فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي: لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزول وَسْمُهُ عن قلوبهم، ولا يضمحلّ أثره {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: قطعًا، وتتفرق أجزاءًَ، فحينئذ يسلون عنه.
وأما ما دامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرًا لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أي: يراد حقيقة تقطيعها وتمزيقها بالموت، أو بعذاب النار.
وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي: بنياتهم {حَكِيمٌ} أي: فيما أمر بهدم بنيانهم، حفظًا للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشري: في مصاحف أهل المدينة والشام: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} بغير واو، لأنها قصة على حيالها، وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم.
الثاني: سبب نزول هذه الآيات أنه كان بالمدينة، قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبارز بالعداوة، وظاهر بها، وخرج فارًّا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أُحُد، فكان أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته.
فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينًا، يا فاسق، يا عدو الله! ونالوا منه وسبّوه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أي: يسلم وتمرّد.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا فنالته هذه الدعوة. وذلك أنه لما فرغ الناس من أُحُد، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله، فوعده ومنّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار، من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنّيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وكان أمَرَهم أن يتخذوا له معقلًا ومرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك.
فأتوه فقالوا: يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
فقال: «إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا، إن شاء الله تعالى، أتيناكم، فصلينا لكم فيه».
فلما نزل بذي أَوَانٍ- موضع على ساعة من المدينة- أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عامرًا، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه.
فخرجا سريعين، حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فاشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدّان، حتى دخلا المسجد، وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم ما نزل- ذكره ابن كثير، وأسند أطرافه إلى ابن إسحاق وابن مردويه-.
وروي أن بني عَمْرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عُمَر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمُجَمِّع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم فقال: لا، ونعمة عين! أليس هو إمام مسجد الضرار؟ قال مجمع: يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليّ، فوالله! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في نفوسهم. فعذره عمر، فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.
الثالث: ما قدمناه من أن المسجد في الآية هو مسجد قباء، لأن السياق في معرضه، وبيان أحقية الصلاة فيه من ذاك، لأنه أسس على طاعة الله وطاعة رسوله، وجمع كلمة المؤمنين.
ولما في الآية من الإشعار بالحث على تعاهده بالصلاة فيه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره راكبًا وماشيًا، ويصلي فيه ركعتين- كما في الصحيح-.
وقد روي عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون فيه؟» فقالوا، يا رسول الله! ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو مقعدته بالماء،- رواه الإمام احمد وأبو داود والطبراني، واللفظ له-.
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: هو مسجده- رواه الإمام أحمد ومسلم-.
قال ابن كثير: ولا منافاة، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى. انتهى.
ومرجعه إلى أن هذا الوصف، وإن كان يصدق عليهما- إلا أن الأحرى به بعد هو المسجد النبوي، أي: فالحديث ليس في معرض تعيين ما في الآية، بل في بيان الأحق بهذا الوصف الآن.
وقال السهروردي: كل منهما مراد، لأن كلًا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه.
والسر في إجابته صلى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك، دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء، والتنويه بمزية هذا عن ذاك.
الرابع: قال السهيلي- نور الله مرقده-: في الآية- يعني قوله تعالى: {مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ}- من الفقه، صحة ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع عمر رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة، لأنه الوقت الذي عزّ فيه الإسلام، والحين الذي أمِنَ فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبنيت المساجد، وعُبد الله كما يجب، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن.
فإن كان الصحابة أخذوه من هذه الآية، فهو الظن بهم، لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله وأفهمهم بما في القرآن من الإشارات، وإن كان ذلك على رأي واجتهاد، فقد علمه الله وأشار إلى صحته قبل أن يفعل، إذ لا يعقل قول القائل: فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم، أو شهر معلوم، أو تاريخ معلوم.
وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم، لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال، فتدبره، ففيه معتبرٌ لمن ادّكر، وعِلْمٌ لمن رأى بعين فؤاده واستبصر.
الخامس: التأسيس وضع الأساس، وهو أصل البناء، وأوله، وبه إحكامه، ففي الآية شبَّه التقوى والرضوان تشبيهًا مكنيًّا مضمرًا في النفس، بما يعتمد عليه أصل البناء.
وأسس بنيانه تخييل، فهو مستعمل في معناه الحقيقي، أو هو مجاز بناء على جوازه، فتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة، بحال من بنى بناءً محكمًا مؤسسًا يستوطنه ويتحصن به. أو البنيان استعارة أصلية، والتأسيس ترشيح أو تبعية، والشفا: الحرف والشفير.
وجُرُف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء، وتجرفه السيول، فيبقى واهيًا.
والهار: الهائر، وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قيل: هو مقلوب، وأصله هاور، أو هاير. وقيل: حذفت عينه اعتباطًا، فوزنه فال. والإعراب على رائه كباب، وقيل: لا قلب فيه ولا حذف، ووزنه في الأصل فعِل بكسر العين، ككتف، وهو هَوِرٌ أو هيرٌ، ومعناه ساقط أو مشرف على السقوط. وفاعل انهار، إما ضمير البنيان، وضمير به للمؤسس، أي: سقط بنيان الباني بما عليه. أو للشفا، وضمير به للبنيان.
والظاهر في التقابل أن يقال: أم من أسس بنيانه على ضلال وباطل وسخط من الله، ولذا قال في الكشاف: المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة قوية، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها، وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق، الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والإستمساك.
وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لأنه جعل مجازًا عما ينافي التقوى، يعني أنه شبه الباطل بشفا جرف هار، في قلة الثبات، فاستعير للباطل بقرينة مقابلته للتقوى، والتقوى حق، ومُنَافِي الحق هو الباطل.
وقوله فانهار ترشيح، وباؤه للتعدية، أو للمصاحبة، فشفا جرف هار، استعارة تصريحية تحقيقية، والتقابل باعتبار المعنى المجازيّ المراد منها.
فإن قلت لماذا غاير بينهما حيث أتى بالأول على طريقة الكناية والتخييل، وبالثاني على طريق الإستعارة والتمثيل؟
قلت: التفنن في الطريق رعايةٌ لحق البلاغة، وعدولًا عن الظاهر، مبالغةٌ في الطرفين، إذ جعل أولئك مبنيًا على تقوى ورضوان، هو أعظم من كل ثواب، وحال هؤلاء على فساد أشرف بهم على أشد نكال وعذاب، ولو أتى به على مقتضى الظاهر لم يفده، ما فيه من التهويل.
وقولنا: فانهار ترشيح، أوضحه الكشاف بقوله: لم جعل الجرف الهائر مجاز بعضها. لباطل، قيل: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الإنهيار الذي هو للجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانًا على شفا جرف من أودية جهنم، فانهار به ذلك الجرف، فهوى في قعرها.
السادس: دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار، أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح الوقف عليه.
وقد حرق الراضي بالله كثيرًا من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة وسبل بعضها. نقله بعض المفسرين.
قال الزمخشري: قيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياءً وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب، فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، كل مسجد بني على ضرار، أو رياء وسمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضرارًا.
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضارّ أحدهما صاحبه. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم في زاد المعاد في فوائد غزوة تبوك:
ومنها تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه، ويذكر إسم الله فيه. لما كان بناؤه ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته، وإخراجه عما وضع له.
وإذا كان هذا شأنه مسجد الضرار، فمشاهد الشرك التي تدعو سدنُتها إلى اتخاذ من فيها أندادًا من دون الله، أحق بذلك وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق، كالحانات وبيوت الخمارين، وأرباب المنكرات.
وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقًا، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية.
وهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجماعة والجمعة، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم، كما أخبر هو عن ذلك. انتهى.
ثم قال ابن القيّم: ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة، كما لم يصح وقف هذا المسجد.
وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد نص على ذلك الإمام أحمد وغيره- فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معًا لم يجز.