فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية.
فقال الطبري: بعثة الله الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر.
وقال غيره: النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه أقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن.
وحكى مكي: أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه.
وقال ابن عباس وجمهور العلماء: بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم، والضمير في {عليكم} يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعه كانت بين الآباء والأجداد، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في {عليكم} ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضدّ النسيان، والذكر باللسان ضدّ الإنصات.
وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا.
واجعله منك على ذُكْر بضم الذال أي لا تنسه.
قال الكسائي: ما كان بالضمير فهو مضموم الذال، وما كان باللسان فهو مكسور الذال.
وقال غيره: هما لغتان، يقال: ذِكْر وذُكْر، ومعناهما واحد.
والذَّكر بفتح الذال خلاف الأنثى.
والذِّكر أيضًا الشرف؛ ومنه قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي؛ فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة.
وقيل: إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب؛ أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها؛ وهو حسن.
والنعمة هنا اسم جنس، فهي مفردة بمعنى الجمع، قال الله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أي نِعمَه.
ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون، وجعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم الكتب والمنّ والسَّلْوَى، وفجّر لهم من الحجر الماء، إلى ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته.
والنعم على الآباء نعم على الأبناء؛ لأنهم يشرفون بشرف آبائهم. اهـ.

.قال الماوردي:

وفي النعمة التي أنعمها عليهم قولان:
أحدهما: عموم نِعَمِهِ الَّتي أنعم بها على خلْقِهِ، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
والثاني: وهو قول الحسن البصري، أنه أراد نِعَمَهُ عَلَى آبائهم، إذ نجَّاهم من آل فرعون، وجعل منهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وفجَّر لهم الحَجَرَ، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، والنعم على الآباء، نعم على الأبناء، لأنهم يَشْرُفون بشرف آبائهم. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم بالمنعم فقال: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.
واعلم أن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة:
[أ] استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا في الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وَنُمَكّنَ لَهُمْ في الأرض وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} [القصص: 5، 6].
[ب] جعلهم أنبياء وملوكًا بعد أن كانوا عبيدًا للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال: {كَذَلِكَ وأورثناها بَنِى إسراءيل} [الشعراء: 59].
[ج] أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مّن العالمين} [المائدة: 20].
[د] روى هشام عن ابن عباس أنه قال: من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عمودًا من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى.
واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه: أحدها: أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل والزبور.
وثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
وثالثها: أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة.
ورابعها: أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحدًا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل: إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية، وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة.
فإن قيل: هذه النعم ما كانت على المخاطبين بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعمًا عليهم وسببًا لعظم معصيتهم؟
والجواب من وجوه:
أحدها: لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء.
وثانيها: أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد.
وثالثها: الأولاد متى سمعوا أن الله خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعيًا إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور. اهـ.
قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}.
قال الفخر:
اعلم أن العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعًا وذكروا في هذا العهد قولين:
الأول: أن المراد منه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض ثم فيه روايات.
إحداها: أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهدًا له عليهم من حيث يلزمهم القيام بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق، وقوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أراد به الثواب والمغفرة.
فجعل الوعد بالثواب شبيهًا بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به.
ثانيها: قال الحسن: المراد منه العهد الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكاة} [المائدة: 12] إلى قوله: {ولأَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} [المائدة: 12] فمن وفى لله بعهده وفى الله له بعهده.
وثالثها: وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم، أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111].
القول الثاني: أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} [المائدة: 12] إلى قوله: {لأكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} [المائدة: 12] وقال في سورة الأعراف: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 156- 157] وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم، وقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ} [آل عمران: 81] الآية.
وقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يا بنى إسراءيل إنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6].
وقال ابن عباس: إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيًا أميًا فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين، أجرًا باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل، وأجرًا باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54] وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] وتصديقه أيضًا فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران، ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران».
بقي هاهنا سؤالان:
السؤال الأول: لو كان الأمر كما قلتم فكيف يجوز من جماعتهم جحده؟
والجواب من وجهين: الأول: أن هذا العلم كان حاصلًا عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه.
الثاني: أن ذلك النص كان نصًا خفيًا لا جليًا فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه.
السؤال الثاني: الشخص المبشر به في هذه الكتب إما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك، فإن كان ذلك النص نصًا جليًا واردًا في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان وكان يلزم أن يكون ذلك معلومًا بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين.
وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن يقولوا: إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود.
والجواب أن الذين حملوا قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما شرحناه في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال، فأما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصًا عليه نصًا جليًا يعرفه كل أحد بل كان منصوصًا عليه نصًا خفيًا فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فالأول: جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك من قبل الله فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت؟ قالت: أهرب من سيدتي سارة فقال لها: ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه إسماعيل من أجل أن الله سمع تبتلك وخشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته.
واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل الله بالظلم والجور وبأمر لا يتم إلا بالكذب على الله تعالى ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الاستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف، فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجو الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة، فلو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم صادقًا لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم لهم معصية لله تعالى وخروجًا عن طاعته إلى طاعة الشيطان والله يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله.
والثاني: جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيًا مثلي من بينكم ومن إخوانكم.
وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى: إني مقيم لهم نبيًا مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه.
وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه الله تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم: إنه سيكون من إخوانكم إمام، عقل أنه لا يكون من بني هاشم، ثم إن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب وإنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشرًا به، وأما اسماعيل فإنه كان أخًا لإسحق والد يعقوب ثم إن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل، فالنبي عليه السلام ما كان منهم لكنه كان من إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحاق عليهم السلام.
فإن قيل قوله: {من بينكم} يمنع من أن يكون المراد محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل.
قلنا: بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره.
وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وأيضًا فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام، فإذا قام محمد بالحجاز فقد قام من بينهم، وأيضًا فإنه إذا كان من إخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم.
والثالث: قال في الفصل العشرين من هذا السفر: إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة، وجه الاستدلال: أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن اسماعيل تعلم الرمي في برية فاران، ومعلوم أنه إنما سكن بمكة.
إذا ثبت هذا فنقول: إن قوله: فمنحهم العز لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام.
قالت اليهود: المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضًا ومن جبل فاران أيضًا فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق نارًا في موضع فإنه لا يقال جاء الله من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك.
وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع، وأيضًا ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران، وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده.
يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية، وتزعزعت ستور أهل مدين ركبت الخيول، وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقًا ونزعًا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار، ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيرًا ورعبًا ورفعت أيديها وجلًا وفرقًا وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضبًا وتدوس الأمم زجرًا لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ تراب آبائك.
هكذا نقل عن ابن رزين الطبري.
أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم: وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوى السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك، فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة: ظهر الرب من جبال فاران ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى ولهذا قال في آخر الكلام: وإنقاذ مسيحك قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة، أما قوله: «وإنقاذ مسيحك» فإن محمدًا عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى.
والرابع: ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه: قومي فأزهري مصباحك، يريد مكة، فقد دناوقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقًا ويظهر كرامته عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك وارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بلد بعيد لأنك أم القرى فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الأرائك والسرر حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدًا.
فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر وقوله: وأحدث لبيت محمدتي حمدًا معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، ثم صار في الإسلام: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته.
فإن قيل المراد: بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد.
قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم: قد دنا وقتك مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه وأيضًا فإن كتاب أشعياء مملوء من ذكر البادية وصفتها، وذلك يبطل قولهم.
والخامس: روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال: قد أجبت دعاك في إسماعيل وباركت عليه فكبرته وعظمته جدًا جدًا وسيلد اثني عشر عظيمًا وأجعله لأمة عظيمة والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [البقرة: 129] ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى» وهو قوله: {وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] فإنه مشتق من الحمد والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود.
قيل إن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون.
والسادس: قال المسيح للحواريين: أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له وتصديق ذلك: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} [الأنعام: 50] وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَىَّ} [يونس: 15] أما الفارقليط ففي تفسيره وجهان: أحدهما أنه الشافع المشفع وهذا أيضًا صفته عليه الصلاة والسلام.
الثاني: قال بعض النصارى: الفار قليط هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأما ليط فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب وهذا أيضًا صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل.
والسابع: قال دانيال لبختنصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه: رأيت أيها الملك منظرًا هائلًا رأسه من الذهب الأبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعضها من خزف ورأيت حجرًا يقطع من غير قاطع وصك رجل ذلك الصنم ودقها دقًا شديدًا فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتًا وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلًا عاليًا امتلأت به الأرض فهذا رؤياك أيها الملك.
وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها، والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد، وأما الرجل التي كان بعضها من خزف فإن بعض المملكة يكون عزيزًا وبعضها يكون ذليلًا وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول وإنها تزيل جميع الممالك وسلطانها يبطل جميع السلاطين وتقوم هي إلى الدهر الداهر فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف والله أعلم بما يكون في آخر الزمان.
فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.