فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}
روى الترمذي: حدّثنا عبد بن حميد حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بَدْرًا، ولم يعاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عن بدر، إنما خرج يريد العِير فخرجت قريش مُغْوِثين لعِيرهم، فالتقوا عن غير مَوعدٍ؛ كما قال الله تعالى؛ ولعمري إنّ أشرف مشاهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبَدْر، وما أحبّ أني كنت شهدتُها مكان بيعتي ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف بعدُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها، وآذن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرحيل؛ فذكر الحديث بطوله قال: فانطلقت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون، وهو يستنير كاستنارة القمر، وكان إذا سُرّ بالأمر استنار؛ فجئت فجلست بين يديه فقال: «أبشر يا كعب بن مالك بخير يومٍ أتى عليك منذ ولدتك أُمك» فقلت: يا نبيّ الله، أمن عند الله أم من عندك؟ قال: «بل من عند الله ثم تلا هذه الآية: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} حتى بلغ {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}» قال: وفينا أُنزلت أيضًا {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} وذكر الحديث. وسيأتي بكماله من صحيح مسلم في قصة الثلاثة إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تابها الله على النبيّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار على أقوال؛ فقال ابن عباس: كانت التوبة على النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجل إذنه للمنافقين في القعود؛ دليله قوله: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.
وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدّة العسرة.
وقيل: خلاصهم من نكاية العدوّ، وعُبِّر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه، وهو الرجوع إلى الحالة الأُولى.
وقال أهل المعاني: إنما ذُكر النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوبة لأنه لما كان سبب توبتهم ذُكر معهم؛ كقوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41].
قوله تعالى: {الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرِد ساعة بعينها.
وقيل: ساعة العسرة أشدّ الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة.
والعسرة صعوبة الأمر.
قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظَّهْر وعسرة الزاد وعسرة الماء.
قال الحسن: كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم، وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتِنة، وكان النَّفَر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جُرْعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم، فلا يبقى من التمرة إلا النواة؛ فمضَوْا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم.
وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة: خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصِر فَرَثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده.
فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا فادع لنا.
قال: «أتحب ذلك»؟ قال: نعم؛ فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأصاب الناسَ مجاعةٌ وقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا» فجاء عمر وقال: يا رسول الله إن فعلوا قَلّ الظَّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك البركة.
قال: «نعم» ثم دعا بنطع فبُسط، ثم دعا بفضل الأزواد؛ فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير.
قال أبو هريرة؛ فحزَرته فإذا هو قدر رُبضة العنز؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة.
ثم قال: «خذوا في أوعيتكم» فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاء إلا ملأوه، وأكل القوم حتى شبعوا؛ وفضلت فضلة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسولُ الله لا يَلْقَى اللَّهَ بهما عبدٌ غير شاكٍّ فيهما فيُحجب عن الجنة» خرّجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه، والحمد لله.
وقال ابن عرفة: سُمِّي جيشُ تبوك جيشَ العُسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس إلى الغزو في حَمَارة القيظ، فغلُظ عليهم وعَسُر، وكان إبّان ابتياع الثمرة.
قال: وإنما ضُرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغز قبله في عدد مثله؛ لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، ويوم أُحُد سبعمائة، ويوم خيبر ألفًا وخمسمائة، ويوم الفتح عشرة آلاف، ويوم حُنين اثني عشر ألفًا؛ وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفًا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب وأقام بتبوك شعبان وأيامًا من رمضان، وبَثّ سراياه وصالح أقوامًا على الجزية.
وفي هذه الغزاة خلّف عليًّا على المدينة فقال المنافقون: خلّفه بُغْضًا له؛ فخرج خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال عليه السلام: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وبيّن أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه؛ لأن المدار على أمر الشارع.
وإنما قيل لها: غزوة تبوك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى قومًا من أصحابه يَبُوكُون حِسْيَ تبوك، أي يدخلون فيه القدح ويحركونه ليخرج الماء، فقال: «ما زلتم تَبُوكُونها بَوْكًا» فسمّيت تلك الغزوة غزوة تبوك.
الحسي (بالكسر) ما تنشّفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكتْه، فتحفر عنه الرملَ فتستخرجه؛ وهو الاحتساء؛ قاله الجوهري.
قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} {قلوبُ} رفع بـ {تزيغ} عند سيبويه.
ويضمر في {كاد} الحديث تشبيهًا بكان؛ لأن الخبر يلزمها كما يلزم كان.
وإن شئت رفعتها بكاد، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ.
وقرأ الأعمش وحمزة وحفص {يزيغ} بالياء، وزعم أبو حاتم أن من قرأ {يزيغ} بالياء فلا يجوز له أن يرفع القلوب بكاد.
قال نحاس: والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجميع.
حكى الفرّاء: رَحُب البلاد وأرحبت، ورَحُبت لغة أهل الحجاز.
واختلف في معنى تزيغ، فقيل: تتلف بالجهد والمشقة والشدة.
وقال ابن عباس: تعدل أي تميل عن الحق في الممانعة والنصرة.
وقيل: من بعد ما هَمّ فريق منهم بالتخلف والعصيان ثم لحِقوا به.
وقيل: هموا بالقُفُول فتاب الله عليهم وأمرهم به.
قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبَهم حتى لم تَزِغ، وكذلك سُنّة الحق مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، ووطّنوا أنفسهم على الهلاك أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم.
وينشد:
منك أرجو ولستُ أعرف رَبًّا ** يُرْتَجى منه بعضَ ما منك أرجو

وإذا اشتدّت الشدائد في الأر ** ض على الخلق فاستغاثوا وعجُّوا

وابتليت العباد بالخوف والجو ** ع وصَرُّوا على الذنوب ولَجُّوا

لم يكن لي سواك ربِّي ملاذ ** فتيقَّنت أنني بك أنْجو

وقال في حق الثلاثة: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} فقيل: معنى {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للتوبة ليتوبوا.
وقيل: المعنى تاب عليهم؛ أي فسّح لهم ولم يعجل عقابهم ليتوبوا.
وقيل: تاب عليهم ليثبتوا على التوبة.
وقيل: المعنى تاب عليهم ليرجعوا إلى حال الرضا عنهم.
وبالجملة فلولا ما سبق لهم في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا؛ دليله قوله عليه السلام: «اعملوا فكلٌّ مُيَسَّر لما خلق له». اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} الآية.
تاب الله بمعنى تجاوز وصفح عن النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم: عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي كقوله سبحانه وتعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابًا.
وقال أصحاب المعاني: هو مفتاح كلام للتبرك كقوله سبحانه وتعالى: {فأن لله خمسه}.
ومعنى هذا: أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله: {فأن لله خمسه وللرسول} فهو تشريف له.
وأما معنى: توبة الله على المهاجرين والأنصار، فلأجل ما وقع في قلوبهم من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك لأنها كانت في وقت شديد وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية.
وقيل: إن الإنسان ليخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد العظيمة التي حصلت لهم في ذلك السفر غفر الله لهم وتاب عليهم لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ضم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيهًا على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي لأجلها ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم {الذين اتبعوه} في تلك الغزوة من المهاجرين والأنصار وقد ذكر بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى تبوك في سبعين ألفًا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل {في ساعة العسرة} يعني في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة الشدة والضيق وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش الذي سار فيه يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة: منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون وما معهم إلى التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يخرجها من فيه ويعطيها صاحبه ثم يشرب عليها جرعة من الماء ويفعل صاحبه كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من الترمة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على صدقهم ويقينهم م.
وقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فيقيظ شديد فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا فادع الله قال أتحب ذلك قال: نعم فرفع يديه صلى الله عليه وسلم يرجعا حتى أرسل الله سحابة فمطرت فملأوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر أسنده الطبري عن عمر.
قوله تعالى: {من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم} يعني من بعد ما قارب أن تميل قلوب بعضهم عن الحق من أجل المشقة والشدة التي نالتهم والزيغ في اللغة الميل.
وقيل: همَّ بعضهم أن يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الشدة التي نالتهم لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما خطر في قلوبهم فلأجل ذلك قال تعالى: {ثم تاب عليهم} يعني أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة.
فإن قلت قد ذكر التوبة أولًا ثم ذكرها ثانيًا فما فائدة التكرار؟
قلت إنه سبحانه وتعالى ذكر التوبة أولًا قبل ذكر الذنب تفضلًا منه وتطييبًا لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيمًا لشأنهم وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم ثم أتبعه بقوله: {إنه بهم رؤوف رحيم} تأكيدًا لذلك ومعنى الرؤوف في صفة الله تعالى أنه الرفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى.
قال الخطابي: قد تكون الرحمة مع الكراهة للمصلحة ولا تكاد الرأفة تكون مع الكراهة. اهـ.