فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ}
اختلف القراء به فقرأ نافع وأهل الشام: أُسس بنيانه بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت، وقرأ عمارة بن صايد: أسس بالمد وفتح السين والنون في وزن آمَنَ، وكذلك الثانية وآسس وأُسّس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الأُولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
{على تقوى مِنَ اللَّهِ} وقرأ عيسى بن عمر {تقوىً من الله} منوّنًا {وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا} أي شفير وقال أبو عبيد: الشفا الحد وتثنيته: الشفوان.
{جُرُفٍ} قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو السير الي لم تطؤ.
قال أبو عبيدة: هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية {هَارٍ} أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو. يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار ولات كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق، قال الشاعر:
ولم يعقني عن هواها عاق

وقيل: هو من هار يهار إذا انهدم مثل: خاف يخاف، وهذا مثل لضعف نيّاتهم وقلّة بصيرتهم في علمهم {فانهار} فانتثر يقال: هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهوّر الليل إذا ذهب أكثره، وفي مصحف أُبيّ: فإنهارت به قواعده {فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} قال قتادة: والله ما تنامى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار، وقال خلف بن ياسين الكوفي: حججت مع أبي في زمان بني أُمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} يعني مسجد قباء والألف من {أَفَمَنْ} ألف إنكار.
ويحتمل قوله: {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} وجهين:
أحدهما: أن التقوى اجتناب معاصيه، والرضوان فعل طاعته.
الثاني: أن التقوى اتقاء عذابه، والرضوان طلب ثوابه.
وكان عمر بن شبة يحمل قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} على مسجد المدينة، ويحتمل {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مَنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} على مسجد قباء، فيفرق بين المراد بهما في الموضعين.
{أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} يعني شفير جرف وهو حرف الوادي الذي لا يثبت عليه البناء لرخاوته وأكل الماء له {هَارٍ} يعني هائر، والهائر: الساقط. وهذا مثل ضربه الله تعالى لمسجد الضرار.
ويحتمل المقصود بضرب هذا المثل وجهين:
أحدهما: أنه لم يبق بناؤهم الذي أسس على غير طاعة الله حتى سقط كما يسقط ما بني على حرف الوادي.
الثاني: أنه لم يخف ما أسرُّوه من بنائه حتى ظهر كما يظهر فساد ما بنى على حرف الوادي بالسقوط.
{فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنهم ببنيانهم له سقطوا في نار جهنم.
الثاني: أن بقعة المسجد مع بنائها وبُناتها سقطت في نار جهنم، قاله قتادة والسدي.
قال قتادة: ذكر لنا أنه حفرت منه بقعة فرئي فيها الدخان وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {أفمن أسس بنيانه} الآية استفهام بمعنى تقرير، وقرأ نافع وابن عامر وجماعة {أَسس بنيانُه} على بناء {أسس} للمفعول ورفع {بنيان} فيهما، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي وجماعة {أسس بنيانَه} على بناء الفعل للفاعل ونصب {بنيان} فيهما، وقرأ عمارة بن ضبا رواه يعقوب الأول على بناء الفعل للمفعول والثاني على بنائه للفاعل، والآية تتضمن معادلة بين شيئين، فإما بين البناءين وإما بين البانين، فالمعادلة الأولى هي بتقدير أبناء من أسس، وقرأ نصر بن علي ورويت عن نصر بن عاصم: {أفمن أس بنيانه} على إضافة {أسس} إلى {بنيان} وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة أيضًا {أساس بنيانه} وقرأ نصر بن عاصم أيضًا {أُسُس بنيانه} على وزن فُعُل بضم الفاء والعين وهو جمع أساس كقذال وقذل حكى ذلك أبو الفتح، وذكر أبو حاتم أن هذه القراءة لنصر إنما هي {أَسَسُ} بهمزة مفتوحة وسين مفتوحة وسين مضمومة، وعلى الحكايتين فالإضافة إلى البنيان، وقرأ نصر بن علي أيضًا أساس على جمع أس والبنيان يقال بنى بيني بناء وبنيانًا كالغفران فسمي به المبنى مثل الخلق إذا أردت به المخلوق، وقيل هو جمع واحدة بنيانة، وأنشد في ذلك أبو علي: [الطويل]
كبنيانة القاري موضع رجلها ** وآثار نسعيها من الدق أبلق

وقرأ الجمهور {على تقوى} وقرأ عيسى بن عمر {على تقوًى} بتنوين الواو حكى هذه القراءة سيبويه وردها الناس، قال أبو الفتح: قياسها أن تكون الألف للإلحاق كأرطى ونحوه، وأما المراد بالبنيان الذي أسس على التقوى والرضوان فهو في ظاهر اللفظ وقول الجمهور المسجد المذكور قبل ويطرد فيه الخلاف المتقدم، وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: المراد بالمسجد المؤسس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بأنه أسس على تقوى من الله، {ورضوان خير} هو مسجد قباء، وأما البنيان الذي أسس {على شفا جرف هار} فهو مسجد الضرار بإجماع.
والشفا الحاشية والشفير والجرف حول البئر ونحوه مما جرفته السيول والندوة والبلى.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وجماعة {جُرُف} بضم الراء، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة وجماعة {جرْف} بسكون الراء، واختلف عن عاصم. وهما لغتان، وقيل الأصل ضم الراء وتخفيفها بعد ذلك مستعمل و{هار}: معناه متهدم منهال وهو من هار يهور ويقال هار يهير ويهير، وأصله هاير أو هاور، فقيل قلبت راؤه قبل حرف العلة فجاء هارو أو هاري فصنع به ما صنع بقاض وغاز، وعلى هذا يقال في حال النصب هاريًا، ومثله في يوم راح أصله رايح ومثله شاكي السلاح أصله شايك ومثله قول العجاج: [الوافر]
لاث به الأشاء والعبري

أصله لايث.
ومثله قول الشاعر [الأجدع الهمداني]: [الكامل]
خَفَضُوا أسنتَهمْ فكلٌّ ناع

على أحد الوجهين:
فإنه يحتمل أنه من نعى ينعي والمراد أنهم يقولون يا ثارات فلان، ويحتمل أن يريد فكلهم نايع أي عاطش كما قال عامر بن شييم، والأسل النياعا وقيل في {هار} إن حرف علته حذف حذفًا فعلى هذا يجري بوجوه الإعراب، فتقول: جرف هار ورأيت جرفًا هارًا، ومررت بحرف هار.
واختلف القراء في إمالة {هار} و{انهار}، وتأسيس البناء على تقوى إنما هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله تعالى وإظهار شرعه، كما صنع بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفي مسجد قباء.
والتأسيس {على جرف هار} إنما هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين، فهذه تشبيهات صحيحة بارعة، و{خير} في هذه الآية تفضيل ولا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد يأتي مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل، وقوله: {فانهار به في نار جهنم} الظاهر منه وما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل، أي مثل هؤلاء المضارين من المنافقين في قصدهم معصية الله وحصولهم من ذلك على سخطه كمن ينهار بنيانه في نار جهنم، ثم اقتضب الكلام اقتضابًا يدل عليه ظاهره، وقيل بل ذلك حقيقة وإن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم، قاله قتادة وابن جريج.
وروي عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي في بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة ففزع لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أنهم لم يصلوا فيه أكثر من ثلاثة أيام أكملوه يوم الجمعة وصلوا فيه يوم الجمعة وليلة السبت وانهار يوم الاثنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بإسناد لين، وما قدمناه أصوب وأصح، وكذلك بقي أمره والصلاة فيه من قبل سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك إلى أن يقبل صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}: طعن على هؤلاء المنافقين وإشارة إليهم، والمعنى لا يهديهم من حيث هم الظالمون، أو يكون المراد الخصوص فيمن يوافي على ظلمه، وأسند الطبري عن خلف بن ياسين أنه قال: رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر الله في القرآن، فرأيت فيه مكانًا يخرج منه الدخان، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور.
وروي شبيه بهذا أو نحوه عن ابن جريج أسنده الطبري. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أفمن أسس بنيانه}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {أَسس} بفتح الألف في الحرفين جميعًا وفتح النون فيهما.
وقرأ نافع وابن عامر {أُسس} بضم الألف {بنيانُه} برفع النون.
والبنيان مصدر يراد به المبني.
والتأسيس: إحكام أس البناء، وهو أصله، والمعنى: المؤسِّس بنيانه متقيًا يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج: وشفا الشيء: حرفُه وحدُّه.
والشفا مقصور، يكتب بالألف، ويثنى شفوان.
قوله تعالى: {جرف} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي {جُرُف} مثقَّلًا.
وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم: {جُرْف} ساكنة الراء.
قال أبو علي: فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشُّغُل والشُّغْل.
قال ابن قتيبة: المعنى: على حرف جرف هائر.
والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية.
والهائر: الساقط.
ومنه: تهوَّر البناء وانهار: إذا سقط.
وقرأ ابن كثير وحمزة {هار} بفتح الهاء.
وأمال الهاء نافع وأبو عمرو.
وعن عاصم كالقراءتين.
قوله تعالى: {فانهار به} أي: بالباني {في نار جهنم} قال الزجاج: وهذا مثل، والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهوَّر بأهله فيها.
وقال قتادة: ذُكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة، فرؤي فيها الدخان.
قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}
فيه خمس مسائل:
الأولى قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ} أي أصّل، وهو استفهام معناه التقرير.
و{مَن} بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره {خَيْرٌ}.
وقرأ نافع وابن عامر وجماعة {أُسِّسَ بُنْيَانُهُ} على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما.