فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}
والحديث هنا فيه رجوع إلى الذين تخلفوا عن الغزوة، وعرفنا من قبل أنك ساعة تقول: ما كان لك أن تفعل كذا. أي: أنك تنفي القدرة على الفعل، أما إن قلت: ما ينبغي أي: عندك قدرة على الفعل، ولا يجب أن تفعله.
وهنا يقول الحق: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} وبعضهم قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} وهنا حديث عن نوعين من الأنفس: أنفس من قالوا بالتخلف، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت إذا قلت: رغبت، معناها: أنك ملتَ ميلًا قلبيًا، فإن قلت: رغبت في كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل، أما إن قلت: رغبت عن وفيها التجاوز، هذا يعني أن الميل القلبي يهدف إلى الابتعاد عن الفعل. إذن: فحرف الجر هو الذي يحدِّد لون الميل القلبي.
وقول الحق: {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي: أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضَّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله، فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم أن يفعلوا ذلك؛ لأنكم ما دمتم آمنتم بالله، فإيمانكم لا يكمل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليكم من نفوسكم.
ولذلك نجد سيدنا عمر رضي الله عنه لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»، فقال: يا رسول الله، أنا أحبك عن أهلي وعن مالي إنما عن نفسي، فلا.
وهكذا كان صدق عمر رضي الله عنه، فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فعلم عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حازم في هذه القضية الإيمانية، وعلم أن الحب المطلوب ليس حب العاطفة، إنما هو حب العقل، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل؛ فحب العاطفة لا تكليف فيه، لكن حب العقل يأتي بالتكليف.
وعلى سبيل المثال: فأنت تحب ابنك بعاطفتك، حتى وإن لم يكن ذكيًّا، لكنك تحب بعقلك ابن عدوك إن كان ذكيًّا وأمينًا وناجحًا. وضربنا المثل من قبل وقلنا: إن الإنسان قد يحب الدواء المرّ؛ لأن فيه الشفاء، والإنسان لا يحب هذا الدواء بعواطفه، ولا يتلذذ به وهو يشربه، بل يحبه بعقله؛ لأن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية، وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكو، ويسرّ بمن يأتي له به من البلاد الأخرى.
إذن: فالذين تخلفوا عن رسول الله من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا؛ لأن هذا يناقض إيمانهم في أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم، وكان من الواجب أن يرغبوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنفسهم، أما أن يكون الأمر بالعكس، فلا. لأن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يأتي لهم بالخير.
أما اتباع حبهم لأنفسهم فهو حب ضيق البصيرة، سيأتي لهم بالشرور، وإن جاء لهم بخير فخيره موقوت، وبحسب إمكاناتهم، ولكن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنفسهم يأتي لهم بالخير الثابت الدائم الذي يتناسب مع قدرة الله سبحانه.
ثم يقول سبحانه: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} و{ذلك} إشارة إلى حيثيات الترغيب التي يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ}، ونعلم أن الظمأ قد أصابهم في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير، ويصفي الماء الذي في معدته لِيبُلَّ ريقه، وريق زملائه.
{وَلاَ نَصَبٌ} والنَّصَب: هو التعب، وكانت الغزوة في جو حار مرهق.
{وَلاَ مَخْمَصَةٌ} أي: المجاعة، وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود، والشعير الذي انتشر فيه السوس. وإن كاناو قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل الله القادر على أن يمُنَّ عليهم بكل خير جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته.
{وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار} نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الأرض يتمركزون فيها، فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان، وينزلون إلى الوديان والبساتين التي يملكها الكفار، فهذا أمر يغيظ أهل الكفر، إذن: فهم حين يطأون موطئًا، فهذا يغيظ الكفار.
{وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا} أي: يأخذون من عدوٍّ منالًا، والمعنى: أن يقهروا العدو فيتراجع ويشعر بالخسران، حينئذ يأخذون الجزاء الخيِّر من الله، وكل ما حدث أن الظمأ والنصب والمخمصة ووطء موطء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلًا. كل واحدة من هذه الأحداث لها جزاء يحدده الحق: {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}.
إذن: فالذين رغبوا عن رسول الله بأنفسهم ولم بخرجوا للغزوة قد خسروا كثيرًا؛ خسروا ما كتبه الحق سبحانه قابله مَنْ خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويُنهي الحق سبحانه الآية: {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} فهؤلاء الذين أحسنوا لا يضيع الله أجرهم أبدًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}
أخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما نزلت هذه الآية: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لولا ضعفاء الناس ما كانت سرية إلا كنت فيها».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} قال: هذا حين كان الإِسلام قليلًا، فلما كثر الإِسلام وفشا قال الله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122]. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {لا يصيبهم ظمأ} قال: العطش {ولا نصب} قال: العناء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة ومكحول: أنهما كانا يكرهان التلثم من الغبار في سبيل الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن محمد الغزاري وعيسى بن يونس السبيعي أنهم قالوا في قوله تعالى: {ولا ينالون من عدوّ نيلًا إلا كتب لهم به عمل صالح} قالوا: هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: {ما كان لأهل المدينة} الآية قال: نسختها الآية التي تليها {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية.
وأخرج الحاكم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وخلف جعفرًا في أهله فقال جعفر: والله ما أتخلف عنك فخلفني. فقلت: يا رسول الله أتخلفني أي شيء تقول قريش؟ أليس يقولون: ما أسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه، وأخرى ابتغى الفضل من الله لأني سمعت الله تعالى يقول: {ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار...} الآية.
قال: أما قولك أن تقول قريش: ما أسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه، فقد قالوا: إني ساحر وكاهن وإني كذاب فلك بي أسوة، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، وأما قولك تبتغي الفضل من الله، فقد جاءنا فلفل من اليمن فبعه وأنفق عليك وعلى فاطمة حتى يأتيكما الله منه برزق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}
والظَّمأُ: العطش، يُقال: ظَمِأ يَظْمَأُ ظَمَأً، فهو ظمآنُ وهي ظمأى، وفيه لغتان: القصر والمدُّ، وبالمدّ قرأ عمرو بن عبيد، نحو: سَفِه سَفاهًا، والظِّمْءُ ما بين الشَّرْبَتَيْن.
و{مَوْطِئًا} مَفْعِل مِنْ وَطِئ، ويحتمل أن يكون مصدرًا بمعنى الوَطْء، وأن يكون مكانًا، والأول أظهر، لأن فاعل {يغيظ} يعود عليه من غير تأويل بخلاف كونه مكانًا فإنه يعود على المصدر وهو الوَطْءُ الدال عليه المَوْطِئ.
وقرأ زيد بن علي: {يُغيظ} بضم الياء وهما لغتان: غاظَه وأغاظه.
والنَّيْلُ مصدرٌ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعًا موقعَ المفعول به، وليست ياؤه مبدلةً من واو كما زعم بعضهم، بل ناله ينولُه مادةٌ أخرى ومعنى آخر وهو المناولة، يقال: نِلْتُه أَنُوْله، أي: تناولته ونِلْتُه أنيله، أي: أَدْرَكْته. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ}
لا يجوز لهم أن يؤثِروا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئًا من نَفْسٍ وروح، ومالٍ ووَلَدٍ وأهلٍ، وليسوا يخسرون على الله وأنَّى ذلك..؟ وإنهم لا يرفعون لأجْلِه خطوةً إلاَّ قابَلَهم بأَلفِ خطوة، ولا ينقلون إليه قَدَمًا إلا لقَّاهم لطفًا وكرمًا، ولا يُقاسُون فيه عَطَشًا إلا سقاهم من شراب محابِّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقةً إلا لقَّاهم لطفًا وإيناسًا، ولا ينالون من الأعداء أَذَىً إلا شَكَرَ اللهُ سَعْيَهم بما يوجب لهم سعادة الدارين!. اهـ.

.تفسير الآية رقم (121):

قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال، ووطئ مطلق الأرض الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه، قدم ذلك على قوله: {ولا ينفقون} ولما كان القليل قد يحتقر، ابتدأ به ترغيبًا في قوله: {نفقة صغيرة} ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيدًا، قال: {ولا كبيرة} إعلامًا بأنه معتد به لئلا يترك، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات {ولا يقطعون واديًا} أي من الأدوية بالسير في الجهاد، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل، وهو في الأصل فاعل من ودى- إذا سال {إلا كتب لهم} أي ذلك الإنفاق والقطع، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقًا {ليجزيهم الله} أي ذو الجلال والإكرام، أي بذلك من فضله {أحسن ما كانوا} أي جبلة وطبعًا {يعملون} مضاعفًا على قدر الثبات، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح- نبه على ذلك الإمام أبو حيان.
ومن هنا بل من عند {إن الله اشترى} شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا- إلى أن قال: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله}- إلى أن قال: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} ثم قال: {انفروا خفافًا وثقالًا} ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين. اهـ.