فصل: فصل (في تعريف الصدق):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده: أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله: لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب.
وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا ألبتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره وقال بعضهم: الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] قلت: هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا: إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر: أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا.
وقالت طائفة: لما ادعت اليهود: أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه: أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق: دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري والتمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري وعلى هذا فليس المراد: تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه: ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول: هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه وقال إبراهيم الخواص: الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه وقال الجنيد: حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب وقيل: ثلاث لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة.
وفي أثر إلهي: من صدقني في سريرته صدقته في علانيته عند خلقي وقال سهل بن عبد الله: أول خيانة الصديقين: حديثهم مع أنفسهم وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أضرب بسيفي في سبيل الله وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين وفي هذا نظر لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوئ عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام وهذا أمر جبلي طبيعي ولا يخرج صاحبه عن الصدق لاسيما إذا كان قدوة متبعا فإن كراهته لذلك من علامات صدقة لأن فيها مفسدتين: مفسدة ترك الاقتداء به واتباعه على الخير وتنفيذه ومفسدة اقتداء الجهال به فيها فكراهيته لاطلاعهم على مساوئ عمله: لا تنافي صدقه بل قد تكون من علامات صدقه نعم المنافي للصدق: أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم وسكناه في قلوبهم تعظيما له فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ونشرا لدينه وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله: فهذا الصادق حقا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله: ولا يكره اطلاع الناس على السيء من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ودخولا فيما لا يعني فرضي الله عن أبي بكر الصديق حيث قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيء الأعمال عند العوام والجهال.
وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل: وما الفرض الدائم قال: الصدق وقيل: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل وقيل: عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وقيل: ما أملق تاجر صدوق.

.فصل [في تعريف الصدق]:

قال صاحب المنازل: الصدق: اسم لحقيقة الشيء بعينه حصولا ووجودا.
الصدق: هو حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه كما يقال: عزيمة صادقة إذا كانت قوية تامة وكذلك: محبة صادقة وإرادة صادقة وكذا قولهم: حلاوة صادقة إذا كانت قوية تامة ثابتة الحقيقة لم ينقص منها شيء ومن هذا أيضا: صدق الخبر لأنه وجود المخبر بتمام حقيقته في ذهن السامع فالتمام والوجود نوعان: خارجي وذهني فإذا أخبرت المخاطب بخبر صادق حصلت له حقيقة المخبر عنه بكماله وتمامه في ذهنه ومن هذا: وصفهم الرمح بأنه صادق الكعوب إذا كانت كعوبه صلبة قوية ممتلئة قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: صدق القصد وبه يصح الدخول في هذا الشأن ويتلافى به كل تفريط ويتدارك به كل فائت ويعمر كل خراب وعلامة هذا الصادق: أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد ولا يصبر على صحبة ضد ولا يقعد عن الجد بحال يعني بصدق القصد: كمال العزم وقوة الإرادة بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السلوك وميل شديد يقهر السر على صحة التوجه فهو طلب لا يمازجه رياء ولا فتور ولا يكون فيه قسمة بحال ولا يصح الدخول في شأن السفر إلى الله والاستعداد للقائه إلا به.
ويتلافى به كل تفريط فإنه حامل على كل سبب ينال به الوصول وقطع كل سبب يحول بينه وبينه فلا يترك فرصة تفوته وما فاته من الفرص السابقة تداركها بحسب الإمكان فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة ويعمر منه ما خربته يد البطالة ويوقد فيه ما أطفأته أهوية النفس ويلم منه ما شعثته يد التفريط والإضاعة ويسترد منه ما نهبته أكف اللصوص والسراق ويزرع منه ما وجده بورا من أراضيه ويقلع ما وجده شوكا وشبرقا في نواحيه ويستفرغ منه ما ملأته مواد الأخلاط الردئية الفاسدة المترامية به إلى الهلاك والعطب ويداوي منه الجراحات التي أصابته من عبرات الرياء ويغسل منه الأوساخ والحوبات التي تراكمت عليه على تقادم الأوقات حتى لو اطلع عليه لأحزنه سواده ووسخه الذي صار دباغا له فيطهره بالماء البارد من ينابيع الصدق الخالصة من جميع الكدورات قبل أن يكون طهوره بالجحيم والحميم فإنه لا يجاور الرحمن قلب دنس بأوساخ الشهوات والرياء أبدا ولابد من طهور فاللبيب يؤثر أسهل الطهورين وأنفعهما والله المستعان وقوله: وعلامة هذا الصادق: أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد يعني أن الصادق حقيقة: هو الذي قد انجذبت قوى روحه كلها إلى إرادة الله وطلبه والسير إليه والاستعداد للقائه ومن تكون هذه حاله: لا يحتمل سببا يدعوه إلى نقض عهده مع الله بوجه وقوله: ولا يصبر على صحبة ضده الضد عند القوم: هم أهل الغفلة وقطاع طريق القلب إلى الله وأضر شيء على الصادق: صحبتهم بل لا تصبر نفسه على ذلك أبدا إلا جمع ضرورة وتكون صحبتهم له في تلك الحال بقالبه وشبحه دون قلبه وروحه فإن هذا لما استحكمت الغفلة عليه كما استحكم الصدق في الصادق: أحست روحه بالأجنبية التي بينه وبينهم بالمضادة فاشتدت النفرة وقوي الهرب وبحسب هذه الأجنبية.
وإحساس الصادق بها: تكون نفرته وهربه عن الأضداد فإن هذا الضد إن نطق أحس قلب الصادق: أنه نطق بلسان الغفلة والرياء والكبر وطلب الجاه ولو كان ذاكرا أو قارئا أو مصليا أو حاجا أو غير ذلك فنفر قلبه منه وإن صمت أحس قلبه: أنه صمت على غير حضور وجمعية على الله وإقبال بالقلب عليه وعكوف السر عليه فينفر منه أيضا فإن قلب الصادق قوي الإحساس فيجد الغيرية والأجنبية من الضد ويشم القلب القلب كما يشم الرائحة الخبيثة فيزوي وجهه لذلك ويعتريه عبوس فلا يأنس به إلا تكلفا ولا يصاحبه إلا ضرورة فيأخذ من صحبته قدر الحاجة كصحبة من يشتري منه أو يحتاج إليه في مصالحه كالزوجة والخادم ونحوه قوله: ولا يقعد عن الجد بحال يعني أنه لما كان صادقا في طلبه مستجمع القوة: لم يقعد به عزمه عن الجد في جميع أحواله فلا تراه إلا جادا وأمره كله جد.

.فصل [في الدرجة الثانية من الصدق]:

قال: الدرجة الثانية: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص أي لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضى محبوبه ويقوم بعبوديته ويستكثر من الأسباب التي تقر به إليه وتدنيه منه لا لعلة من علل الدنيا ولا لشهوة من شهواتها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر يريد رضي الله عنه: الجهاد والصلاة والعلم النافع وهذه درجات الفضائل وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العليا وقال معاذ رضي الله عنه عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولا لنكح الأزواج ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر وقوله: ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا والموجب له لهذه الرؤية: استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها وقلة زاده في عينه فمن عرف الله وعرف نفسه: لم ير نفسه إلا بعين النقصان وأما قوله: ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص فلأنه لكمال صدقه وقوة إرادته وطلبه للتقدم: يحمل نفسه على العزائم ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص وهذا لابد فيه من التفصيل فإن الصادق يعمل على رضى الحق تعالى ومحابه فإذا كانت الرخص أحب إليه تعالى من العزائم: كان التفاته إلى ترفيهها وهو عين صدقه فإذا أفطر في السفر وقصر وجمع بين الصلاتين عند الحاجة إليه وخفف الصلاة عند الشغل ونحو ذلك من الرخص التي يحب الله تعالى أن يؤخذ بها: فهذا الالتفات إلى ترفيهها لا ينافي الصدق بل هاهنا نكتة وهي أنه فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفها وراحة وأن يكون متابعة وموافقة ومع هذا فالالتفات إليها ترفها وراحة لا ينافي الصدق فإن هذا هو المقصود منها وفيه شهود نعمة الله على العبد وتعبده باسمه البر اللطيف المحسن الرفيق فإنه رفيق يحب الرفق وفي الصحيح: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما لما فيه من روح التعبد باسم الرفيق اللطيف وإجمام القلب به لعبودية أخرى فإن القلب لا يزال يتنقل في منازل العبودية فإذا أخذ بترفيه رخصة محبوبه: استعد بها لعبودية أخرى وقد تقطعه عزيمتها عن عبودية هي أحب إلى الله منها كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه والمفطر الذي يضرب الأخبية ويسقي الركاب ويضم المتاع ولهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر أما الرخص التأويلية المستندة إلى اختلاف المذاهب والآراء التي تصيب وتخطئ: فالأخذ بها عندهم عين البطالة مناف للصدق.

.فصل [في الدرجة الثالثة من الصدق]:

قال: الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق فإن الصدق لا يستقيم في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد وهو أن يتفق رضى الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإيقان العبد وقصده: بكون العبد راضيا مرضيا فأعماله إذن مرضية وأحواله صادقة وقصوده مستقيمة وإن كان العبد كسى ثوبا معارا فأحسن أعماله: ذنب وأصدق أحواله: زور وأصفى قصوده: قعود يعني أن الصدق المتحقق إنما يحصل لمن صدق في معرفة الصدق فكأنه قال: لا يحصل حال الصدق إلا بعد معرفة علم الصدق ثم عرف حقيقة الصدق فقال: لا يستقيم الصدق في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد وهو أن يتفق رضى الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإيقانه وقصده وهذا موجب الصدق وفائدته وثمرته.
فالشيخ ذكر الغاية الدالة على الحقيقة التي يعرف انتفاء الحقيقة بانتفائها وثبوتها بثبوتها فإن العبد إذا صدق الله: رضي الله بعمله وحاله ويقينه وقصده لا أن رضى الله نفس الصدق وإنما يعلم الصدق بموافقة رضاه سبحانه ولكن من أين يعلم العبد رضاه.