فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الجملة معطوفة على مجموع الكلام الذي قبلها فهي جملة ابتدائية مستأنفة لغرض جديد ناشيء عن قوله: {مالكم إذا قيل لكم انفروا} [التوبة: 38] ثم عن قوله: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا} [التوبة: 120] الخ.
ومعنى {أن يتخلفوا} هو أن لا ينفروا، فناسب أن يذكر بعده {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}.
والمراد بالنفير في قوله: {لينفروا} وقوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} الخروج إلى الغزو المأخوذ من قوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38] أي وما كان المؤمنون لينفروا ذلك النفرَ كلُّهم.
فضمير {ليتفقهوا في الدين} يجوز أن يعود على قوله: {المؤمنون}، أي ليتفقه المؤمنون.
والمراد ليتفقه منهم طائفة وهي الطائفة التي لم تنفر، كما اقتضاه قوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة}، فهو عام مراد به الخصوص.
ويجوز أن يعود الضمير إلى مفهوممٍ من الكلام من قوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} لأن مفهومه وبقيتْ طائفةً ليتفقهوا في الدين، فأعيد الضمير على {طائفة} بصيغة الجمع نظرًا إلى معنى طائفة، كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] على تأويل اقتتل جمعهم.
ويجوز أن يكون المراد من النفرْ في قوله: {لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} نفْرًا آخر غير النفر في سبيل الله، وهو النفر للتفقه في الدين، وتكون إعادةُ فعل (ينفروا) و(نَفَر) من الاستخدام بقرينة قوله: {ليتفقهوا في الدين} فيكون الضمير في قوله: {ليتفقهوا} عائدًا إلى {طائفة} ويكون قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} تمهيدًا لقوله: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة}.
وقد نقل عن أئمة المفسرين وأسباب النزول أقوال تجري على الاحتمالين.
والاعتماد في مراجع الضمائر على قرائن الكلام على عادة العرب في الإيجاز والاعتماد على فطنة السامع فإنهم أمة فطنة.
والإتيان بصيغة لام الجحود تأكيد للنفي، وهو خبر مستعمل في النهي فتأكيده يفيد تأكيد النهي، أي كونه نهيًا جازمًا يقتضي التحريم.
وذلك أنه كما كان النفْر للغزو واجبًا لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة كذلك كان تركه من طائفة من المسلمين واجبًا لأن في تمحض جميع المسلمين للغزو إضاعة مصلحة للأمة أيضًا، فأفاد مجموع الكلامين أن النفْر للغزو واجب على الكفاية أي على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي منه، وأن تركه متعين على طائفة كافية منهم لتحصيل المقصد الشرعي مما أمروا بالاشتغال به من العلم في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالغزو.
وهذا تقييد للإطلاق الذي في فعل {انفروا}، أو تخصيص للعموم الذي في ضمير {انفروا}.
ولذلك كانت هذه الآية أصلًا في وجوب طلب العلم على طائفة عظيمة من المسلمين وجوبًا على الكفاية، أي على المقدار الكافي لتحصيل المقصد من ذلك الإيجاب.
وأشعر نفي وجوب النفْر على جميع المسلمين وإثباتُ إيجابه على طائفة من كل فرقة منهم بأن الذين يجب عليهم النفر ليسوا بأوفر عددًا من الذين يبقون للتفقه والإنذار، وأن ليست إحدى الحالتين بأوْلى من الأخرى على الإطلاق فيعلم أن ذلك منوط بمقدار الحاجة الداعية للنفر، وأن البقية باقية على الأصل، فعلم منه أن النفير إلى الجهاد يكون بمقدار ما يقتضيه حال العدو المغزُو، وأن الذين يبقون للتفقه يبقون بأكثر ما يستطاع، وأن ذلك سواء.
ولا ينبغي الاعتماد على ما يخالف هذا التفسير من الأقوال في معنى الآية وموقعها من الآي السالفة.
ولولا: حرف تحْضيض.
والفرقة: الجماعة من الناس الذين تفرقوا عن غيرهم في المواطن؛ فالقبيلة فرقة، وأهل البلاد الواحدة فرقة.
والطائفة: الجماعة، ولا تتقيد بعدد.
وتقدم عند قوله: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102).
وتنكير {طائفة} مؤذن بأن النفر للتفقه في الدين وما يترتب عليه من الإنذار واجب على الكفاية.
وتعيين مقدار الطائفة وضبط حد التفقه موكول إلى ولاة أمور الفرق فتتعين الطائفة بتعيينهم فهم أدرى بمقدار ما تتطلبه المصلحة المنوط بها وجوب الكفاية.
والتفقه: تكلف الفقاهة، وهي مشتقة من فقه (بكسر القاف) إذا فهم ما يدق فهمه فهو فاقِهٌ.
فالفقه أخص من العلم، ولذلك نجد في القرآن استعمال الفقه فيما يخفى علمه كقوله: {لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]، ويجيء منه فقه بضم القاف إذا صار الفقه سجيته، فقاهة فهو فقيه.
ولما كان مصير الفقه سجية لا يحصل إلا بمزاولة ما يبلغ إلى ذلك كانت صيغة التفعل المؤذنة بالتكلف متعينة لأن يكون المراد بها تكلف حصول الفقه، أي الفهم في الدين.
وفي هذا إيماء إلى أن فهم الدين أمرٌ دقيق المسلك لا يحصل بسهولة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح «مَن يرد الله به خيرًا يفَقِّهْه في الدِين»، ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم.
وقد ضبط العلماء حقيقة الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية بالاجتهاد.
والإنذار: الإخبار بما يتوقع منه شر.
والمراد هنا الإنذار من المهلكات في الآخرة.
ومنه النذير.
وتقدم في قوله تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا} في سورة البقرة (119)، فالإنذار هو الموعظة، وإنما اقتصر عليه لأنه أهم، لأن التخلية مقدمة على التحْلية، ولأنه ما من إرشاد إلى الخير إلا وهو يشتمل على إنذار من ضده.
ويدخل في معنى الإنذار تعليم الناس ما يميزون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخلطأ وذلك بأداء العالم بث علوم الدين للمتعلمين.
وحذف مفعول {يحذرون} للتعميم، أي يحذرون ما يُحذر، وهو فعل المحرمات وترك الواجبات.
واقتصر على الحذر دون العمل للإنذار لأن مقتضى الإنذار التحذير، وقد علمت أنه يفيد الأمرين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
هذه الآية جاءت عقب آيات المتخلفين عن الغزو مع رسول الله، وجاءت بعد أن بيّن الله سبحانه مزايا المجاهدين وما يثيبهم الله به جزاء هذا الجهاد في قوله سبحانه: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120-121].
كانت تلك الحيثيات التي ترغِّب الناس في الجهاد ترغيبًا يخرجهم عما ألفوا من العيش في أوطانهم وبين أهليهم وأموالهم؛ لأن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك ثمن كبير، ثم جاءت هذه الآية.
وحينما استقبل العلماء هذه الآية قالوا: إنها تتمة لآيات الجهاد، وما دام الله قد رغَّب في الجهاد هذا الترغيب، فإن الناس أقسموا بعده ألا يتركوا غزوة من الغزوات ولا سرية من السرايا إلا ذهبوا إليها، فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلو على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسقبل وحي الله.
واستقبال وحي الله يقتضي وجود سامعين ليبلغوه، فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد الله أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد، فبيّن أن الإسلام مُنزَّل من الله على رسوله ليبلغه للناس؛ لأن دين الله يحتاج إلى أمرين: أمر يحمله إلى الناس، وأمر يثبت صدقه في الناس، وحين يرى الناس إنسانًا يضحى بنفسه ويدخل معركة، وآخر يضحي بماله، حينئذ يعلم الناس أن من يفعل ذلك لابد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص.
لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هم دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوحي به الله.
إذن: فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا، ومن السامعين لرسول الله ثانيًا؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يُعْلِمون؟
إذن: فلابد أن يحافظ الملسمون على أمرين: أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام بما استقبلوه إلى البلاد. فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمرًا واحدًا، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول الله.
فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض، فقال: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}.
وساعة تسمع {كَانَ} منفيةً فاعلم أنها جحود لهذه المسألة، أي: ما كان يصح أن ينفر المسلمون كافة، أي: جميعًا، بدون أن يبقى منهم أحد.
و{كَآفَّةً} مأخوذة من كف الشيء، وأنت تسمع خائط الثياب يقول: أريد أن أكفّف الثوب معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش، فهناك بعض من الخيوط تخرج منه؛ فيكففها حتى لا يتفكك نسيج الثوب، إذن: فمعنى كلمة {كَآفَّةً}: جميعًا.
ولنا أن نتساءل: لماذا لا ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعًا، أليس الجهاد إعلامًا بمنهج الله؟
نقول: نعم هو إعلام وسياحة بمنهج الله في الأرض، ولكن الذي يسيح للإعلام بمنهج الله لابد أن تكون عنده حصيلة يُعْلم بها، وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من منهج السماء حين ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن: فلابد من أناس يسمعون وحتى السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لأهل الأرض جميعًا، ولو انصرف كل هؤلاء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للإسلام؛ لذلك قال الحق: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} وفي هذا نفي أمر فيه انبغاء أي: لهم قدرة عليه، ويستطيعون تنفيذ ما يطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلاغة، أمة بيان وأداء قويّ يسحر، وكان في هذه الأمة كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتهر بهذا، وحاول بعضهم أن يقلل من فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنها فصاحة دون من خطب، ودون من قال، ودون من شعر، فجاء الرد عليهم من الحق: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ...} [يس: 69].
أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستطيع أن يتفوق في ذلك، لكن الحق سبحانه لم يُعلِّمه الشعر؛ لأنه لا ينبغي له أن يتعلَّمه، لماذا؟ لأن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه، وما دام أعذبه أكذبه، فالحق سبحانه لا يريد أن يعلم الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم مُرْتاض على صناعة البيان أساليب الأدب، وبعد ذلك يُفاجئ الدنيا بالبيان الأعلى في القرآن، ويعلن صلى الله عليه وسلم أن هذا البيان ليس من عنده.
وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم مدة طويلة، ولم يسمعوا منه شعرًا، فكل ما جاء به بلاغًا عن الله لا يُنسب لمحمد، ولكنه منسوب إلى رب محمد.
وقول الحق: {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69].
أي: لا يصح أن يكون الأمر، رغم استعداد محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، وكان من الممكن أن يعلِّمه ربه الشعر وفنون القول؛ ولذلك حينما قال أناس: إن القرآن من عند محمد، جاء القول الحق مبلِّغًا محمدًا: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].