فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما التفسير: فقوله سبحانه وتعالى: {التائبون} يعني الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق.
وقيل: التائبون من كل معصية فيدخل فيه التوبة من الكفر والنفاق.
وقيل: التائبون من جميع المعاصي، لأن لفظ التائبين لفظ عموم فيتناول الكل.
واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل بأمور أربعة: أولها احتراق القلب عند صدور المعصية، وثانيها الندم على فعلها فيما مضى، وثالثها العزم على تركها في المستقبل، ورابعها أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضوان الله وعبوديته فإن كان غرضه بالتوبة تحصيل مدح الناس له ودفع مذمتهم فليس بمخلص في توبته.
{العابدون} يعني المطيعين لله الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقيل هم الذين أتوا بالعبادة على أقصى وجوه التعظيم لله تعالى وهي أن تكون العبادة خالصة لله تعالى: {الحامدون} يعني الذين يحمدون الله تعالى على كل حال في السراء والضراء.
روى البغوي بغير سند عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» وقيل: هم الذين يحمدون الله ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى {السائحون} قال ابن مسعود وابن عباس: هم الصائمون.
قال سفيان بن عيينة: إنما سمي الصائم سائحًا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح.
وقال الأزهري: قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدًا لا زاد معه فكان ممسكًا على الأكل وكذلك الصائم ممسك عن الأكل.
وقيل: أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي وقال عطاء: السائحون هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله ويدل عليه ما روي عن ثمان بن مظعون قال قلت يا رسول الله ائذن لي في السياحة.
فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ذكره البغوي بغير سند.
وقال عكرمة: السائحون هم طلبة العلم لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لابد أن يلقى أنواعًا من الضر والبؤس ولابد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة الله تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته {الراكعون الساجدون} يعني المصلين وإنما عبر عن الصلاة والسجود، لأأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره {الآمرون بالمعروف} يعني يأمرون الناس بالإيمان بالله وحده {والناهون عن المنكر} يعني عن الشرك بالله.
وقيل: إنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم واتباع الرشد والهدى والعمل الصالح وينهونهم عن كل قول وفعل نهى الله عباده عنه أو نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحسن: أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه وأما دخول الواو في والناهون عن المنكر فإن العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله سبحانه وتعالى: {وثامنهم كلبهم} وقوله تعالى في صفة الجنة: {وفتحت أبوابها}.
وقيل: فيه وجه آخر وهو أن الموصوفين بهذه الصفات الست هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فعلى هذا يكون قوله تعالى: {التائبون} إلى قوله: {الساجدون} مبتدأ خبره {الآمرون} يعني هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر {والحافظون لحدود الله} قال ابن عباس: يعني القائمين بطاعة الله وقال الحسن: الحافظون لفرائض الله وهم أهل الوفاء ببيعة الله.
وقيل: هم المؤدون فرائض الله المنتهون إلى أمره ونهيه فلا يضيعون شيئًا من العمل الذي ألزمهم به ولا يرتكبون منهيًا نهاهم عنه {وبشر المؤمنين} يعني بشر يا محمد المصدقين بما وعدهم الله به إذا وفوا الله تعالى بعهده فإنه موف لهم بما وعدهم من إدخال الجنة.
وقيل: وبشر من فعل هذه الأفعال التسع وهو قوله تعالى: {التائبون} إلى آخر الآية بأن له الجنة وإن لم يغز. اهـ.

.قال أبو حيان:

{التائبون العابدون الحامدون}
قال ابن عباس: لما نزل إنّ الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل: يا رسول الله وإن زنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر: فنزلت التائبون الآية.
وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده، وليكونوا على أوفى درجات الكمال.
وآية أنّ الله اشترى مستقلة بنفسها، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم تكن فيه هذه الصفات.
والشهادة ماحية لكل ذنب، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه.
وقالت فرقة: هذه الصفات شرط في المجاهد.
والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله.
وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى: {إن الله اشترى} الآية وقال: لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون، فقيل: هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي: التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال.
وقيل: خبره الآمرون.
وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف، وتقديره: من أهل الجنة أيضًا وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى: {وكلًا وعد الله الحسنى} ولذلك جاء: {وبشر المؤمنين} وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها.
وقيل: التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون، أي الذين بايعوا الله هم التائبون، فيكون صفة مقطوعة للمدح، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش: التايبين بالياء إلى والحافظين نصبًا على المدح.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين، وقاله أيضًا: ابن عطية.
وقيل: يجوز أن يكون التائبون بدلًا من الضمير في يقاتلون.
قال ابن عباس: التائبون من الشرك.
وقال الحسن: من الشرك والنفاق.
وقيل: عن كل معصية.
وعن ابن عباس: العابدون بالصلاة.
وعنه أيضًا المطيعون بالعبادة، وعن الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء.
وعن ابن جبير: الموحدون السائحون.
قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض، لامتناعهم من شهواتهم.
وعن عائشة: سياحة هذه الأمة الصيام، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الأزهري: قيل: للصائم سائح، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه، كان ممسكًا عن الأكل، والصائم ممسك عن الأكل.
وقال عطاء: السائحون المجاهدون.
وعن أبي أمامة: أنّ رجلًا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال: «إنّ سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» صححه أبو محمد عبد الحق.
وقيل: المراد السياحة في الأرض.
فقيل: هم المهاجرون من مكة إلى المدينة.
وقيل: المسافرون لطلب الحديث والعلم.
وقيل: المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله، وغرائب ملكه نظر اعتبار.
وقيل: الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته.
والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف.
ولما كان الأمر مباينًا للنهي، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل، حسن العطف في قوله: {والناهون} ودعوى الزيادة، أو واو الثمانية ضعيف.
وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن، إذا بدأ أولًا بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله.
ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين.
وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار، فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار، وأمر رسوله أن يبشرهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{التائبون} رُفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءةُ بالياء نصبًا على المدح ويجوز أن يكون مجرورًا على أنه صفةٌ للمؤمنين، وقد جوِّز الرفع على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي التائبون من أهل الجنةِ أيضًا وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى: {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} ويجوز أن يكون خبرُه قوله تعالى: {العابدون} وما بعده خبرٌ بعد خبرٍ أي التائبون من الكفر على الحقيقة هُمُ الجامعون لهذه النعوتِ الفاضلةِ أي المخلِصون في عبادة الله تعالى: {الحامدون} لنَعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء {السائحون} الصائمون لقوله عليه الصلاة والسلام: «سياحةُ أمتي الصومُ» شبّه بها لأنه عائقٌ عن الشهوات أو لأنه رياضةٌ نفسانيةٌ يُتوسّل بها إلى العثور على خفايا المُلك والملَكوتِ وقيل: هم السائحون في الجهاد وطلبِ العلم {الركعون الساجدون} في الصلاة {الآمرون بالمعروف} بالإيمان والطاعة {والناهون عَنِ المنكر} عن الشرك والمعاصي، والعطفُ فيه للِدلالة على أن المتعاطِفَيْن بمنزلة خَصلةٍ واحدة وأما قوله تعالى: {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع عَملًا وحمْلًا للناس عليه فلئلًا يُتوهمَ اختصاصُه بأحد الوجهين {وَبَشّرِ المؤمنين} أي الموصوفين بالنعوت المذكورةِ، ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِهم للتنبيه على أن مِلاك الأمرِ هو الأيمانُ وأن المؤمن الكاملَ مَنْ كان كذلك، وحُذف المبشَّرُ به للإيذان بخروجه عن حد البيانِ، وفي تخصيص الخطابِ بالأولين إظهارُ زيادةِ اعتناءٍ بأمرهم من الترغيب والتسلية. اهـ.

.قال الألوسي:

{التائبون} نعت للمؤمنين، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبد الله وأبى {التائبين} بالياء على أنه منصوب على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين.
وجوز أن يكون {العظيم التائبون} مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضًا وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى: {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] فإن كلا فيه عام، والحسنى بمعنى الجنة.
وقيل: الخبر قوله تعالى: {العابدون} وما بعده خبر بعد خبر، وقيل: خبره {الآمرون بالمعروف} وقيل: إنه بدل من ضمير {يقاتلون} [التوبة: 111] والأول أظهر إلا أنه يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية.
وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفًا بجميع ما في الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه، وكأنه من هنا اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية عليه تبشير مطلق المجاهدي بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر الأخبار.
نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل للدنيا والسمعة استحق النار.
وفي صحيح مسلم ما يقتضي ذلك فليفهم، والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم.