فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذهب الجمهور إلى أن بسم أصل مقصود، واختلفوا في معنى دخول الباء عليه، فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر على قولين:
أحدهما: دخلت على معنى الأمر وتقديره: ابدؤوا {بسم الله الرحمن الرحيم} وهذا قول الفراء.
والثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت {بسم الله الرحمن الرحيم} وهذا قولُ الزجَّاج.
وحُذِفت ألف الوصل، بالإلصاق في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن، ولم تحذف من الخط في قوله: {إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ} [العلق: آية1] لقلَّة استعماله.
الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ، والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة، فإن جعلت الصفة اسمًا، دلَّت على الأمرين: على الإشارة والإفادة.
وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى، واللفظ هو التسمية دون الاسم، وهذا فاسد، لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ، لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات.
واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين:
أحدهما: أنه مشتق من السمة، وهي العلامة، لما في الاسم من تمييز المسمى، وهذا قول الفرَّاء.
والثاني: أنه مشتق من السمو، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه من غيره، وهذا قول الخليل والزجَّاج.
وأنشد قول عمرو بن معدي كرب:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْرًا فَدَعْهُ ** وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ ** سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ

وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم الله تأويلًا، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية، حتى صار مقصودًا عند ذكر الله في كل تسمية، ولهم فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته، وبره وبصيرته، والسين سناؤه وسموُّه وسيادته، والميم مجده ومملكته ومَنُّه، وهذا قول الكلبي.
والثاني: أن الباء بريء من الأولاد، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات، وهذا قول سليمان بن يسار.
والثالث: أن الباء بارئ الخلق، والسين ساتر العيوب، والميم المنان، وهذا قول أبي روق.
ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره، لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه، لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكيًا، لا محققًا ليكون الكتاب جامعًا لما قيل.
ويقال لمن قال: {بسم الله} بَسْمَلَ على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة:
لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا ** فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ

فأما قوله: الله، فهو أخص أسمائه به، لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو الله غيره.
والتأويل الثاني: أن معناه هل تعلم له شبيهًا، وهذا أعمُّ التأويلين، لأنه يتناول الاسم والفعل.
وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى، لأن غيره لا يشاركه فيه. واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم عَلَمٍ للذات أو اسم مُشْتَقّ من صفةٍ، على قولين:
أحدهما: أنه اسم علم لذاته، غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يكن بُدّ من أن يختص باسم ذاتٍ، يكون علمًا لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعًا.
والقول الثاني: أنه مشتق من أَلَهَ، صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ، وتفخيم لفظه الله.
واختلفوا فيما اشْتُقَ منه إله على قولين:
أحدهما: أنه مشتق من الَولَه، لأن العباد يألهون إليه، أي يفزعون إليه في أمورهم، فقيل للمألوه إليه إله، كما قيل للمؤتمِّ به إمام.
والقول الثاني: أنه مشتق من الألوهية، وهي العبادة، من قولهم فلان يتألَّه، أي يتعبد، قال رؤبةُ بن العجاج:
لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ ** لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ

سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِي

أي من تعبد، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ}.
أي وعبادتك.
ثم اختلفوا، هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة، أو من استحقاقها، على قولين:
أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا، منع من أن يكون الله تعالى إلهًا لم يزل، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود.
والقول الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته، لأنه لم يزل مستحقًّا للعبادة، فلم يزل إلهًا، وهذا أصح القولين، لأنه لو كان مشتقًّا من فعل العبادة لا من استحقاقها، للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهًا، لعبادة النصارى له، وتسمية الأصنام آلهة، لعبادة أهلها لها، وفي بطلان هذا دليل، على اشتقاقه من استحقاق العبادة، لا من فعلها، فصار قولنا إله على هذا القول صفة من صفات الذات، وعلى القول الأول من صفات الفعل.
وأما الرحمن الرحيم، فهما اسمان من أسماء الله تعالى، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته.
وأما الرحمن ففيه قولان:
أحدهما: أنه اسم عبراني معرب، وليس بعربي، كالفسطاط رومي معرب، والإستبرق فارسي معرب، لأن قريشًا وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم، لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: {وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير:
أو تتركون إلى القسّين هجرتكم ** ومسحكم صلبهم رحمن قربانا

قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم، ليزول الالتباس، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته، لكن قدَّم الرحمن لمبالغته.
والقول الثاني: أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما، وقد ظهر ذلك في كلام العرب، وجاءت به أشعارهم، قال الشنفرى:
أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا ** أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا

فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة، والرحمة هي النعمة على المحتاج، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، يعني نعمةً عليهم، وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة.
والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم لا يتعدى لفظه، وإنما يتعدى معناه، ولذلك سمي قوم بالرحيم، ولم يتَسَمَّ أحد بالرحمن، وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به وعليه بيت الشنفرى، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن، واقتطعه من أسماء الله تعالى، قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم، لأن أحدًا لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره، فيكون الفرق في المبالغة، وفرَّق أبو عبيدة بينهما، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم.
واختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين:
أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم.
والقول الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين، والرحمة التي اشتق منها الرحمن، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم، ليصح امتياز الاسمين، وتغاير الصفتين، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته.
والقول الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة، والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة.
والقول الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها. اهـ.

.قال البيضاوي:

{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم} من الفاتحة، ومن كل سورة، وعليه قرّاء مكة والكوفة وفقهاؤهما وابن المبارك رحمه الله تعالى والشافعي. وخالفهم قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والأوزاعي، ولم ينص أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيه بشيء فظن أنها ليست من السورة عنده. وسئل محمد بن الحسن عنها فقال: ما بين الدفتين كلام الله تعالى. ولنا أحاديث كثيرة: منها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه عليه الصلاة والسلام قال: «فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهن {بسم الله الرحمن الرحيم}» وقول أم سلمة رضي الله عنها قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد {بسم الله الرحمن الرحيم} {الحمد لله رب العالمين} آية ومن أجلهما اختلف في أنها آية برأسها أم بما بعدها، والإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله سبحانه وتعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم تكتب آمين. والباء متعلقة بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ لأن الذي يتلوه مقروء. وكذلك يضمر كل فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، وذلك أولى من أن يضمر أبدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه. أو ابتدائي لزيادة إضمار فيه، وتقديم المعمول هاهنا أوقع كما في قوله: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا}.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
لأنه أهم وأدل على الاختصاص، وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسمه سبحانه وتعالى مقدم على القراءة، كيف لا وقد جعل آلة لها من حيث إن الفعل لا يتم ولا يعتد به شرعًا ما لم يصدر باسمه تعالى لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» وقيل الباء للمصاحبة، والمعنى متبركًا باسم الله تعالى اقرأ، وهذه وما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرك باسمه، ويحمد على نعمه، ويُسأل من فضله، وإنما كسرت ومن حق الحروف المفردة أن تفتح، لاختصاصها باللزوم الحرفية والجر، كما كسرت لام الأمر ولام الإضافة داخلة على المظهر للفصل بينهما وبين لام الابتداء، والاسم عند أصحابنا البصريين من الأسماء التي حذفت أعجازها لكثرة الاستعمال، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأن من دأبهم أن يبتدئوا بالمتحرك ويقفوا على الساكن. ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمى وسميت ومجيء سمي كهدى لغة فيه قال:
والله أسماك سمىً مُباركًا ** آثرك الله بهِ إيَثَاركا

والقلب بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السمو لأنه رفعة للمسمى وشعار له. ومن السمة عند الكوفيين، وأصله وسم حذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليقل إعلاله. ورد بأن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، ومن لغاته سم وسم قال:
بِسْمِ الذي في كُلِّ سُورةٍ سِمُهْ

والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى، لأنه يتألف من أصوات متقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدد تارة ويتحد أخرى. والمسمى لا يكون كذلك، وإن أريد به ذات الشيء فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى وقوله تعالى: {تبارك اسم رَبّكَ} و: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ}.
المراد به اللفظ لأنه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. أو الاسم فيه مقحم كما في قول الشاعر:
إلى الحولِ ثُم اسمُ السلامِ عليكُما

وإن أريد به الصفة، كما هو رأي الشيخ أبي الحسن الأشعري، انقسم انقسام الصفة عنده: إلى ما هو نفس المسمى، وإلى ما هو غيره، وإلى ما ليس هو ولا غيره. وإنما قال بسم الله ولم يقل بالله، لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه. أو للفرق بين اليمين والتيمن. ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط لكثرة الاستعمال وطولت الباء عوضًا عنها. والله أصله إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها الألف واللام ولذلك قيل: يا الله، بالقطع إلا أنه مختص بالمعبود بالحق. والإله في الأصل لكل معبود، ثم غلب على المعبود بالحق. واشتقاقه من أله ألهة وألوهة وألوهية بمعنى عبد، ومنه تأله واستأله، وقيل من أله إذا تحير لأن العقول تتحير في معرفته. أو من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته. أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وآلهة غيره أجاره إذ العائذ يفزع إليه وهو يجيره حقيقة أو بزعمه. أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه، إذ العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد. أو من وله إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل إله كإعاء وإشاح، ويرده الجمع على آلهة دون أولهة. وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع لأنه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع على كل شيء وعما لا يليق به ويشهد له قول الشاعر:
كحِلفةٍ من أبي رباحٍ ** يُشهِدْهَا لاهَهْ الكِبَارُ

وقيل علم لذاته المخصوصة لأنه يوصف ولا يوصف به، ولأنه لابد له من اسم تجري عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه، ولأنه لو كان وصفًا لم يكن قول: لا إله إلا الله، توحيدًا مثل: لا إله إلا الرحمن، فإنه لا يمنع الشركة، والأظهر أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل: الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الأوصاف عليه، وامتناع الوصف به، وعدم تطرق احتمال الشركة إليه، لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الله في السموات}.
معنى صحيحًا، ولأن معنى الاشتقاق هو كون أحد اللفظين مشاركًا للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة، وقيل أصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال اللام عليه، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة، وقيل مطلقًا، وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر:
ألاَ لا باركَ الله في سُهيلٍ ** إذا ما الله باركَ في الرِّجالِ

و {الرحمن الرحيم}.
اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة: رقة القلب، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. و: {الرحمن} أبلغ من: {الرحيم} لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكَبَّار وكِبَار، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة، وإنما قدم والقياس يقتضي الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره لأن من عداه فهو مستعيض بلطفه وإنعامه يريد به جزيل ثواب أو جميل ثناء أو مزيج رقة الجنسية أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك لأن ذات النعم ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتفاع بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد غيره. أو لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأوصلها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له. أو للمحافظة على رؤوس الآي.
والأظهر أنه غير مصروف وإن حظر اختصاصه بالله تعالى أن يكون له مؤنث على فعلى أو فعلانة إلحاقًا له بما هو الغالب في بابه. وإنما خص التسمية بهذه الأسماء ليعلم العارف أن المستحق لأن يستعان به في مجامع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم كلها عاجلها وآجلها، جليلها وحقيرها، فيتوجه بشَرَاشِرِِهِ إلى جناب القدس، ويتمسك بحبل التوفيق، ويشغل سره بذكره والاستعداد به عن غيره. اهـ.