فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمن هاهنا كان الصادق مضطرا أشد ضرورة إلى متابعة الأمر والتسليم للرسول في ظاهره وباطنه والاقتداء به والتعبد بطاعته في كل حركة وسكون مع إخلاص القصد لله عز وجل فإن الله تعالى لا يرضيه من عبده إلا ذلك وما عدا هذا فقوت النفس ومجرد حظها واتباع أهوائها وإن كان فيه من المجاهدات والرياضات والخلوات ما كان فإن الله سبحانه وتعالى أبى أن يقبل من عبده عملا أو يرضى به حتى يكون على متابعة رسوله خالصا لوجهه سبحانه.
ومن هاهنا يفارق الصادق أكثر السالكين بل يستوحش في طريقه وذلك لقلة سالكها فإن أكثرهم سائرون على طرق أذواقهم وتجريد أنفاسهم لنفوسهم ومتابعة رسوم شيوخهم والصادق في واد وهؤلاء في واد وقوله: فيكون العبد راضيا مرضيا لأنه قد رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فرضي الله به عبدا وأعماله إذا مرضية لله وأحواله صادقة مع الله وقصوده مستقيمة على متابعة أوامر الله عز وجل وقوله وإن كان العبد كسي ثوبا معارا فأحسن أعماله: ذنب وأصدق أحواله: زور وأصفى قصوده: قعود هذا يراد به أمران أحدهما: أن يكسى حلية الصادقين ويلبس ثيابهم على غير قلوبهم وأرواحهم فثوب الصدق عارية له لا ملك له فهو كالمتشبع بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور فهذا أحسن أعماله: ذنب يعاقب عليه كما يعاقب المقتول في الجهاد والقارئ القرآن المتنسك والمتصدق ويكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة لما لبسوا ثياب الصادقين على قلوب المرائين هذا معنى صحيح ما أظن الشيخ قصده وإنما أظنه قصد معنى آخر وهو أنه متى تيقن العبد: أن وجوده ثوب معار ليس منه ولا له وإنما إيجاده وصفاته وإرادته وقدرته وأعماله: عارية من الفعال وحده والعبد ليس له من ذاته إلا العدم فوجوده وحياته: ثوب أعيره فمتى نظر بعين الحقيقة إلى كسوته: رأى أحسن أعماله ذنويا في هذا المقام وأصدق أحواله زورا وأصفى قصوده قعودا فلا يرى لنفسه منه عملا ولا حالا ولا قصدا فإنه ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم فكل ما من النفس: فهو ذنب وزور وقعود وما كان مرضيا فهو بالله ومن الله ولله لا بالنفس ولا منها ولا لها فإن العبد إذا رأى أنه قد فعل الطاعة: كانت رؤيته لذلك ذنبا فإنه قد نسب الفعل إليه والله في الحقيقة هو المنفرد بالفعل فعلى هذا لا يتخلص العبد من الذنب قط فإنه إذا خلص فعله من الرياء ومن كل شيء يفسده: اقترن به آخر لا يمكنه الخلاص منه وهو اعتقاده: أنه هو الفاعل والصواب: أن هذا ليس بذنب ولا هو مقدور للعبد ولا مأمور به والكمال في حقه: أن يشهد الأمر كما هو عليه وأنه فاعل حقيقة كما أضاف الله إليه الفعل في كتابه كله والله هو الذي جعله فاعلا فإذا شهد نفسه فاعلا حقيقة وشهد فاعليته بالله ومن الله لا من نفسه: فلا ذنب في هذا الشهود ولا زور بحمد الله وهو نظر بمجموع عينيه إلى السبب والمسبب والشرع والقدر والخلق والأمر وأنه متى شهد نفسه عاصيا مخالفا مذنبا: كان عاصيا بهذا الشهود لأن الفاعل فيه غيره وهذا مناف للعبودية أشد منافاة وهو من سير القوم إلى شهود الحقيقة الكونية واعتقادهم: أنه غاية السالكين.
فإن قيل: الشيخ هاهنا ما نطق بلسان الأبرار وإنما نطق بلسان المقربين ولا ريب أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولسنا نريد أن شهود فعله ذنب في الشرع بل يكون حسنة كما ذكرتم لكن هو حسنة للبر ذنب للمقرب فإن نصيب البر من السيئة: ما جاء به العلم ونصيب المقرب: ما جاءت به المعرفة التي هي أخص من العلم قيل: هذا أيضا باطل قطعا فإن المعرفة الصحيحة: مطابقة للحق في نفسه شرعا وقدرا ومخالف ذلك فمعرفة فاسدة والحق في نفس الأمر: نسبة الأفعال إلى الفاعلين قياما ومباشرة وصدورا منهم وذلك محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والقدح في ذلك مستلزم لإبطال الشرع والجزاء فإن الشرع إنما أمر بأفعالنا ونهى عنها والجزاء إنما ترتب عليها فشهود أفعالنا كذلك من تمام الإيمان بالشرع والجزاء ونسبتها إلى الرب تعالى قضاء وقدرا وخلقا للأسباب التي منها إرادتنا وقدرتنا فلم يجبرنا عليها ولم يكرهنا بل خلقها بما أعطانا من القدرة والإرادة اللتين هما من أسباب الفعل فهذا المشهد يحقق عبودية إياك نستعين والمشهد الأول: يحقق عبودية إياك نعبد وهما يحققان مشهدي: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29-30] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 2829] وما جاء به العلم لا يناقض ما جاءت به المعرفة بل المعرفة روح العلم ولبه وكماله وحقيقتها: العلم الذي أثمر لصاحبه مقصوده ولسان الأبرار لا يخالف لسان المقربين إنما يخالف لسان الفجار نعم لسان المقربين أعلى منه وأرفع على مقتضى أعمالهم وأحوالهم فنسبته إليه: كنسبة مقام التوكل إلى الرضى والرضى إلى الحمد والشكر فإن قيل: كلامكم هذا بلسان العلم ولو تكلمتم بلسان الحال لعلمتم صحة ما ذكرناه فإن صاحب الحال صاحب شهود وصاحب العلم صاحب غيبة.
والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ونحن نشير إليكم إشارة حالية علمية تنزلا من الحال إلى العلم فنقول: الحال تأثر عن نور من أنوار الأحدية والفردانية يستر العبد عن نفسه ويبدي ظهور مشهوده ولا ريب أن في هذا الحال قد يعتقد أن الشاهد هو المشهود حتى قال أبو يزيد في مثل هذا الحال: سبحاني سبحاني وما في الجبة إلا الله ولا شك أن هذا الاعتقاد زور وإن كان سببه نور من أنوار الأحدية وصاحبه معذور ما دام مستورا عن نفسه بوارده فإذا رد إلى رسمه وعقله وحسه: حال ذلك الحال وزال وعلم صاحبه أنه كان زورا حيث ظن أن الشاهد هو المشهود فإن أنكرتم ذلك فلا كلام معكم وإن اعترفتم به حصل المقصود فهذا معنى كون أصدق أحوال الصادق: زورا وإذا عرف هذا في الحال: عرف مثله في كون أحسن أعماله: ذنبا فإنه لصدقه في الطلب وبذله الجهد في العمل واستفراغه الوسع فيه يغيب بذلك عن شهود الحقيقة الكونية وأن المحرك له سواه وأنه آلة ومجرى للمشيئة وأن نفسه أعجز وأضعف من أن يكون لها أو بها أو منها: فعل أو إرادة أو حركة فإذا رجع إلى الحقيقة فشهد منة الله عليه وأنه هو المحرك له وأن مشيئته هي التي أوجبت سعيه: رأى أحسن أعماله: ذنبا بهذا الاعتبار.
وأما رؤيته أصفى قصوده: قعودا فلأن القاصد إلى الحقيقة متى شهد مقصوده: قعد عن قصده فإن المقصود المراد: أقرب إلى اللسان من نطقه وإلى القلب من قصده فالقصد إليه: هو عين القعود عن القصد لأن القصد إنما يكون لبعيد عن القاصد أما من هو أقرب إلى القاصد من ذاته: فمتى شاهد القاصد الحقيقة: علم أن قصده عين القعود عن قصده والعبارة تزيد هذا المعنى جفوة والحوالة فيه على الحال والذوق.
فالجواب أن يقال: من أحالك على الحال فما أنصفك فإنه أحالك على أمر مشترك بين الحق والباطل فإن كل من اعتقد شيئا وطلبه طلبا صادقا واستفرغ وسعه في الوصول إليه: كان له لا محالة فيه حال ليست لغيره بحسب صدقه في طلبه وجمع همته وقصده عليه وهذا يكون للأبرار والفجار بل لأولياء الله وأعدائه فيكون الرجل له شهود بمشهوده وحال في طلبه لا يوجب كونه حقاولا باطلا فإن كل من اعتقد عقيدة وارتاض وصقل قلبه بأنواع الرياضة وجزم بما اعتقده: تجلت له صورة معتقده في عالم نفسه فيظن ذلك كشفا صحيحا وإن كان صادقا في طلبه وحبه لما اعتقده: كان له فيه حال وتأثير بحسبه فالحوالة على الحال حوالة مفلس من العلم على غير مليء به ومن هاهنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم حيث أحالوا العلم على الحال وحكموه عليه.
وسير أولياء الله وعباده الأبرار والمقربين: بخلاف هذا وهو إحالة الحال على العلم وتحكيمه عليه وتقديمه ووزنه به وقبول حكمه فإن وافقه العلم وإلا كان حالا فاسدا من حرفا عن أحوال الصادقين بحسب بعده عن العلم فالعلم حاكم والحال محكوم عليه والعلم راع والحال من رعيته فمن لم يكن هذا أصل بناء سلوكه فسلوكه فاسد وغايته: الانسلاخ من العلم والدين كما جرى ذلك لمن جرى له وبالله المستعان ونحن لا ننكر ما ذكرتم من غيبة الشاهد بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته وبمحبوبه عن حبه لكن ننكر كون هذا أكمل حالا من صاحب البقاء والتمييز وشهود الحقائق على ما هي عليه فلا يحتاج أن يشهد حاله زورا لأنه لم يحصل له ما حصل لصاحب السكر والاصطلام من الزور فهو أكمل منه حقيقة وشرعا.
وأما الغائب عن الحقيقة الكونية بشهود فعله: فإنه متى صحبه استصحاب عقد التوحيد وأن مصدر كل شيء مشيئة الله وحده وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يتحرك متحرك في ظاهره أو باطنه إلا به سبحانه: فلا تضره الغيبة عن هذا المشهد باستغراقه في القصد والطلب والفعل إذ حكمه جار عليه في هذه الحال وليس ضيق قلبه عن استحضار ذلك وقت استجماع إرادته وفعله وطلبه: ذنبا لا للخاصة ولا للعامة ولا بالنسبة إلى مقامه أيضا فإن الذنب تعمد مخالفة الأمر وهذا ليس كذلك ولا هو مطالب بالغيبة عن شهود الحقيقة والفناء فيها عن شهود الفعل وقيامه به مع اعتقاد أنه بمشيئة الله وحوله وقوته وأما ما ذكرتم من أن مشاهدة القرب تجعل القصد قعودا: فكلام له خبيء وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله:
ما بال عينك لا يقر قرارها ** وإلام ظلك لا ينى متنقلا

فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليك إذا بلغت المنزلا

وكأن صاحبه يشير إلى أنه وجود قلبه ولسانه ووجوده أقرب إليه من إرادته ولطفه هذا خبيء هذا الكلام وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثاله وإفكهم علوا كبيرا بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وأما ما ذكرتم من القرب: فإن أردتم عموم قربه إلى كل لسان من نطقه وإلى كل قلب من قصده: فهذا لو صح لكان قرب قدرة وعلم وإحاطة لا قربا بالذات والوجود فإنه سبحانه لا يمازج خلقه ولا يخالطهم ولا يتحد بهم مع أن هذا المعنى لم يرد عن الله ورسوله ولا عن أحد من السلف الأخيار تسميته قربا ولم يجئ القرب في القرآن والسنة قط إلا خاصا كما تقدم.
وإن أردتم القرب الخاص إلى اللسان والقلب: فهذا قرب المحبة وقرب الرضى والأنس كقرب العبد من ربه وهو ساجد وهو نوع آخر من القرب لا مثال له ولا نظير فإن الروح والقلب يقربان من الله وهو على عرشه والروح والقلب في البدن وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
وهذا القرب لا ينافي القصد والطلب بل هو مشروط بالقصد فيستحيل وجوده بدونه وكلما كان الطلب والقصد أتم: كان هذا القرب أقوى فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] قيل: هذه الآية فيها قولان للناس أحدهما: أنه قربه بعلمه ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان وحبل الوريد حبل العنق وهو عرق بين الحلقوم والودجين الذي متى قطع مات صاحبه وأجزاء القلب وهذا الحبل يحجب بعضها بعضا وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء والقول الثاني: أنه قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه فيكون أقرب إليه من ذلك العرق اختاره شيخنا.
وسمعته يقول: هذا مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله فنسب تعليمه إليه إذ هو بأمره وكذلك جبريل هو الذي قرأه عليه كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولنا فأنصت لقراءته حتى يقضيها قلت: أول الآية يأبى ذلك فإنه قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] قال: وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة قلت: وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة: فيقول الملك الذي يخلقه: يارب ذكر أم أنثى أسوى أم غير سوى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك فهو سبحانه الخالق وحده ولا ينافي ذلك استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق فإن أفعالهم وتخليقهم خلق له سبحانه فما ثم خالق على الحقيقة غيره والمقصود: أن هذا موضع ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام واشتبهت فيه معية العلم والقدرة والإحاطة بالقرب واشتبهت فيه آثار قرب المحبة والرضى والموافقة وغلبة ذكره ومراقبته بقرب ذاته واشتبه فيه ما في الذهن بما في الخارج واشتبه اضمحلال شهود الرسم وانمحاؤه من القلب بعدمه وفنائه واشتبهت فيه آثار الصفات بحقيقتها وأنوار المعرفة بأنوار الذات وأصحابه لتحكيمهم الحال والذوق لا يلتفتون إلى لسان العلم ولا يصغون إليه وفي هذا كفاية والله المستعان. اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {إن الله اشترى} في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر، وإنه كما {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة.
{التائبون} عما سوى الله: {العابدون} المتوجهون إليه على قدم العبودية {الحامدون} له على ما وفقهم لنعمة طلبه {السائحون} السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي {الراكعون} أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم {الساجدون} الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم {الآمرون بالمعروف} الحقيقي {الناهون} عما سواه {والحافظون لحدود الله} لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره.
{ما كان للنبي} فيه أن الاجتهاد ليس سببًا لنيل المراد، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية {إن إبراهيم لأواه} الأواه هو المتبرئ من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق.
{حليم} عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لجبرائيل حين سأله ألك حاجة: أما إليك فلا {وما كان الله ليضل قومًا} ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد {بعد إذ هداهم} إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد {حتى يبين لهم ما يتقون} من آفات البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول: إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال.
{إن الله له ملك السموات} سموات القلوب {والأرض} أرض النفوس {يحيي} بنور ربوبيته {من يشاء ويميت} عن صفات بشريته {من يشاء ومالكم من دون الله من ولي} فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعًا {لقد تاب الله على النبي} التوبة فضل من الله ورحمة، فقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقًا لقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] {الذين اتبعوه في ساعة} عسرة الدنيا وترك شهواتها. أو نقول: {لقد تاب الله} أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة- عالم الروح- إلى مدينة الجسد {والأنصار} من القلب والنفس وصفاتهما {الذين اتبعوه في ساعة} رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل.
{وعلى الثلاثة الذين خلفوا} من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء {حتى إذا ضاقت عليهم} أرض البشرية شوقًا إلى تلك الحضرة {وضاقت عليهم أنفسهم} تحننًا إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه {ثم تاب عليهم} بجذبة العناية، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبدًا مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم. اهـ.