فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إلا عن موعدة وعدها إياه}
فيه قولان:
أحدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله: {سأستغفر لك ربي} [مريم: 47] وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله بذلك.
والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن؛ فلما تبيَّن لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى بموته على الكفر، ترك الدعاء له.
فعلى الأول، تكون هاء الكناية في {إيَّاه} عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم.
وقرأ ابن السميفع ومعاذ القارئ وأبو نهيك: {وعدها أباه} بالباء.
وفي الأوَّاه ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الخاشع الدَّعَّاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه الدَّعَّاء، رواه زِرٌّ عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير.
والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة.
والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك.
والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد، وابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والسادس: أنه المسبِّح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد ابن المسيب، وابن جبير.
والسابع: أنه المتأوِّه لذِكر عذاب الله، قاله الشعبي.
قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فَعّال من التأوّه، ومعناه: متضرِّع شَفَقًا وفَرَقًا ولزومًا لطاعة ربه، قال المُثَقَّب:
إذا ما قمتُ أرْحَلُها بليل ** تأَوَّهُ آهةَ الرجل الحزينِ

والثامن: أنه الفقيه، رواه ابن جريج عن مجاهد.
فأما الحليم، فهو الصفوح عن الذنوب. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
فيه ثلاث مسائل:
الأُولى روى النَّسائيّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رجلًا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أو لم يستغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه.
فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فنزلت: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}.
والمعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه؛ فإن ذلك لم يكن إلا عن عِدَة.
وقال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليلَ أن يؤمن بالله ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر علم أنه عدوّ الله، فترك الدعاء له؛ فالكناية في قوله: {إياه} ترجع إلى إبراهيم، والواعد أبوه.
وقيل: الواعد إبراهيم؛ أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، فلما مات مشركًا تبرأ منه.
ودلّ على هذا الوعد قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47].
قال القاضي أبو بكر بن العربيّ: تعلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب بقوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} فأخبره الله تعالى أن استغفار إبراهيم لأبيه كان وعدًا قبل أن يتبيّن الكفر منه، فلما تبيّن له الكفر منه تبرأ منه فكيف تستغفر أنت لعمك يا محمد، وقد شاهدت موته كافرًا.
الثانية ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حُكم له به؛ وربّك أعلم بباطن حاله؛ بَيْدَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له العباس: يا رسول الله، هل نفعت عمّك بشيء؟ قال: «نعم» وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار؛ على ما بيناه في كتاب التذكرة.
الثالثة قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} اختلف العلماء في الأوّاه على خمسة عشر قولًا: الأوّل أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير.
الثاني أنه الرحيم بعباد الله؛ قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود.
والأول أصح إسنادًا عن ابن مسعود؛ قاله النحاس.
الثالث أنه الموقن؛ قاله عطاء وعكرمة، ورواه أبو ظَبيان عن ابن عباس.
الرابع أنه المؤمن بلغة الحبشة؛ قاله ابن عباس أيضًا.
الخامس أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة؛ قاله الكلبيّ وسعيد بن المسيّب.
السادس أنه الكثير الذكر لله تعالى؛ قاله عقبة بن عامر، وذُكر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يكثر ذكر الله ويسبح فقال: «إنه لأوّاه» السابع أنه الذي يكثر تلاوة القرآن.
وهذا مروي عن ابن عباس.
قلت: وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها.
الثامن أنه المتأوّه؛ قاله أبو ذرّ وكان إبراهيم عليه السلام يقول: «آهٍ مِنَ النَّارِ قَبْلَ أَلَّا تَنْفَعَ آه».
وقال أبو ذرّ: كان رجل يكثر الطواف بالبيت ويقول في دعائه: أَوْهِ أوْه؛ فشكاه أبو ذرّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «دعه فإنه أوّاه» فخرجت ذات ليلة فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلًا ومعه المصباح.
التاسع أنه الفقيه؛ قاله مجاهد والنَّخَعِيّ.
العاشر أنه المتضرع الخاشع؛ رواه عبد الله بن شدّاد بن الهاد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال أنس: تكلمت امرأة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوها فإنها أوّاهة» قيل: يا سول الله، وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة».
الحادي عشر أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها، قاله أبو أيوب.
الثاني عشر أنه الكثير التأوّه من الذنوب؛ قاله الفرّاء.
الثالث عشر أنه المَعْلَمُ للخير؛ قاله سعيد بن جبير.
الرابع عشر أنه الشفيق؛ قاله عبد العزيز بن يحيى.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُسمَّى الأوّاه لشفقته ورأفته.
الخامس عشر أنه الراجع عن كل ما يكره الله تعالى؛ قاله عطاء.
وأصله من التأوّه، وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفّس الصُّعَداء.
قال كعب: كان إبراهيم عليه السلام إذا ذكر النار تأوّه.
قال الجوهري: قولهم عند الشكاية أوْهِ من كذا (ساكنة الواو) إنما هو توجّع.
قال الشاعر:
فأوْهِ لذكراها إذا ما ذكرتها ** ومِن بُعد أرضٍ بيننا وسماء

وربما قلبوا الواو ألفًا فقالوا: آهِ من كذا.
وربما شدّدوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوِّهْ من كذا.
وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أوّ من كذا؛ بلا مد.
وبعضهم يقول: آوَّهْ، بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية.
وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا: أوّتاه؛ يمدّ ولا يمدّ.
وقد أوّه الرجل تأوِيهًا وتأوّه تأوّهًا إذا قال أوَّهْ، والاسم منه الآهة بالمد.
قال المَثقِّب العَبْدِيّ:
إذا ما قمتُ أرحَلُهَا بليلٍ ** تأوّهُ آهةَ الرجلِ الحزين

والحليم: الكثير الحِلم، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى.
وقيل: الذي لم يعاقِب أحدًا قطُّ إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله.
وكان إبراهيم عليه السلام كذلك، وكان إذا قام يصلِّي سُمع وجِيب قلبه على ميلين. اهـ.

.قال الخازن:

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ}
فمعناه وما كان طلب إبراهيم لأبيه المغفرة من الله إلا من أجل موعدة وعدها إبراهيم إياه أن يستغفر له رجاء إسلامه قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لما أنزل الله خبرًا عن إبراهيم أنه قال سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلًا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم} إلى قوله: {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} يعني أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار لأنه إنما استغفر لأبيه وهو مشرك لمكان الوعد الذي وعده أن يسلم {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} فعلى هذا الهاء في إياه راجعة إلى إبراهيم والوعد كان من أبيه وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يسلم فقال إبراهيم: سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت.
وقيل: إن الهاء راجعة إلى الأب وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه.
ويؤكد هذا قوله: {سأستغفر لك ربي} ويدل عليه أيضًا قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة فلما تبين له أنه عدو لله، تبرأ منه يعني: فلما ظهر لإبراهيم وبان له أن أباه عدو لله يعني بموته على الكفر تبرأ منه عند ذلك وقيل يحتمل أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن أباه عدو له فتبرأ منه وقيل لما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي فيقول الله تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» أخرجه البخاري زاد غيره فتبرأ منه والقترة غبرة يعلوها سواد والذيخ بذال معجمة ثم ياء مثناة من تحت ثم خاء معجمة هو ذكر الضباع والأنثى ذيخة.
وقوله تبارك وتعالى: {إن إبراهيم لأواه حليم} جاء في الحديث إن الأواه الخاشع المتضرع.
وقال ابن مسعود: الأواه الكثير الدعاء وقال ابن عباس: هو المؤمن التواب، وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله وقال مجاهد: الأواه الموقن وقال كعب الأحبار: هو الذي يكثر التأوه وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول أوه من النار قبل أن لا ينفع أوه وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله وقال سعيد بن جبير هو المسبح وعنه أنه المعلم للخير.
وقال عطاء: هو الراجع عما يكره الله الخائف من النار.
وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقًا وفرقًا المتضرع إيقانًا ولزومًا للطاعة.
وقال الزجاج: انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت تنفس الصعداء والفعل منه أواه هو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن تحمي الروح داخل القلب ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخف بعض ما به من الحزن والشدة وأما الحليم: فمعناه ظاهر وهو الصفوح عمن سبه أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم بأبيه حين قال لئن لم تنته لأرجمنك، فأجابه إبراهيم بقوله سلام عليك سأستغفر لك ربي.
وقال ابن عباس: الحليم: السيد، وإنما وصف الله إبراهيم عليه السلام بهذين الوصفين وهما شدة الرقة والخوف الوجل والشفقة على عباد الله ليبين سبحانه وتعالى أنه مع هذه الصفات الجميلة الحميدة تبرأ من أبيه لما ظهر له إصراره على الكفر فاقتدوا به أنتم في هذه الحالة أيضًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ} بقوله: {واغفر لأِبِى} والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق ودفعِ ما يتراءى بحسب الظاهرِ من المخالفة، وقرئ وما استغفر إبراهيمُ لأبيه، وقرئ وما يستغفر إبراهيمُ على حكاية الحال الماضية وقوله تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ} استثناءٌ مفرَّعٌ من أعم العللِ أي لم يكن استغفارُه عليه السلام لأبيه آزرَ ناشئًا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة {وَعَدَهَا} إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام {إياه} أي أباه وقد قرئ كذلك بقوله: {لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وقولِه: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} بناءً على رجاء إيمانِه لعدم تبيُّنِ حقيقةِ أمرِه وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل: وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدة مبْنيةٍ على عدم تبيُّنِ أمرِه كما ينبئ عنه قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي لإبراهيمَ بأن أوحِيَ إليه أنه مُصِرٌّ على الكفر غيرُ مؤمنٍ أبدًا، وقيل: بأن مات على الكفر والأولُ هو الأنسبُ بقوله تعالى: {أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} فإن وصفَه بالعداوة مما يأباه حالةُ الموت {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي تنزّه عن الاستغفار له وتجانبَ كلَّ التجانب، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائرِه {إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ} لكثيرُ التأوّهِ وهو كنايةٌ عن كمال الرأفةِ ورقةِ القلب {حَلِيمٌ} صبورٌ على الأذية والمحنة، وهو استئنافٌ لبيان ما كان يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى ما صدر عنه من الاستغفار، وفيه إيذانٌ بأن إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كان أواهًا حليمًا فلذلك صدَر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبينِ فليس لغيره أن يأتسيَ به في ذلك، وتأكيدٌ لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبينِ وهو في كمال رقةِ القلبِ والحلم، فلابد أن يكون غيرُه أكثرَ منه اجتنابًا وتبرُّؤًا، وأما أن الاستغفارَ قبل التبينِ لو كان غيرَ محظورٍ لما استُثنيَ من الائتساء به في قوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فقد حُقق في سورة مريم بإذن الله تعالى. اهـ.