فصل: فصل (في جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحًا وسرورًا به):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل [في جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحًا وسرورًا به]:

ومنها: جواز إنشادِ الشِّعر للقادم فرحًا وسرورًا به ما لم يكن معه مُحرَّم من لهو، كمزمار، وشبابة، وعود، ولم يكن غناءً يتضمن رُقية الفواحش، وما حرَّم الله، فهذا لا يُحَرِّمُه أحد، وتَعَلُّقُ أربابِ السماع الفِسقى به كتعلق مَن يستحِلُّ شُربَ الخمر المسكر قياسًا على أكل العنب، وشرب العصير الذي لا يُسْكِر، ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.
ومنها: استماعُ النبي صلى الله عليه وسلم مدحَ المادحين له، وتركُ الإنكار عليهم، ولا يَصِحُّ قياسُ غيره عليه في هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال: «احْثُوا في وُجُوه المَدَّاحِينَ التُّرابَ».
ومنها: ما اشتملت عليه قصةُ الثلاثة الذين خُلِّفُوا مِن الحِكَم والفوائد الجمَّة، فنشيرُ إلى بعضُها:
فمنها: جوازُ إخبار الرجل عن تفريطه وتقصِيرِه في طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمرُه، وفى ذلك مِن التحذير والنصيحة، وبيانِ طُرُقِ الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأُمور.
ومنها: جوازُ مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع.
ومنها: تسلية الإنسان نفسَه عما لم يُقدَّر له من الخير بِما قُدِّر له مِن نظيره أو خير منه.
ومنها: أن بَيْعةَ العَقَبَةِ كانت مِن أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعبًا كان لا يراها دونَ مشهد بدر.
ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعضَ ما يهم به ويقصِدُه من العدو، ويُورِّى به عنه، استُحِبَّ له ذلك، أو يتعين بحسب المصلحة.
ومنها أن السِّترَ والكِتمان إذا تضمن مفسدة، لم يجز.
ومنها: أن الجيشَ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم دِيوان، وأول مَن دوَّن الدِّيوان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهذا مِن سُنَّته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها، وظهرت مصلحتُها، وحاجةُ المسلمين إليها.
ومنها: أن الرجلَ إذا حضرت له فُرصةُ القُربة والطاعة، فالحزمُ كُلُّ الحزم في انتهازها، والمبادرة إليها، والعجزُ في تأخيرها، والتسويف بها، ولاسيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعةُ الانتقاض قلَّما ثبتت، والله سُبحانه يُعاقب مَنْ فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعد من إرادته عقوبةً له، فمن لم يَستَجِبْ للهِ ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابةُ بعد ذلك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، وقد صرَّح الله سبحانه بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. وقال: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وهو كثير في القرآن.
ومنها: أنه لم يكن يتخلَّفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحد رجال ثلاثة: إما مغموصٌ عليه في النفاق، أو رجلٌ من أهل الأعذار، أو من خلَّفَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة، أو خَلَّفه لمصلحة.
ومنها: أن الإمام والمطاعَ لا ينبغى له أن يُهمِلَ مَنْ تخلَّفَ عنه في بعض الأُمور، بل يُذكِّره ليراجع الطاعة ويتوب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بتبوك: «مَا فَعَلَ كَعْب»؟ ولم يذكر سِواه من المخلَّفين استصلاحًا له، ومُرعاةً وإهمالًا للقوم المنافقين.
ومنها: جوازُ الطعنِ في الرجل بما يغلِبُ على اجتهادِ الطاعن حميةً، أو ذبًّا عن الله ورسوله، ومن هذا طعنُ أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعنُ ورثة الأنبياء وأهل السُّنَّة في أهل الأهواء والبِدَع للهِ لا لحظوظهم وأغراضهم.
ومنها: جوازُ الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الرادِّ أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذى طعن في كعب: بئس ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلاَّ خيرًا، ولم يُنْكِرْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما.
ومنها: أن السُّنَّة للقادم من السفر أن يدخل البلَد على وضوء، وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيُصَلِّى فيه ركعتين، ثم يجلس للمسلِّمين عليه، ثم ينصرفُ إلى أهله.
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية مَن أظهر الإسلام من المنافقين، ويَكِلُ سريرته إلى الله، ويُجرى عليه حكم الظاهر، ولا يُعاقبه بما لم يعلم مِن سِرِّه.
ومنها: تركُ الإمام والحاكم ردَّ السلام على مَن أحدث حَدَثًا تأديبًا له، وزجرًا لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُنقل أنه رَدَّ على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المُغْضَبِ.
ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب، كما يكون عن التعجب والسرور، فإن كلاّ منهما يُوجب انبساط دمِ القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرةُ الوجه لسرعة ثورانِ الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجُّبٌ يتبعهُ ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه، ولاسيما عند المَعتَبَةِ كما قيل:
إذا رَأَيْتَ نُيُوبَ اللَّيْثِ بَارِزَة ** فَلا تَظُّنَّنَّ أنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسِمُ

ومنها: معاتبةُ الإمام والمطاع أصحابه، ومَن يعز عليه، ويَكْرُم عليه، فإنه عاتَب الثلاثة دونَ سائِر مَنْ تخلَّف عنه، وقد أكثر الناسُ من مدح عتاب الأحبة، واستلذاذه، والسرور به، فكيف بعتاب أحبِّ الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب، وما أعظم ثمرتَه، وأجلَّ فائدتَه، ولله ما نال به الثلاثةُ مِن أنواع المسرَّات، وحلاوةِ الرضى، وخِلَعِ القبول.
ومنها: توفيقُ اللهِ لكعب وصاحبيه فيما جاؤوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلُحت عاجلتهم، وفسدت عاقبتهُم كلَّ الفساد، والصادقون تعبوا في العاجلة بعضَ التعب، فأعقبهم صلاح العاقبة، والفلاح كُلَّ الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة، فمراراتُ المبادى حلاوات في العواقب، وحلاوات المبادى مرارات في العواقب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: «أما هذا، فقد صدق»، دليلٌ ظاهر في التمسك بمفهوم اللَّقب عند قيام قرينة تقتضى تخصيص المذكور بالحكم، كقوله تعالى: {وَداوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78-79]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «جُعِلت لى الأرضُ مسجدًا وتُرْبَتُها طهورًا»، وقوله في هذا الحديث: «أما هذا فقد صدق»، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم.
وقول كعب: هل لقى هذا معى أحد؟ فقالوا: نعم، مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية، فيه أن الرجل ينبغى له أن يردَّ حرَّ المصيبة بروح التأسى بمن لقى مثل ما لقى، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ في ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إنْ تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]، وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهلَ النارِ فيها بقوله: {وَلَن يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ في الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39].
وقوله: «فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرًا لى فيهما أُسوة» هذا الموضع مما عُدَّ من أوهام الزُّهْرى، فإنه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازى والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين في أهل بدر، لا ابن إسحاق ولا موسى ابن عقبة، ولا الأموى، ولا الواقدى، ولا أحد ممن عدَّ أهل بدر، وكذلك ينبغى ألاَّ يكونا من أهل بدر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لمْ يَهْجُرْ حاطبًا، ولا عاقبه وقد جسَّ عليه، وقال لعمر لما هَمَّ بقتله: «وما يُدريكَ أن الله اطلع على أَهْلِ بدرٍ فقال: اعملوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم»، وأين ذنبُ التخلف من ذنب الجسِّ.
قال أبو الفرج بن الجوزى: ولم أزل حريصًا على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيتُ أبا بكر الأثرم قد ذكر الزُّهْرى، وذكر فضله وحفظه وإتقانه، وأنه لا يكاد يُحفظ عليه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه قال: إن مرارة بن الربيع، وهلال بن أُمية شهدا بدرًا، وهذا لم يقله أحدٌ غيره، والغلط لا يُعصم منه إنسان.

.فصل [في هجر الثلاثة الذين خلفوا]:

وفى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر مَن تخلَّف عنه دليلٌ على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجرَ الصادقين وتأديبَهم على هذا الذنب، وأما المنافِقون، فجُرمهم أعظمُ من أن يُقابَل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق، ولا فائدةَ فيه، وهكذا يفعلُ الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدِّبُ عبده المؤمن الذي يحبُه وهو كريم عنده بأدنى زَلَّة وهفوة، فلا يزال مستيقظًا حَذِرًا، وأما مَن سقط من عينه وهان عليه، فإنه يُخلَى بينَه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنبًا أحدث له نِعمة، والمغرورُ يظن أن ذلك مِن كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة، وأنه يُريد به العذابَ الشديد، والعقوبةَ التي لا عاقبة معها، كما في الحديث المشهور: «إذَا أرَادَ اللهُ بَعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَتَهُ في الدُّنْيَا، وإذَا أرادَ بِعَبْدٍ شَرًا، أَمْسَكَ عَنْهُ عُقُوبَتَهُ في الدُّنْيَا، فَيَرِدُ يَوْمَ القِيَامَة بذُنُوبِه».
وفيه دليل أيضًا على هِجران الإمام، والعالمِ، والمطاعِ لمن فعل ما يستوجِبُ العَتب، ويكون هِجرانه دواء له بحيث لا يضعُف عن حصولِ الشفاء به، ولا يزيدُ في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المرادُ تأديبُه لا إتلافُه.
وقوله: حتى تنكرت لى الأرض، فما هي بالتى أعرِفُ هذا التنكرُ يجده الخائفُ والحزينُ والمهمومُ في الأرض، وفى الشجر، والنبات حتى يجدَه فيمن لا يُعلم حاله من الناس، ويجده أيضًا المذنبُ العاصى بحسب جُرمه حتى في خُلُقِ زوجته وولده، وخادمه ودابته، ويَجِدُه في نفسه أيضًا، فتتنكر له نفسُه حتى ما كأنَّه هو، ولا كأنَّ أهلَه وأصحابَه، ومَن يُشْفِقُ عليه بالَّذِينَ يعرِفُهم، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على مَن هو ميتُ القلب، وعلى حسب حياة القلب، يكون إدراكُ هذا التنكر والوحشة. وما لجرح بميت إيلام.
ومن المعلوم، أن هذا التنكرَ والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به، وهكذا القلبُ إذا استحكم مرضُه، واشتد ألمُه بالذنوب والإجرام، لم يجد هذه الوحشة والتنكر، ولم يحس بها، وهذه علامةُ الشقاوة، وأنه قد أيسَ من عافية هذا المرض، وأعيا الأطباء شِفاؤه، والخوفُ والهمُّ مع الريبة، والأمنُ والسرورُ مع البراءةِ مِن الذنب.
فَمَا في الأرْضِ أَشْجَعُ مِنْ بَرِيءٍ ** وَلا في الأرْضِ أخْوَفُ مِنْ مُرِيبِ

وهذا القدرُ قد ينتفع به المؤمنُ البَصيرُ إذا ابتُلِىَ به ثم راجع، فإنه ينتفع به نفعًا عظيمًا مِن وجوه عديدة تفوتُ الحصرَ، ولو لم يكن منها إلا استثمارُه من ذلك أعلام النبوة، وذوقُه نفس ما أخبر به الرسولُ فيصير تصديقه ضروريًا عنده، ويصيرُ ما ناله مِن الشر بمعاصيه، ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرقُ إليها الاحتمالات، وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيتَ وكيتَ على التفصيل، فخالفته وسلكتها، فرأيتَ عَيْن ما أخبرَكَ به، فإنك تَشْهَدُ صِدقَه في نفس خِلافك لهُ، وأما إذا سلكت طريقَ الأمن وحدها، ولم تجد من تلك المخاوف شيئًا، فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلًا، فإن علمه بتلك يكون مجملًا.

.فصل [في قعود هلال بنَ أُمية ومرارة في بيوتهما]:

منها: أن هلال بنَ أُمية ومرارة قعدا في بيوتهما، وكانا يُصلِّيان في بيوتهما، ولا يحضُران الجماعة، وهذا يدل على أن هِجران المسلمين للرجل عذر يُبيح له التخلف عن الجماعة، أو يقال: من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال: فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عتب عليهما على التخلف، وعلى هذا فيُقال: لما أُمِرَ المسلمون بهجرهم تُركوا: لم يُؤمروا، ولم يُنهوا، ولم يُكلَّموا، فكان مَن حضر منهم الجماعة لم يُمنع، ومَن تركها لم يُكلَّم، أو يقال: لعلهما ضَعُفَا وعَجَزا عن الخروج، ولهذا قال كعب: وكنتُ أنا أجلدَ القوم وأشبَّهم، فكنتُ أخرج فأشهدُ الصلاة مع المسلمين.
وقوله: «وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول: هل حرَّك شفتيه برد السلام علىَّ أم لا»؟ فيه دليل على أن الرد على مَن يستحق الهجرَ غيرُ واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بُد من إسماعه.
وقوله: حتى إذا طال ذلك علىَّ، تسورتُ جدار حائط أبى قتادة، فيه دليل على دخول الإنسان دارَ صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك، وإن لم يستأذِنْه.
وفى قول أبى قتادة له: الله ورسوله أعلم، دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يُكلِّمه، فقال مثلَ هذا الكلام جوابًا له لم يحنث، ولاسيما إذا لم ينو به مكالمته، وهو الظاهر من حال أبى قتادة.
وفى إشارة الناس إلى النَّبطى الذي كان يقول: مَن يدل على كعب بن مالك دون نطقهم له تحقيقٌ لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحًا: ذاك كعب بن مالك، لم يكن ذلك كلامًا له، فلا يكونون به مخالفين للنهى، ولكن لِفرط تحرِّيهم وتمسكهم بالأمر، لم يذكروه له بصريح اسمه. وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع نوع مكالمة له، ولاسيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بكلامه، وهى ذريعةٌ قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع، وهذا أفقه وأحسن.
وفى مكاتبة ملك غسَّان له بالمصير إليه ابتلاء من الله تعالى، وامتحان لإيمانه ومحبته للهِ ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانُه بهجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين له، ولا هو ممن تحمِلُه الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه، فهذا فيه من تبرئة الله له مِن النفاق، وإظهار قوة إيمانه، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه، ولطفه به، وجبره لكسره، وهذا البلاءُ يُظهر لُبَّ الرجل وسره، وما ينطوى عليه، فهو كالكِير الذي يُخرج الخبيث من الطيب.
وقوله: فتيممتُ بالصحيفة التنورَ، فيه المبادرة إلى إتلاف ما يُخشى منه الفساد والمضرَّة في الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يُؤخره، وهذا كالعصير إذا تخمَّر، وكالكتاب الذي يُخشى منه الضررُ والشر، فالحزم المبادرة إلى إتلافه وإعدامه.
وكانت غسَّان إذ ذاك وهُم ملوك عرب الشام حربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينعلُون خيولَهم لمحاربته، وكان هذا لما بعث شجاع بن وهب الأسدى إلى ملكهم الحارث بن أبى شمر الغسَّانى يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه إليه، قال شجاع: فانتهيتُ إليه وهو في غَوْطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لِقيصر، وهو جاءٍ من حمصَ إلى إيلياء، فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثة، فقلتُ لِحاجبه: إنى رسول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقال: لا تَصِلُ إليه حتى يخرُجَ يومَ كذا وكذا، وجعل حاجبُه وكان روميًا اسمه مرى يسألُنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ أُحدِّثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فيرقُّ حتى يغلِبَ عليه البكاء، ويقول: إنى قرأتُ الإنجيل، فأجدُ صفة هذا النبي بعَيْنه، فأنا أُؤمن به وأُصدِّقه، فأخافُ من الحارث أن يقتلنى، وكان يُكرمنى ويُحسن ضيافتى، وخرج الحارث يومًا فجلس، فوضع التاجَ على رأسه، فأذِن لى عليه، فدفعتُ إليه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه، ثمَّ رمى به، قال: مَن ينتزِعُ مِنى ملكى، وقال: أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئتُه، علىَّ بالناس، فلم تزل تُعرض حتى قام، وأمر بالخيول تُنعل، ثم قال: أخبر صاحِبَكَ بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: أن لا تَسِرْ، ولا تَعْبُرْ إليه، والهُ عنه، ووافنى بإيلياء، فلما جاءه جوابُ كتابه، دعانى فقال: متى تُريد أن تخرُج إلى صاحبك؟ فقلت: غدًا، فأمر لى بمائةِ مثقالٍ ذهبًا، ووصلنى حاجبُه بنفقة وكُسوةٍ، وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام، فقدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «بَادَ مُلْكُه»، وأقرأته من حاجبه السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «صدق»، ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، ففى هذه المدة أرسل ملكُ غسَّان يدعو كعبًا إلى اللحاق به، فأبت له سابقة الحسنى أن يرغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِينه.