فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَعلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} يعني وتاب على الثلاثة الذين خلّفوا وفيه وجهان:
أحدهما: خلفوا عن التوبة وأخرت عليهم حين تاب عليهم، أي على الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم مع أبي لبابة، قاله الضحاك وأبو مالك.
الثاني: خلفوا عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله عكرمة.
وهؤلاء الثلاثة هم: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك.
{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} لأن المسلمين امتنعوا من كلامهم.
{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بما لقوه من الجفوة لهم.
{وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} قال كعب بن مالك: بعد خمسين ليلة من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوك.
{لِيَتُوبُوا} قال ابن عباس ليستقيموا لأنه قد تقدمت توبتهم وإنما امتحنهم بذلك استصلاحًا لهم ولغيرهم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}
ومعنى {خلفوا} آخروا وترك أمرهم ولم تقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين، وقيل معنى {خلفوا} أي عن غزوة تبوك، قاله قتادة وهذا ضعيف وقد رده كعب بن مالك بنفسه وقال: معنى {خلفوا} تركوا عن قبول العذر وليس بتخلفنا عن الغزو، ويقوي من اللفظة جعله إذا ضاقت غاية للتخليف ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر، وقرأ الجمهور {خُلِّفوا} بضم الخاء وشد اللام المكسورة، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد وأبو عمرو أيضًا {خَلَفوا} بفتح الخاء واللام غير مشددة، وقرأ أبو مالك {خُلِفوا} بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة، وقرأ أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن {خالفوا} والمعنى قريب من التي قبلها، وقال أبو جعفر ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب، وقرأ الأعمش {وعلى الثلاثة المخلفين}، وقوله: {بما رحبت} معناه برحبها كأنه قال: على ما هي في نفسها رحبة، فـ {ما} مصدرية، {وضاقت عليهم أنفسهم} استعارة لأن الغم والهم ملأها {وظنوا} في هذه الآية بمعنى أيقنوا وحصل علم لهم وقوله: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبهًا على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعدد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ليكون هذا أشد تقريرًا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه، وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر.
وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذرًا في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظمًا ولا طاعته إلا وجوبًا ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارًا والسلام، ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله: [الكامل]
والعيب يعلق بالكبير كبير

وفي بعض طرق حديث الثلاثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت أم سلمة، وكانت لهم صالحة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أمَّ سلمة: تيب على كعب بن مالك وصاحبيه»، فقالت يا رسول الله ألا أبعث إليهم؟ فقال: «إذًا يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم». اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفُوا}
وقرأ أبو رزين وأبو مجلز والشعبي وابن يعمر: {خالفوا} بألف.
وقرأ معاذ القارئ وعكرمة وحميد: {خَلَفُوا} بفتح الخاء واللام المخففة.
وقرأ أبو الجوزاء وأبو العالية: {خَلَّفوا} بفتح الخاء واللام مع تشديدها.
وهؤلاء هم المرادون بقوله: {وآخرون مُرجَوْنَ} وقد تقدَّمت أسماؤهم [التوبة: 106] وفي معنى {خُلّفوا} قولان:
أحدهما: خُلِّفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، فيكون المعنى: خُلِّفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك.
والثاني: خُلِّفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة.
وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك، وقد رويتها في كتاب الحدائق.
قوله تعالى: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبت} أي: ضاقت مع سَعَتها، وذلك أن المسلمين مُنعوا من معاملتهم وكلامهم، وأُمروا باعتزال أزواجهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مُعرِضًا عنهم.
{وضاقت عليهم أنفسهم} بالهمِّ والغمِ.
{وظنوا} أي: أيقنوا {أن لا ملجأ} أي: لا معتصَم من الله ومن عذابه إلا هو.
{ثم تاب عليهم} أعاد التوبة تأكيدًا، {ليتوبوا} قال ابن عباس: ليستقيموا وقال غيره: وفَّقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها.
وسئل بعضهم عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الارضُ، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}
قيل: عن التوبة؛ عن مجاهد وأبي مالك.
وقال قتادة: عن غزوة تبوك.
وحُكي عن محمد بن زيد معنى {خُلِّفُوا} تُركوا؛ لأن معنى خلّفت فلانًا تركته وفارقته قاعدًا عما نهضت فيه.
وقرأ عكرمة بن خالد {خَلَفوا} أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورُوي عن جعفر بن محمد أنه قرأ {خالفوا} وقيل: {خُلِّفُوا} أي أرجئوا وأُخّروا عن المنافقين فلم يُقض فيهم بشيء.
وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخر النبيّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن.
وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخارِيّ وغيرهما.
واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أُولئك الذين قَبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى اللَّهُ فيه؛ فبذلك قال الله عز وجل: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا تَخَلُّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فَقبِل منه.
وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره.
والثلاثة الذين خُلِّفوا هم: كعب بن مالك، ومُرارة بن ربيعة العامِرِيّ، وهلال بن أُميّة الوَاقِفي، وكلهم من الأنصار.
وقد خرّج البخاريّ ومسلم حديثَهم، فقال مسلم عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قطُّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدًا تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِير قريش؛ حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحِبّ أن لي بها مشهدَ بدر، وإن كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسَر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، واللَّهِ ما جمعتُ قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة؛ فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًّا كثيرًا؛ فجلاَ للمسلمين أمرهم ليتأهّبُوا أهْبةَ غَزْوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتابُ حافظٍ يريد بذلك الدّيوان قال كعب: فقَلّ رجل يريد أن يتغيّب، يظن أن ذلك سيَخْفَى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظِّلال؛ فأنا إليها أَصْعر، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفِقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضِ شيئًا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت! فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيًا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو؛ فهَمَمْت أن أرتحل فأُدركَهم، فيا ليتني فعلت! ثم لم يقدَّر ذلك لي فطفِقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنّي لا أرى لي أسوةً إلا رجلًا مغْمُوصا عليه في النفاق، أو رجلًا ممن عَذَر اللَّهُ من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك»؟ فقال رجل من بني سَلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطْفيه.
فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبينما هو على ذلك رأى رجلًا مُبَيِّضًا يزول به السَّراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خَيْثمة»؛ فإذا هو أبو خيثمة الأنصاريّ، وهو الذي تصدّق بصاع التمر حتى لَمَزه المنافقون.
فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلًا من تبوك حضرني بَثِّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سَخطه غدًا، وأستعين على ذلك كلَّ ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادمًا زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صِدْقه، وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدِم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفِقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووَكَل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فلما سلّمت تبسم تبسُّم المُغْضَب، ثم قال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلّفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك»؟ قال: قلت يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ ولقد أُعطِيت جَدَلًا، ولكني والله لقد علمت لئن حدّثتك اليومَ حديث كذب تَرْضَى به عني ليُوشِكَنّ اللَّهُ أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجِد عليّ فيه إنّي لأرجو فيه عُقْبَى اللَّهِ، واللَّهِ ما كان لي عذر، واللَّهِ ما كنت قطُّ أقْوَى ولا أيسَر منّي حين تخلّفت عنك.