فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر- أي: أميل- فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئًا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديًا، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئًا، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين، ثم ألحقه، فغدوت بعدُ لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم- وليتني فعلت- ثم لم يقدّر ذلك لي.
فكنت إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممن عذره الله عز وجل. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك. فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله بُراده، والنظر في عطفيه! فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت. والله! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلًا من تبوك، حضرني بثّي أتذكر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطته غدًا؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي.
فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا، زاح عن الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس- فلما فعل ذلك، جاءه المتخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: «تعال!» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظَهْرًا؟» فقلت يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن أخرج من سخطه بعذر. لقد أُعطيتُ جدلًا، ولكني، والله لقد علمت، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزَّ وجلَّ. والله ما كان لي عذر، والله! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.
قال: فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك!» فقمت، وقام إليّ رجال من بني سلمة، واتبعوني، فقالوا لي: والله! ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
قال: فوالله! ما زالوا حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، لي فيهما أسوة.
قال: فمضيت حين ذكروهما لي.
فقال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، أيها الثلاثة، من بين من تخلف. فاجتنَبنا الناسُ، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم وأقول في نفسي: أحَرَّكَ شَفَتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ، فإذا التفتُّ نحوه أعرض عني، فسلمت عليه، فوالله! ما ردّ عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت.
قال: فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فقال: الله ورسوله أعلم.
قال ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار. فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، إذا أنا بنبطي من أنباط الشام، ممن قدم بطعامه يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاء فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا، فإذا فيه:
أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
قال- فقلت حين قرأته-: وهذا أيضًا من البلاء.
قال: فتيممت به التنور فسجرته به. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخميس، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك.
قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها.
قال: وأرسل إليَّ صاحبيّ بمثل ذلك.
قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء! قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلالًا شيخ ضعيف، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك! قالت: وإنه والله! ما به من حركة إلى شيء، وإنه والله مازال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه.
قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقوله فيها إذا استأذنته، وأنا رجل شابّ.
قال: فلبثنا عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين انتهى عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الصبح، صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخًا أوفى على جبل سَلْع، يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك! قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزَّ وجلَّ بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجلٌ فرسًا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه.
والله- ما أملك يومئذ غيرهما- واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلق أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئونني بتوبة الله، يقولون: ليهنئك توبة الله عليك! حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، والناس حوله، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني- والله! ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره- قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وهو يبرق وجهه من السرور-: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك!» قال، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله».
قال، وكان رسول الله إذا سر استنار وجهه، حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي، صدقةً إلى الله وإلى رسوله.
قال: «امسك عليك بعض مالك، فهو خير لك».
قال، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت.
قال، فو الله! ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن مما أبلاني الله تعالى. والله! ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي.
قال، وأنزل الله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ} إلى آخر الآيات.
قال كعب: فو الله! ما أنعم عليّ من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُهُ، فأهلك كما هلك الذين كَذَبُوه، فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه، حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحد. فقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
قال: وكنا أيها الثلاثة الذين خلِّفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه أيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.
وفي رواية: ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي، وكلام صاحبيّ، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر، فما من شيء أهم إليّ من أن أموت، فلا يصلّ عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلّى عليّ، ولا يسلّم عليّ.
قال: وأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني، معتنية بأمري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك».
قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره؟ قال: «إذًا فيحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل».
حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا- أخرجه البخاري ومسلم-.
قال ابن كثير: هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، وقد تضمن تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها.
الثاني: قال بعض المفسرين: في الآية دليل على الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة.
الثالث: في الآية دليل على التحريض على الصدق.
قال القاشانيّ: في قوله تعالى: {يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي: في جميع الرذائل بالإجتناب عنها، خاصة رذيلة الكذب، وذلك معنى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فإن الكذب أسوء الرذائل وأقبحها، لكونه ينافي المروءة، وقد قيل: لا مروءة لكذوب، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الْإِنْسَاْن عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق ولم تحصل فائدة النطق، وحصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشيطنة فالكذاب شيطان. وكما أن الكذب أقبح الرذائل، فالصدق أحسن الفضائل، وأصل كل حسنة، ومادة كل خصلة محمودة، وملاك كل خير وسعادة وبه يحصل كل كمال، وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} في عقد العزيمة، ووعد الخليقة. كما قال في إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}.
وإذا روعي في المواطن كلها، حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل، صدقت المنامات والواردات، والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذرة ثمرة الأحوال. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
الظاهر أن هذه الآية خاتمة للآي السابقة وليست فاتحة غرض جديد.
ففي صحيح البخاري من حديث كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك أنه قال: فوالله ما أعلم أحدًا أبْلاه الله في صدق الحديث أحسنَ مما أبْلاني ما تعمدتُ منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا وأنزل الله على رسوله {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} إلى قوله: {وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117 119]. اهـ.
فهذه الآية بمنزلة التذييل للقصة فإن القصة مشتملة على ذكر قوم اتقوا الله فصدقوا في إيمانهم وجهادهم فرضي الله عنهم، وذِكر قوم كذبوا في ذلك واختلقوا المعاذير وحلفوا كذبًا فغضب الله عليهم، وقوم تخلفوا عن الجهاد وصدقوا في الاعتراف بعدم العذر فتاب الله عليهم، فلما كان سبب فوز الفائزين في هذه الأحوال كلها هو الصدق لا جرم أمر الله المؤمنين بتقواه وبأن يكونوا في زمرة الصادقين مثل أولئك الصادقين الذين تضمنتهم القصة.
والأمر بـ {كونوا مع الصادقين} أبلغ في التخلق بالصدق من نحو: اصدقوا.
ونظيره {واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43].
وكذلك جَعله بعد (من) التبعيضية وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 43] ومنه قوله: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67]. اهـ.