فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان: رجل من بني خدرة، وفي لفظ: تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال:
«هو هذا المسجد»، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «في ذلك خير كثير»، يعني: مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والزبير بن بكار في أخبار المدينة، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والحاكم في الكنى، وابن مردويه، عن سهل بن سعد الساعدي نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب، والضياء في المختارة، عن أبيّ بن كعب قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى قال: «هو مسجدي هذا» وأخرج الطبراني، والضياء المقدسي في المختارة، عن زيد بن ثابت، مرفوعًا مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والطبراني، من طريق عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أوّل يوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عروة: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير منه، إنما أنزلت في مسجد قباء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، عن ابن عمر، قال: المسجد الذي أسس على التقوى: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج المذكوران عن أبي سعيد الخدري مثله.
وقد روي عن جماعة غير هؤلاء مثل قولهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، أنه مسجد قباء.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، مثله.
ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عين هذا المسجد الذي أسس على التقوى، وجزم بأنه مسجده صلى الله عليه وسلم، كما قدّمنا من الأحاديث الصحيحة، فلا يقاوم ذلك قول فرد من الصحابة ولا جماعة منهم، ولا غيرهم، ولا يصح لإيراده في مقابلة ما قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا فائدة في إيراد ما ورد في فضل الصلاة في مسجد قباء، فإن ذلك لا يستلزم كونه المسجد الذي أسس على التقوى، على أن ما ورد في فضائل مسجده صلى الله عليه وسلم أكثر مما ورد في فضل مسجد قباء، بلا شك ولا شبهة تعمّ.
وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال: وكانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية، وفي إسناده يونس بن الحارث، وهو ضعيف.
وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة، فقال: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟ فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، أو قال: مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو هذا» وأخرج أحمد، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، عن عويم بن ساعدة الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا» رواه أحمد عن حسن بن محمد.
حدّثنا أبو أويس، حدّثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة، فذكره.
وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الجارود في المنتقى، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، وابن عساكر، عن طلحة بن نافع، قال: حدّثني أبو أيوب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيرًا في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، قال: فهل مع ذلك غيره؟ قالوا: لا، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء، قال: هو ذاك فعليكموه».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والبغوي في معجمه، والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن محمد بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء فقال: «إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا أفلا تخبروني؟» يعني: قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} فقالوا: يا رسول الله، إنا لنجده مكتوبًا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء، ونحن نفعله اليوم.
وإسناد أحمد في هذا الحديث هكذا: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثني مالك، يعني ابن مغول، سمعت سيارًا أبا الحكم، عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام.
وقد روى عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا.
ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله، وبعضها ضعيف، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء، وعلى كل حال: لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحتها وصراحتها.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فانهار بِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ} قال: يعني قواعده في نار جهنم.
وأخرج مسدّد في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، قال: لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس في قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ} قال: يعني الشك {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} يعني: الموت.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن حبيب بن أبي ثابت، في قوله: {رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ} قال: غيظًا في قلوبهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قال: إلى أن يموتوا.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان، في قوله: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قال: إلا أن يتوبوا. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي وَاقِعَةِ حَالٍ مِنْ مَكَايِدِ الْمُنَافِقِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلِلْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أَرَ أَحَدًا بَيَّنَ حِكْمَةً خَاصَّةً لِتَأْخِيرِهَا عَنْ أَمْثَالِهَا مِمَّا نَزَلَ فِي أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ وَوَضْعِهَا هُنَا فِي سِيَاقِ تَوْبَةِ الْمُذْنِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا فَقُبِلَ، وَمَا تَأَخَّرَ فَأُرْجِئَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ الْعَامَّةَ فِي تَفْرِيقِ الْآيَاتِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ- وَهُوَ تَجْدِيدُ الذِّكْرَى وَالْعِظَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْعِبْرَةِ- فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى التَّنَاسُبِ وَوُجُوهِ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْآيَاتِ. وَلَعَلَّ بَعْضَ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا قَدْ شَايَعُوا أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ فِي عَمَلِهِمْ جَاهِلِينَ مَقَاصِدَهُمْ مِنْهُ، فَأُرِيدَ بِوَضْعِ الْقِصَّةِ هُنَا وَإِبْهَامِ عَطْفِهَا عَلَى مَنْ أَرْجَأَ اللهُ الْحُكْمَ فِي أَمْرِهِمْ، أَنْ يَتَّعِظَ أُولَئِكَ الْغَافِلُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَغْرُورِينَ بِمَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمُتَّخِذِيهِ، وَيَخَافُوا أَنْ يُؤَاخَذُوا بِمُشَايَعَتِهِمْ لَهُمْ، وَلَوْ بِصَلَاتِهِمْ مَعَهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ.
رُوِيَ أَنَّ مُجَمِّعَ بْنَ حَارِثَةَ كَانَ إِمَامَهُمْ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ فَكَلَّمَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَصْحَابُ مَسْجِدِ قُبَاءَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ بِأَنْ يَأْذَنَ لِمُجَمِّعٍ فَيَؤُمَّهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ، فَقَالَ: لَا وَلَا نِعْمَةَ عَيْنٍ، أَلَيْسَ بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، فَوَاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ بِهِمْ وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَا أَعْلَمُ مَا أَضْمَرُوا فِيهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ مَا صَلَّيْتُ مَعَهُمْ فِيهِ، كُنْتُ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ وَكَانُوا شُيُوخًا لَا يَقْرَءُونَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا. فَعَذَرَهُ وَصَدَّقَهُ وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ بِقَوْمِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةً مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ السِّيَاقِ فِي جُمْلَتِهِ، حُذِفَ خَبَرُهَا لِلْعِلْمِ بِهِ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى قَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} إِلَّا عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَفْصَحُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ {الَّذِينَ} مَنْصُوبًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالذَّمِّ، وَجَعْلُهُ مُحْتَمِلًا لِمَا ذُكِرَ وَلِغَيْرِهِ نَرَاهُ مِنَ الْإِبْهَامِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْإِيهَامِ، وَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَحْيَانًا إِيرَادَ عِبَارَةٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ فِي فَهْمِهَا عِدَّةَ مَذَاهِبَ مُحْتَمَلَةٍ فِيهَا.
وقرأ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَهِيَ أَقْرَبُ إِلَى قَوْلِ الْحَسَنِ مِنْهَا إِلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ وَضْعِ الْآيَاتِ هُنَا أَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْهُ فِي قِرَاءَةِ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ- فَتَأَمَّلْ.
ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَذَا الْمَسْجِدَ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَسَمَّوْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الْأَغْرَاضَ الَّتِي بَنَوْهُ لِأَجْلِهَا أَرْبَعَةٌ ذُكِرَتْ مَنْصُوبَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَهِيَ:
(1) أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُ لِمُضَارَّةِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ مُحَاوَلَةِ إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ مَسْجِدِ قُبَاءَ الَّذِي بَنَاهُ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا وَقَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ إِذْ بَنَوْهُ بِجِوَارِهِ مُضَادَّةً لَهُمْ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.
(2) الْكُفْرُ أَوْ تَقْوِيَةُ الْكُفْرِ، وَتَسْهِيلُ أَعْمَالِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، كَتَمْكِينِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ هُنَالِكَ مَعَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَالتَّشَاوُرُ بَيْنَهُمْ فِي الْكَيْدِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ، قِيلَ لابد هُنَا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ لَيْسَ كُفْرًا، وَلَكِنَّ التَّعْلِيلَاتِ الْأَرْبَعَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الْقَصْدُ مِنَ الْبِنَاءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالِاتِّخَاذِ، وَالْكُفْرُ يُطْلَقُ عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَعَلَى الْعَمَلِ الْمُنَافِيَيْنِ لِلْإِيمَانِ.
(3) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُنَالِكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا فِيهِ، وَهُوَ التَّعَارُفُ وَالتَّآلُفُ وَالتَّعَاوُنُ وَجَمْعُ الْكَلِمَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَكْثِيرُ الْمَسَاجِدِ وَتَفْرِيقُ الْجَمَاعَةِ مُنَافِيًا لِمَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ إِذَا تَيَسَّرَ، فَإِنْ تَفَرَّقُوا عَمْدًا وَصَلَّوْا فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- كَانُوا خَاطِئِينَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ الصَّحِيحَةَ تَكُونُ حِينَئِذٍ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالتَّجْمِيعِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْمَسَاجِدِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَلِّينَ، وَغَيْرَ سَبَبٍ لِتَفْرِيقِ جَمَاعَتِهِمْ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ مِصْرَ الْقَرِيبِ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ- وَكَذَا أَمْثَالُهَا فِي الْأَمْصَارِ الْأُخْرَى- لَمْ تُبْنَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى بِنَائِهَا الرِّيَاءَ، وَاتِّبَاعَ الْأَهْوَاءِ، مِنْ جَهَلَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ.
(4) الْإِرْصَادُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلِ اتِّخَاذِ هَذَا الْمَسْجِدِ، أَيِ الِانْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ أَنْ يَجِيءَ مُحَارِبًا، فَيَجِدَ مَكَانًا مَرْصَدًا لَهُ، وَقَوْمًا رَاصِدِينَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ مَعَهُ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ بَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ مَرْصَدًا لِذَلِكَ. يُقَالُ: رَصَدْتُهُ أَيْ قَعَدْتُ لَهُ عَلَى طَرِيقِهِ أَتَرَقَّبُهُ، وَرَاصَدْتُهُ رَاقَبْتُهُ، وَأَرْصَدْتُ هَذَا الْجَيْشَ لِلْقِتَالِ وَهَذَا الْفَرَسَ لِلطِّرَادِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنَ الْأَسَاسِ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ لِهَذَا الْغَرَضِ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُعْرَفُ بِأَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ وَعَدَهُمْ بِأَنْ سَيَأْتِيَهُمْ بِجَيْشٍ مِنَ الرُّومِ لِقِتَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.
{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} إِخْبَارٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ: إِنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِبِنَائِهِ إِلَّا الْخَصْلَةَ أَوِ الْخُطَّةَ الَّتِي تَفُوقُ غَيْرَهَا فِي الْحُسْنِ؛ وَهِيَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَيْسِيرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى أُولِي الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَمَنْ يَحْبِسُهُمُ الْمَطَرُ مِنْهُمْ، لِيُصَدِّقَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَيُصَلِّيَ لَهُمْ فِيهِ: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فِي قَوْلِهِمْ، حَانِثُونَ بِيَمِينِهِمْ.
قال الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ:
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَرَأَ عِلْمَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَهُ شَرَفٌ فِي الْخَزْرَجِ كَبِيرٌ. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ وَأَظْهَرَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِقَ اللَّعِينُ أَبُو عَامِرٍ بِرِيقِهِ وَبَارَزَ بِالْعَدَاوَةِ وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَأَلَّبَهُمْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مَنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانَ، وَامْتَحَنَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَكَانَ هَذَا الْفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَوَقَعَ فِي إِحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَجُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى وَشُجَّ رَأْسُهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَبُو عَامِرٍ فِي أَوَّلِ الْمُبَارَزَةِ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَخَاطَبَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى نَصْرِهِ وَمُوَافَقَتِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا كَلَامَهُ قَالُوا: لَا أَنْعَمَ اللهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ يَا عَدُوَّ اللهِ، وَنَالُوا مِنْهُ وَسَبُّوهُ، فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَاهُ إِلَى اللهِ قَبْلَ فِرَارِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ وَتَمَرَّدَ، فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمُوتَ بَعِيدًا طَرِيدًا، فَنَالَتْهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ أُحُدٍ وَرَأَى أَمْرَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي ارْتِفَاعٍ وَظُهُورٍ، ذَهَبَ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَعَدَهُ وَمَنَّاهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرِّيَبِ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ أَنَّهُ سَيَقْدَمُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَغْلِبُهُ وَيَرُدُّهُ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُ مَعْقِلًا يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَنْ يَقْدَمُ مِنْ عِنْدِهِ لِأَدَاءِ كُتُبِهِ، وَيَكُونُ مَرْصَدًا لَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ. فَشَرَعُوا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ مُجَاوِرٍ لِمَسْجِدِ قُبَاءَ، فَبَنَوْهُ وَأَحْكَمُوهُ وَفَرَغُوا مِنْهُ قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكَ، وَجَاءُوا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِمْ لِيَحْتَجُّوا بِصَلَاتِهِ فِيهِ عَلَى تَقْرِيرِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا بَنَوْهُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَأَهْلِ الْعِلَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، فَعَصَمَهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَالَ: «إِنَّا عَلَى سَفَرٍ وَلَكِنْ إِذَا رَجَعْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ» فَلَمَّا قَفَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ تَبُوكَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِخَبَرِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمَا اعْتَمَدَهُ بَانُوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسْجِدِهِمْ (مَسْجِدِ قُبَاءَ) الَّذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ مَنْ هَدَمَهُ قَبْلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ- وَذَكَرَ رِوَايَتَهُ بِمَعْنَى مَا ذُكِرَ مُخْتَصَرَةً. اهـ.