق وتقرير لاستحقاق القيام فيه، وقرئ {إن} بالادغام.
{يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} أي يرضى عنهم ويكرمهم ويعظم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند الأشاعرة وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه، وحمل بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة، والمراد من المطهرين إما أولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة: {لا تقم فيه أبدًا} هي الخبر عن اسم الموصول كما قدمْنا.
والمراد بالقيام الصلاة لأن أولها قيام.
ووجه النهي عن الصلاة فيه أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه تكسبه يُمْنًا وبَركة فلا يرى المسلمون لمسجد قباء مزية عليه فيقتصر بنو غُنم وبنو سالم على الصلاة فيه لقربه من منازلهم، وبذلك يحصل غرض المنافقين من وضعه للتفريق بين جماعة المسلمين.
فلما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه مفضية إلى ترويج مقصدهم الفاسد صار ذلك وسيلة إلى مفسدة فتوجه النهي إليه.
وهذا لا يطلع على مثله إلا الله تعالى.
وهذا النهي يعم جميع المسلمين لأنه لما نهي النبي عن الصلاة فيه علم أن الله سلب عنه وصف المسجدية فصارت الصلاة فيه باطلة لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بنَ ياسر ووحشيًا مولى المُطعم بن عدي ومالكَ بن الدخشم ومعنَ بن عدي فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه» ففعلوا.
وتحريقه تحريق الأعواد التي يتخذ منها السَّقف، والجذوععِ التي تجعل له أعمدة.
وقوله: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} احتراس مما يستلزمه النهي عن الصلاة فيه من إضاعة عبادةٍ في الوقت الذي رغبوه للصلاة فيه فأمره الله بأن يصلي في ذلك الوقت الذي دعَوه فيه للصلاة في مسجد الضرار أن يصلي في مسجده أو في مسجد قُباء، لئلا يكون لامتناعه من الصلاة من حظوظ الشيطان أن يكون صرفه عن صلاة في وقت دعي للصلاة فيه، وهذا أدب نفساني عظيم.
وفيه أيضًا دفع مكيدةِ المنافقين أن يطعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه دعي إلى الصلاة في مسجدهم فامتنع، فقوله: {أحقُّ} وإن كان اسم تفضيل فهو مسلوب المفاضلة لأن النهي عن صلاته في مسجد الضرار أزال كونه حقيقًا بصلاته فيه أصلًا.
ولعل نكتة الإتيان باسم التفضيل أنه تهكم على المنافقين بمُجازاتهم ظاهرًا في دعوتهم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه بأنه وإن كان حقيقًا بصلاته بمسجد أسس على التقوى أحق منه، فيعرف من وصفه بأنه {أسس على التقوى} أن هذا أسس على ضدها.
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى في هذه الآية فقال: «هو مسجدكم هذا».
يعني المسجد النبوي بالمدينة.
وثبت في الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن الرجال الذين يحبون أن يتطهروا بأنهم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء.
وذلك يقتضي أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم هو مسجدهم، لقوله: {فيه رجالٌ}.
ووجه الجمع بين هذين عندي أن يكون المراد بقوله تعالى: {لمسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم} المسجد الذي هذه صفته لا مسجدًا واحدًا معينًا، فيكون هذا الوصف كليًا انحصر في فَردين المسجدِ النبوي ومسجدِ قُباء، فأيهما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي دعوه فيه للصلاة في مسجدِ الضرار كانَ ذلك أحق وأجدر، فيحصل النجاء من حظ الشيطان في الامتناع من الصلاة في مَسجدهم، ومن مطاعنهم أيضًا، ويحصل الجمع بين الحديثين الصحيحين.
وقد كان قيام الرسول في المسجد النبوي هو دأبَه.
ومن جليل المنازع من هذه الآية ما فيها من حجة لصحة آراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعلوا العام الذي كان فيه يوم الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام.