فصل: من فوائد أبي حيان في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} هذا افتتاح الكلام مع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثم أعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة الله تعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن، إلى غير ذلك مما ذكره، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم، وما جرى له من أكله من الشجرة بعد النهي عنه، وأن الحامل له على ذلك إبليس.
وكانت هاتان الطائفتان: أعني اليهود والنصارى، أهل كتاب، مظهرين اتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى.
وقد اندرج ذكرهم عمومًا في قوله: {يا أيها الناس اعبدوا} فجرد ذكرهم هنا خصوصًا، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى، فتكلم معهم هنا، وذكروا ما يقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب، كما آمنوا بكتبهم السابقة، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة.
وناسب الكلام معهم قصة آدم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، المذكور ذلك في التوراة والإنجيل، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد عليهم من الأوامر والنواهي، نحو قوله: {يا أيها الناس اعبدوا} {ويا آدم اسكن}.
وقد تقدم الإشارة إلى ذلك، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل، وهو يعقوب، ولم يقل: يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبد الله أو صفوة الله، وذلك على أحسن تفاسيره، فهزهم بالإضافة إليه، فكأنه قيل: يا بني عبد الله، أو يا بني صفوة الله، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح أطع الله، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله، لأن الإنسان يحب أن يقتفى أثر آبائه، وإن لم يكن بذلك محمودًا، فكيف إذا كان محمودًا؟ ألا ترى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} وفي قوله: {يا بني إسرائيل} دليل على أن من انتمى إلى شخص، ولو بوسائط كثيرة، يطلق عليه أنه ابنه، وعليه {يا بني آدم} ويسمى ذلك أبًا.
قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكر نسبتهم لهذا الأصل الطيب، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي: أنه ليس لأحد من الأنبياء غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل.
ونقل الجوهري في صحاحه: أن المسيح اسم علم لعيسى، لا اشتقاق له.
وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل.
والمراد بقوله: {يا بني إسرائيل اذكروا} من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وما والاها من بني إسرائيل، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة: والأقرب الأول، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: {وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم} إلا على ضرب بعيد من التأويل، ولأن من آمن منهم لا يقال له: {وآمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به} إلا بمجاز بعيد.
ويحتمل قوله: {اذكروا} الذكر باللسان والذكر بالقلب: فعلى الأول يكون المعنى: أمرّوا النعم على ألسنتكم ولا تغفلوا عنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى.
وعلى الثاني يكون المعنى: تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها.
وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج، أو إدراكهم مدة النبي صلى الله عليه وسلم، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهم وخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال.
وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: {التي أنعمت عليكم} ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكًا، وأنزل عليهم الكتب المعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى.
قال ابن عباس: أعطاهم عمودًا من النور ليضء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى.
وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو: التوراة والإنجيل والزبور، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن، ولأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الخالقة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة.
وهذه النعم، وإن كانت على آبائهم، فهي أيضًا نعم عليهم، لأن هذه النعم حصل بها النسل، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد.
قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ذكر المنعم فقال: {اذكروني أذكركم} فدل ذلك على فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم، وفي قوله: {نعمتي} نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: {آياتنا} إلى ضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك.
وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها، ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح.
وأنعمت: صلة التي، والعائد محذوف، التقدير: أنعمتها عليكم.
{وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}.
العهد: تقدم تفسيره لغة في قوله: {الذين ينقضون عهد الله} ويحتمل العهد أن يكون مضافًا إلى المعاهد وإلى المعاهد.
وفي تفسير هذين العهدين أقوال: أحدها: الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة.
الثاني: ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به، قاله ابن عباس.
الثالث: ما ذكر لهم في التوراة من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
الرابع: أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها.
الخامس: ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر.
السادس: إصلاح الدين وعهدهم إصلاح آخرتهم.
السابع: مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك.
الثامن: إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر.
التاسع: {خذوا ما آتيناكم بقوة} قاله الحسن.
العاشر: {وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا يكتمونه} الحادي عشر: الإخلاص في العبادات وعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات.
الثاني عشر: الإيمان به وطاعته، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات.
الثالث عشر: حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر.
الرابع عشر: عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل: إني باعث من بني إسرائيل نبيًا فمن اتبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، قاله الكلبي.
الخامس عشر: شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية.
السادس عشر: أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي، أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربى ورؤيتي، قاله الثوري.
السابع عشر: لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة، قاله إسماعيل بن زياد.
الثامن عشر: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا} الآية، قاله ابن جريج، وعهدهم إدخالهم الجنة.
التاسع عشر: أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، قاله الجمهور.
العشرون: أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات، قاله أبو عثمان.
الحادي والعشرون: أوفوا بعهدي في حفظ حدودي ظاهرًا وباطنًا أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري.
الثاني والعشرون: عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة، قاله القشيري.
الثالث والعشرون: أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق.
الرابع والعشرون: أوفوا بعهدي اكتفوا مني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم.
فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين.
والذي يظهر، والله أعلم، أن المعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهدًا على سبيل المقابلة، أو إبرازًا لما تفضل به تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله، كما قال تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدًا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإن له عهدًا عند الله أن يدخله الجنة» وقرأ الزهري: أوف بعهدكم مشدّدًا.
ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقًا للمجرّد.
فإن أريد به التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف، وكأنه قيل: أبالغ في إيفائكم، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل، كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيدًا يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئًا آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول: أضرب زيدًا، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلًا، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه.
وقد اختلف النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت: اضرب زيدًا يغضب، ضمن اضرب معنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف.
وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيدًا، إن تضرب زيدًا يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها.
وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنى إن.
وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل.
والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.
{وإياي فارهبون}.
إياي: منصوب بفعل محذوف مقدرًا بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيدًا، إذ الكلام مفروغ في قالب جملتين.
ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان.
وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل، قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد.
ومعنى ذلك أن الكلام جملتان في التقدير، وإياك نعبد، جملة واحدة، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل.
وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك.
والمعنى: ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا قول ابن عباس.
وقيل معنى فارهبون: أن لا تنقضوا عهدي، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويف والتهويل، مثل قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا.
وقيل: الخوف خوفان، خوف العقاب، وهو نصيب أهل الظاهر، ويزول، وخوف جلال، وهو نصيب أهل القلب، ولا يزول.
وقال السلمي: الرهبة: خشية القلب من رديء خواطره.
وقال سهل: {وإياي فارهبون} موضع اليقين بمعرفته، {وإياي فاتقون} موضع العلم السابق وموضع المكر والاستدراج.
وقال القشيري: أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الخطاب العام، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الأنعام، وجعله سبحانه بعد قصة آدم، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم ظهر منهم ضد ذلك، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة، وهبطوا إلى أرض الطبيعة، وتعرضت لهم الكلمات إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول ففات منهم ما فات، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي.
وبني جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث كقالت بنو عامر وهو مختص بالأولاد الذكور، وإذا أضيف عم في العرف الذكور والإناث فيكون بمعنى الأولاد وهو المراد هنا وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية كما بين في الأصول واستعماله في العام مجاز، وهو محذوف اللام، وفي كونها ياء أو واوًا خلاف، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال للقصيدة مثلًا: بنت الفكر، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين أبناء الله تعالى بهذا المعنى، لكن لما تصور من هذا الجهلة الأغبياء معنى الولادة حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرًا، وذهب إلى الثاني الأخفش، وأيده بأنهم قالوا: البنوّة، وبأن حذف الواو أكثر، وقد حذفت في أب وأخ وبه قال الجوهري ولعل الأول أصح، ولا دلالة في البنوّة لأنهم قالوا أيضًا: الفتوّة، ولا خلاف في أنها من ذوات الياء وأمر الأكثرية سهل، وعلى التقديرين في وزن ابن هل هو فعل أو فعل؟ خلاف؛ وإسرائيل اسم أعجمي، وقد ذكروا أنه مركب من إيل اسم من أسمائه تعالى، وإسرا وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام وللعرب فيه تصرفات، فقد قالوا: إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها وبه قرأ الجمهور وإسراييل بياءين بعد الألف وبه قرأ أبو جعفر وغيره وإسرائل بهمزة ولام، وهو مروي عن ورش وإسرأل بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء، ولام وإسرأل بألف ممالة بعدها لام خفيفة وبها ولا إمالة وهي رواية عن نافع وقراءة الحسن وغيره وإسرائين بنون بدل اللام، كما في قوله:
تقول أهل السوء لما جينا ** هذا ورب البيت إسرائينا

وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب تأكيدًا لتحريكهم إلى طاعته فإن في إسرائيل ما ليس في اسم الكريم يعقوب وقولك: يا ابن الصالح أطع الله تعالى، أحث للمأمور من قولك: يا ابن زيد مثلًا أطع، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء وإن لم يكن محمودًا فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوّة أحسن والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوّة أسوأ، و{اذكروا} أمر الذكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد، ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر للسان وبالضم للقلب وضد الأول الصمت، وضد الثاني النسيان.
وعلى العموم: فإما أن يكون مشتركًا بينهما، أو موضوعًا لعنى عام شامل لهما والظاهر هو الأول، والمقصود من الأمر بذلك الشكر على النعمة والقيامة بحقوقها لا مجرد الأخطار بالجنان، أو التفوه باللسان، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه، وقد قال بعض المحققين: إنها تفيد الاستغراق إذ لا عهد ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنا من هذه الحيثية أدعى للشكر فإن الإنسان حسود غيور، وقال قتادة: أريد بها ما أنعم به على آبائهم مما قصه سبحانه في كتابه وعليهم من فنون النعمة التي أجلها إدراك زمن أشرف الأنبياء وجعلهم من جملة أمة الدعوة له، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب، أو جعل نعم الآباء نعمهم، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز كما وهمَ ويجوز في الياء من {نِعْمَتِيَ} الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح، و{أَنْعَمْتَ} صلة {التى} والعائذ محذوف، والتقدير أنعمتها وقرئ ادكروا بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} يقال: أوفى ووفى مخففًا ومشددًا بمعنى، وقال ابن قتيبة: يقال: أوفيت بالعهد ووفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، وجاء أوفى بمعنى ارتفع كقوله:
ربما أوفيت في علم ** ترفعن ثوبي شمالات

والعهد يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه، والظاهر هنا أن الأول: مضاف إلى الفاعل، والثاني: إلى المفعول، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى: أوفوا بعهدي بالإيمان والطاعة أوف بعهدكم بحسن الإثابة، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم.
واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد، وقيل: وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة، وتفصيل العهدين قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل} إلى قوله سبحانه: {وَلاَدْخِلَنَّكُمْ} [المائدة: 2 1] الخ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين، وإلا فالمخاطبون ب {أَوْفُواْ} ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية، وقيل: إن فسر الإيفاء باتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل، ولا يخفى أن للوفاء عرضًا عريضًا، فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء فما روي من الآثار على اختلاف أسانيدها صحة وضعفًا في بيان الوفاء بالعهدين فبالنظر إلى المراتب المتوسطة، وهي لعمري كثيرة ولك أن تقول: أول: المراتب منا توحيد الأفعال، وأوسطها: توحيد الصفات.
وآخرها: توحيد الذات، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق، وقرأ الزهري {أُوفِ} بالتشديد، فإن كان موافقًا للمجرد فذاك؛ وإن أريد به التكثير والقلب إليه يميل فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه، ومزيد امتنانه، حيث أخبر وهو الصادق، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر، وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
{وإياى فارهبون} الرهبة الخوف مطلقًا، وقيل: مع تحرز، وبه فارق الاتقاء، لأنه مع حزم ولهذا كان الأول: للعامة، والثاني: للأئمة، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف، وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف، وفي الأمر بها وعيد بالغ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 0 4] كما وهمَ لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى وإياي ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلًا على تقدير الشرط، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلًا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرًا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة، واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة: إنها عاطفة بحسب الأصل، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] وعدّ من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفًا عليه ومعطوفًا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا {فارهبون} وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون، وقيل: ارهبون في نقض العهد؛ ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان: خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب.
وما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين الذين {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غافلون} [الروم: 7] وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل. اهـ.