فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}
لما ذكر الله أصناف المنافقين، وبين طرائقهم المختلفة، عطف على ما سبق هذه الطائفة منهم، وهم الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا، فيكون التقدير: ومنهم الذين اتخذوا على أن {الذين} مبتدأ، وخبره منهم المحذوف، والجملة معطوفة على ما تقدّمها، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الذمّ.
وقرأ المدنيون وابن عامر: {الذين اتخذوا} بغير واو، فتكون قصة مستقلة، الموصول مبتدأ، وخبره: {لاَ تَقُمْ} قاله الكسائي، وقال النحاس: إن الخبر هو {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ} وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: يعذبون، وسيأتي بيان هؤلاء البانين لمسجد الضرار.
و{ضِرَارًا} منصوب على المصدرية، أو على العلية {وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا وَإِرْصَادًا} معطوفة على {ضِرَارًا} فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأوّل: الضرار لغيرهم، وهو المضاررة.
الثاني: الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام، لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق.
الثالث: التفريق بين المؤمنين؛ لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء، فتقلّ جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ما لا يخفى.
الرابع: الإرصاد لمن حارب الله ورسوله، أي الإعداد لأجل من حارب الله ورسوله.
قال الزجاج: الإرصاد الانتظار.
وقال ابن قتيبة: الإرصاد الانتظار مع العداوة.
وقال الأكثرون: هو الإعداد، والمعنى متقارب؛ يقال أرصدت لكذا: إذا أعددته مرتقبًا له به.
وقال أبو زيد: يقال: رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشرّ.
وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه: ارتقبت، والمراد بمن حارب الله ورسوله: المنافقون، ومنهم أبو عامر الراهب: أي أعدّوه لهؤلاء، وارتقبوا به وصولهم، وانتظروهم ليصلوا فيه حتى يباهوا بهم المؤمنين، وقوله: {مِن قَبْلُ} متعلق بـ {اتخذوا}: أي اتخذوا مسجدًا من قبل أن ينافق هؤلاء ويبنوا مسجد الضرار، أو متعلق بـ {حارب}: أي لمن وقع منه الحرب لله ولرسوله من قبل بناء مسجد الضرار.
قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} أي: ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، وهي: الرفق بالمسلمين، فردّ الله عليهم بقوله: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما حلفوا عليه، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار، فقال: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} أي: في وقت من الأوقات، والنهي عن القيام فيه، يستلزم النهي عن الصلاة فيه.
وقد يعبر عن الصلاة بالقيام، يقال فلان يقوم الليل: أي يصلي، ومنه الحديث الصحيح: «من قام رمضان إيمانًا به واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه» ثم ذكر الله سبحانه علة النهي عن القيام فيه بقوله: {لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} واللام في {لَّمَسْجِدٌ} لام القسم، وقيل: لام الابتداء، وفي ذلك تأكيد لمضمون الجملة، وتأسيس البناء: تثبيته ورفعه.
ومعنى تأسيسه على التقوى: تأسيسه على الخصال التي تتقى بها العقوبة.
واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى، فقالت طائفة: هو مسجد قباء، كما روي عن ابن عباس والضحاك، والحسن، والشعبي، وغيرهم.
وذهب آخرون إلى أنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
والأول: أرجح لما سيأتي قريبًا إن شاء الله.
و{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} متعلق بأسس: أي أسس على التقوى من أول يوم من أيام تأسيسه، قال بعض النحاة: إن {مِنْ} هنا بمعنى منذ: أي منذ أوّل يوم ابتدئ ببنائه، وقوله: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} خبر المبتدأ، والمعنى: لو كان القيام في غيره جائزًا لكان هذا أولى بقيامك فيه للصلاة ولذكر الله، لكونه أسس على التقوى من أوّل يوم، ولكون {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} وهذه الجملة مستأنفة لبيان أحقية قيامه فيه: أي كما أن هذا المسجد أولى من جهة المحل، فهو أولى من جهة الحالّ فيه، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال: أي حال كون فيه رجال يحبون أن يتطهروا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد.
ومعنى محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه عند عروض موجبه؛ وقيل: معناه: يحبون التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار.
والأوّل: أولى.
وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المطهرة من الذنوب فحموا جميعًا، وهذا ضعيف جدًّا.
ومعنى محبة الله لهم: الرضا عنهم، والإحسان إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه.
ثم بيّن سبحانه أن بين الفريقين بونًا بعيدًا.
فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} والهمزة للإنكار التقريري، والبنيان مصدر كالعمران، وأريد به المبنيّ، والجملة مستأنفة.
والمعنى: أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي تقوى الله ورضوانه، خير ممن أسس دينه على ضدّ ذلك، وهو الباطل والنفاق، والموصول مبتدأ، وخبره {خير}، وقرئ: {أسس بنيانه} على بناء الفعل للفاعل، ونصب بنيانه، واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وقرئ على البناء للمجهول، وقرئ: {أساس بنيانه} بإضافة أساس إلى بنيانه، وقرئ: {أسّ بنيانه} والمراد: أصول البناء، وحكى أبو حاتم قراءة أخرى، وهي {آساس بنيانه} على الجمع، ومنه:
أصبح الملك ثابت الآساس ** بالبهاليل من بني العباس

والشفا: الشفير، والجرف: ما يتجرف السيول، وهي: الجوانب التي تنجرف بالماء، والاجتراف: اقتلاع الشيء من أصله، وقرئ بضم الراء من {جرف} وبإسكانها.
والهار: الساقط، يقال هار البناء: إذا سقط، وأصله: هائر، كما قالوا: شاك السلاح، وشائك كذا، قال الزجاج.
وقال أبو حاتم: إن أصله هاور.
قال في شمس العلوم: الجرف ما جرف السيل أصله، وأشرف أعلاه فإن انصدع أعلاه فهو الهار. اهـ، جعل الله سبحانه هذا مثلًا لما بنوا عليه دينهم الباطل المضمحلّ بسرعة، ثم قال: {فانهار بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ} وفاعل فانهار، ضمير يعود على الجرف: أي فانهار الجرف بالبنيان في النار، ويجوز أن يكون الضمير في {بِهِ} يعود إلى {من}، وهو الباني.
والمعنى: أنه طاح الباطل بالبناء، أو الباني في نار جهنم، وجاء بالانهيار الذي هو للجرف ترشيحًا للمجاز، وسبحان الله ما أبلغ هذا الكلام، وأقوى تراكيبه، وأوقع معناه، وأفصح مبناه.
ثم ذكر سبحانه أن بنيانهم هذا موجب لمزيد ريبهم، واستمرار تردّدهم وشكهم فقال: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ} أي شكًا في قلوبهم ونفاقًا، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مذهب

وقيل: معنى الريبة: الحسرة والندامة، لأنهم ندموا على بنيانه.
وقال المبرد: أي حرارة وغيظًا.
وقد كان هؤلاء الذين بنوا مسجد الضرار منافقين شاكين في دينهم، ولكنهم ازدادوا بهدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقًا وتصميمًا على الكفر، ومقتًا للإسلام، لما أصابهم من الغيظ الشديد، والغضب العظيم بهدمه، ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على استمرار هذه الريبة ودوامها، وهو قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: لا يزال هذا إلا أن تتقطع قلوبهم قطعًا، وتتفرّق أجزاء: إما بالموت أو بالسيف، والمقصود أن هذه الريبة دائمة لهم ما داموا أحياء، ويجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرًا لحال زوال الريبة.
وقيل معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندمًا وأسفًا على تفريطهم.
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب وأبو جعفر بفتح حرف المضارعة.
وقرأ الجمهور بضمها.
وروي عن يعقوب أنه قرأ {تقطع} بالتخفيف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أي إلا أن تقطع يا محمد قلوبهم.
وقرأ أصحاب عبد الله بن مسعود: {ولو تقطعت قلوبهم}.
وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم: {إلى أن تقطع} على الغاية.
أي لا يزالون كذلك إلى أن يموتوا.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، في قوله: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} قال: هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر الراهب: ابنوا مسجدكم واستمدوا بما استطعتم من قوّة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه؛ فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فيجب أن تصلي فيه، وتدعو بالبركة، فأنزل الله: {لا تقم فِيهِ أَبَدًا}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عنه، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء خرج رجال من الأنصار منهم بجدح جدّ عبد الله بن حنيف، ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبجدح:
«ويلك يا بجدح، ما أردت إلى ما أرى»، فقال: يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب، فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يعذره، فأنزل الله تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} يعني: رجلًا يقال له أبو عامر، كان محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، وكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محاربًا لله ولرسوله.
وأخرج ابن إسحاق، وابن مردويه، عنه، أيضًا قال: دعا رسول الله مالك بن الدخشم، فقال مالك لعاصم: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل على أهله فأخذ سعفات من نار، ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وخرج أهله فتفرّقوا عنه، فأنزل الله هذه الآية.
ولعل في هذه الرواية حذفًا بين قوله صلى الله عليه وسلم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم وبين قوله فقال مالك لعاصم، ويبين ذلك ما أخرج ابن إسحاق، وابن مردويه، عن أبي رهم: كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله: إنا بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة، والليلة الشاتية، والليلة المطيرة، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه؛ قال: إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه؛ فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي، وأخاه عاصم بن عدي، أحد بني العجلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرّقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك، فدخل إلى أهله، فأخذ سعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان، وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} إلى آخر القصة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم: إن الذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلًا، وذكرا أسماءهم.