فصل: قال ابن عجيبة في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عطية: أيقنوا، كما قالوا في قول الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج ** سراتهم في الفارسي المسرّد

وقال قوم: الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة.
وجاءت هذه الجمل في كنف إذًا في غاية الحسن والترتيب، فذكر أولًا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم، ونبوة الناس عن كلامهم.
وثانيًا وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولًا ضيق المحل، ثم ثانيًا ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة.
سم الخياط مع المحبوب ميدان.
ثم ثالثًا لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وإذًا إنْ كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره: تاب عليهم، ويكون قوله: {ثم تاب عليهم}، نظير قوله: {ثم تاب عليهم}، بعد قوله: {لقد تاب الله على النبي} الآية.
ودعوى أنّ ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جدًا، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم.
ومن زعم أنّ إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله: {خلفوا} أي: خلفوا إلى هذا الوقت، ثم تاب عليهم ليتوبوا، ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا، أو ليتوبوا أيضًا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علمًا منهم أنّ الله توّاب على من تاب، ولو عاد في اليوم مائة مرة.
وقيل: معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها.
وقيل: ليتوبوا، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين، وتستكن نفوسهم عند ذلك.
قال ابن عطية: وقوله: {ثم تاب عليهم ليتوبوا}، لمّا كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبّهًا على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ليكون هذا أشد تقريرًا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه.
وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرت سوقه.
وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأنّ الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة، وصاحباه من أهل بدر، وفي هذا ما يقتضي أنّ الرجل العالم والمقتدي به أقل عذرًا في السقوط من سواه.
وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أنّ قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظمًا، ولا طاعته إلا وجوبًا، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارًا والسلام.
ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله:
والعيب يعلق بالكبير كبير

انتهى.
وروي أن أناسًا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة، ومنهم من بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة.
وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال: إن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. اهـ.

.قال ابن عجيبة في الآيتين:

{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}
قلت: في {كاد} ضمير الشأن، ويرتفع بها قلوبُ.
يقول الحق جل جلاله: {لقد تابَ الله على النبي} أي: برأه وطهره من الذنوب، كقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر} [الفتح: 2]، {و} تاب على {المهاجرين والأنصار} مما عسى أن يكون ارتكبوه؛ إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب. وقيل: هو حض على التوبة، وإظهار لفضلها، بأنها مقام الأنبياء والصالحين، وقيل: تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها، إلى ما هو أكمل منها، فما من أحد إلا وله مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ذكر توبة من لم يذنب؛ لئلا يستوحش من أذنب، لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين والأنصار، ولم يذنبوا، ثم قال: {وعلى الثلاثة الذين خُلفوا}، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، فلو قال أولًا: لقد تاب على الثلاثة لتفطرت أكبادهم. اهـ.
ثم وصفهم بقوله: {الذين اتبعوه في ساعة العُسرةِ}، يعني: حين محاولة غزوة تبوك. والساعة هنا بمعنى الحين والوقت. والعسرة: الشدة والضيق، أي: الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق، فقد كانوا في عسرة الظهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة الزاد؛ حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة.
{من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر، {ثم تاب عليهم}؛ كرره للتأكيد، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر، {إنه بهم رؤوف رحيم}؛ حيث قَبَلهم، وتاب عليهم، وتاب على الثلاثة: وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عتب عليهم، وأمر الناس ألا يكلمهم، وأن يعتزلوا نساءهم، فقبلوا على ذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم. وقد وقع حديثهم في البخاري ومسلم وكتب السير.
ومعنى قوله: {الذين خلفوا} أي: تخلفوا عن الغزو. وقال كعب بن مالك: خلفوا عن قبول العذر، وليس بالتخلف عن الغزو، ويقوي ذلك كونه جعل: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض} غاية للتخلف، أي: خلفوا عن قبول العذر، وأخروا {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي: برحبها وسعتها، وذلك لإعراض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة.
{وضاقت عليهم أنفسهم}؛ من فرط الوحشة والغم، {وظنوا} أي: علموا {أن لا ملجأ من الله} أي: من سخطه {إلا إليه} أي: إلا إلى استغفاره والرجوع إليه، {ثم تاب عليهم}؛ بالتوفيق بالتوبة، {ليتوبوا} يإظهارها والدوام عليها، وليعدوا من التوابين، {إن الله هو التواب} لمن تاب، ولو عادوا في اليوم سبعين مرة، {الرحيم}؛ متفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
قال الورتجبي: التوبة توبتان: توبة العبد، وتوبة الله، توبة العبد: الرجوع من الزلات إلى الطاعات، وتوبة الله: رجوعه إلى العبد بنعت الوصال، وفتح باب المآب، وكشف النقاب عن الاحتجاب، وطلب العتاب.
إذا مَرِضنا أَتَينَاكُم نَعُودكُمُ ** وتذنبون فنأتيكم ونعتذُر

انظر لطف الله بنبيه وأصحابه، كيف تاب لأجلهم مكان توبتهم، رجع إليهم قبل رجوعهم إليه، ليسهل عليهم طريق الرجوع إليه، فرجوعه إلى نبيه بكشف المشاهدة، ورجوعه إليهم بكشف القربة، فتوبته للنبي صلى الله عليه وسلم من غيبته عن المشاهدة؛ باشتغاله بأداء الرسالة، وتوبة القوم من غيبتهم عن ملاحظة الحضرة، فلما ذاقوا الجنايات، واحتجبوا عن المشاهدات؛ أدركهم فيض الوصال، وانكشف لهم أنوار الجمال، وهكذا سنة الله في الأنبياء والأولياء، إذا ذابوا في مقام الامتحان، وبقوا في الحجاب عن مشاهدة الرحمن، تمطر عليهم وبل سحاب الكرم، ويلمع لأبصار أسرارهم نور شرف القدم، فيؤنسهم بعد إياسهم، ويواصلهم بعد قنوطهم.
قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ا} [الشورى: 28]، وقال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل...} [يوسف: 110] الآية. ثم قال عن بعضهم: توبة الأنبياء في مشاهدة الخلق في وقت الإبلاغ؛ إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة، بل لا يحضرون في مواضع الغيبة؛ لأنهم في عين الجمع أبدًا. اهـ.
قال المحشي: وحاصله: توبة الله المذكورة وَهبيةٌ، وهي في كل أحد على حسب ما يليق بمقامه، وإنما يليق بمقام الرسل ترقيته عن مقام إلى أعلى، أو من شعور بخلق؛ لأجل الإبلاغ، إلى الغيبة عن ذلك، وكذلك أبدًا كأهل الجنة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن منده وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله في قوله وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار.
وأخرج ابن مردويه عن مجمع بن جارية قال: الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن ربعي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال: إن الثلاثة الذين خلفوا كعب بن مالك من بني سلمة وهلال بن أمية من بني واقف ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه يتلقونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تكلمن رجلا تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم فلم يكلموهم» فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه الذين تخلفوا يسلمون عليه فأعرض عنهم وأعرض المؤمنون عنهم حتى أن الرجل ليعرض عنه أخوه وأبوه وعمه فجعلوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتذرون بالجهد والأسقام فرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعهم واستغفر لهم وكان ممن تخلف عن غير شك ولا نفاق ثلاثة نفر الذين ذكر الله تعالى في سورة التوبة كعب بن مالك السلمي وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن ربيعة العامري.
وأخرج ابن منده وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والبيهقي من طريق الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر.
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فأخبرهم وجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان.
قال كعب رضي الله عنه: فقل رجل يريد أن يتغيب إلى ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وآن لها أن تصغر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت.
فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وفلت الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم- وليت أني أفعل- ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذ خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه من النفاق أو رجلا ممن عذره الله.