فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

{وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
وذلك أن أباه وعده أن يسلم، وكان يستغفر له رجاء أن يسلم.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، {فَلَمَّا} مات، {تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}؛ يعني: ترك الدعاء له ولم يستغفر له بعد ما مات على الكفر وللآية هذه وجه آخر روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حرب قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: «يَا عَمِّ، قُلْ لا إله إلاَّ الله كَلِمة النَّجَاةِ، أشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى».
فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعانده أبو جهل بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم؛ على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمَا وَالله لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عنه» فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} [القصص: 56] ونزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ} الآية.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
وروى سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعة: غسلين، وحنانًا، والأواه، والرقيم.
وروي عن عبد الله بن عباس، في رواية أُخرى أنه قال: الأواه الذي يذكر الله في الأرض الوحشية.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: الأواه الرحيم.
وقال مجاهد: الموقن.
وقال الضحاك: الداعي الذي يلح إلى الله تعالى، المقبل إليه بطاعته.
ويقال: المؤمن بلغة الحبش.
ويقال: الأواه معلم الخير.
وقال كعب: الأواه الذي إذا ذكر الله، قال: أواه من النار.
وقال القتبي: المتأوه حزنًا وخوفًا {حَلِيمٌ} يعني: عن الجهل. اهـ.

.قال الثعلبي:

ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} الآية.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنزل الله قوله تعالى خبرًا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]. [قال علي:] سمعت فلانًا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] إلى قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] وقوله: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} يعني بعد موعده.
وقال بعضهم: الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك قال إبراهيم: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي}، وقوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] الآية، تدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ} بموت أبيه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وقيل: معناه: فلمّا تبين له في الآخرة أنه عدو لله، وذلك على ما روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ (بحبري) فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم عليه السلام التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبيّن ويتبرأ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} اختلفوا في معناه، فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأوّاه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس: تكلّمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر رضي الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعرض عنها فأنها أوّاهة» قيل: يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة».
وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه.
وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعَّاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء.
وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرًا إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم.
وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن الموقن، وروي عن [...] عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوّه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله، وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن يناق أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبيَ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه أوّاه»، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن ميّتًا فقال: «يرحمك الله إن كنت لأواه»، يعني تلاوة القرآن.
وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم عليه السلام يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه.
وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعه فإنه أواه».
قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر رضي الله عنه يُسمّى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضًا: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقًا وفرقًا المتضرع يقينًا ولزومًا للطاعة.
قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتًا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أُرحلها بليل ** تأوه آهة الرجل الحزين

قال الراجز:
فأوه الراعي وضوضا كلبه ** ولا يقال منه فعل يفعل

{حَلِيمٌ} عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه عليه السلام استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه، وقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيًّا} [مريم: 46] فقال له: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47] وقال ابن عباس: الحليم السيد. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ استِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ} الآية.
عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في استغفاره لأبيه مع شركه لسالف موعده ورجاء إيمانه.
وفي موعده الذي كان يستغفر له من أجله قولان:
أحدهما: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن.
والثاني: أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له لما كان يرجوه أنه يؤمن.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ} وذلك بموته على شركه وإياسه من إيمانه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي من أفعاله ومن استغفاره له، فلم يستغفر له بعد موته.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} فيه عشرة تأويلات:
أحدها: أن الأوّاه: الدعَّاء، أي الذي يكثر الدعاء، قاله ابن مسعود.
الثاني: أنه الرحيم، قاله الحسن.
الثالث: أنه الموقن، قاله عكرمة وعطاء.
الرابع: أنه المؤمن، بلغة الحبشة، قاله ابن عباس.
الخامس: أنه المسبِّح، قاله سعيد بن المسيب.
السادس: أنه الذي يكثر تلاوة القرآن، وهذا مروي عن ابن عباس أيضًا.
السابع: أنه المتأوّه، قاله أبو ذر.
الثامن: أنه الفقيه، قاله مجاهد.
التاسع: أنه المتضرع الخاشع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشر: أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها، قاله أبو أيوب.
وأصل الأواه من التأوه وهو التوجع، ومنه قول المثقب العبدي.
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ ** تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ

اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة، واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم في أن يستغفر لأبيه وذلك قوله: {سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًا} [مريم: 47]، وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله على الاستغفار له حتى نهي عنه، وقرأ طلحة: وما يستغفر إبراهيم وروي عنه وما استغفر إبراهيم، و{موعدة} مفعلة من الوعد، وأما تبينه أنه عدو لله قيل ذلك بموت آزر على الكفر وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي.
وقال سعيد بن جبير: ذلك كله يوم القيامة وذلك أن في الحديث أن إبراهيم يلقاه فيعرفه ويتذكر قوله: {سأستغفر لك ربي} [مريم: 47] فيقول له الزم حقوي فلن أدعك اليوم لشيء، فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانًا أمذر فيتبرأ منه حينئذ.
قال القاضي أبو محمد: وربط أمر الاستغفار بالآخرة ضعيف، وقوله: {إن إبراهيم لأواه حليم} ثناء من الله تعالى على إبراهيم، والأواه قال ابن مسعود هو الدعّاء، وقيل هو الداعي بتضرع، وقيل هو الموقن قاله ابن عباس، وقيل هو الرحيم قاله ابن مسعود أيضًا، وقيل هو المؤمن التواب، وقيل هو المسبح وقيل هو الكثير الذكر لله عز وجل، وقيل هو التلاّء للقرآن، وقيل هو الذي يقول من خوفه لله عز وجل أبدًا أوه ويكثر ذلك.
وروي أن أبا ذر سمع رجلًا يكثر ذلك في طوافه فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعه فإنه أواه».
والتأوه التفجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه، بأوه، ويقال أوه فمن الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال في بيع أو شراء أنكره عليه: أوه، ذلك الربا بعينه ومن الثاني قول الشاعر: [الطويل]
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ** ومن بعد أرض بيننا وسماء

ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي: [الوافر]
إذا ما قمت أرحلُها بليلٍ ** تأوَّه آهة الرجل الحزين

ويروى آهة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، «أوه لأفراخ محمد»، و{حليم} معناه صابر محتمل عظيم العقل، والحلم العقل. اهـ.