فصل: قال ابن عطية في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيتين:

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
قالت فرقة: سبب هذه الآية أن المؤمنين الذين كانوا بالبادية سكانًا ومبعوثين لتعليم الشرع لما سمعوا قول الله عز وجل: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب} [الكهف: 62] أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكونوا مذنبين في التخلف عن الغزو فنزلت هذه الآية في نفرهم ذلك، وقالت فرقة، سبب هذه الآية أن المنافقين لما نزلت الآيات في المتخلفين قالوا هلك أهل البوادي فنزلت هذه الآية مقيمة لعذر أهل البوادي.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم} [الكهف: 62] عموم في اللفظ والمراد به في المعنى الجمهور والأكثر، وتجيء هذه الآية مبينة لذلك مطردة الألفاظ متصلة المعنى من قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة} إلى قوله: {يحذرون} بين في آخر الآية العموم الذي في أولها إذ هو معرض أن يتأول فيه ألا يتخلف بشر، والتفقه هو من النافرين، والإنذار هو منهم، والضمير في {رجعوا} لهم أيضًا، وقالت فرقة هذه: الآية ليست في معنى الغزو وإنما سببها أن قبائل من العرب لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أصابتهم مجاعة وشدة، فنفروا إلى المدينة لمعنى المعاش فكادوا أن يفسدوها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان وإنما أضرعه الجوع فنزلت الآية في ذلك، فقال وما كان من صفته الإيمان لينفر مثل هذا النفر أي ليس هؤلاء المؤمنين، وقال ابن عباس ما معناه: إن هذه الآية مختصة بالبعوث والسرايا، والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، وهذه ثابتة الحكم مع تخلفه أي يجب إذا تخلف ألا ينفر الناس كافة فيبقى هو منفردًا وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الباقية في الدين، وينذروا النافرين إذا رجع النافرون إليهم، وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الكافة النفير والقتال، والضمير في قوله: {ليتفقهوا} عائد أيضًا على هذا التأويل على الطائفة المتخلفة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو القول الأول في ترتيبنا هذا عائد على الطائفة النافرة، وكذلك يترتب عوده مع بعض الأقوال على هذه ومع بعضها على هذه، والجمهور على أن التفقه إنما بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته، وقالت فرقة يشبه أن يكون التفقه في الغزو في السرايا لما يرون من نصرة الله لدينه وإظهاره العدد القليل من المؤمنين على الكثير من الكافرين وعلمهم بذلك صحة دين الإسلام ومكانته في الله تعالى، ورجحه الطبري وقواه، والآخر أيضًا قوي، والضمير في قوله: {لينذروا} عائد على المتفقهين بحسب الخلاف، والإنذار عام للكفر والمعاصي والحذر منها أيضًا كذلك، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} الآية، قيل هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال الكفار كافة فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضعفه هذه الآية من آخر ما نزل، وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تجاوز قومًا من الكفار غازيًا لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله تعالى بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة، وقالت فرقة: الآية مبينة صورة القتال كافة وهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تبارك وتعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجنس الذي يصاقبه من الكفرة، وهذا هو القتال لكلمة الله ورد الناس إلى الإسلام، وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المسلمين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد، وقال قائلو هذه المقالة: نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب إذ كانت العرب قد عمها الإسلام وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال: عليك بالروم، وقال الحسن: هم الروم والديلم.
قال القاضي أبو محمد: يعني في زمنه ذلك، وقاله علي بن الحسين، وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 29] إلى قوله: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وقرأ جمهور الناس {غِلظة} بكسر الغين، وقرأ المفضل عن عاصم والأعمش {غَلظة} بفتحها، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبان بن ثعلبة وابن أبي عبلة {غُلظة} بضمها، وهي قراءة أبي حيوة ورواها المفضل عن عاصم أيضًا، قال أبو حاتم رويت الوجوه الثلاثة عن أبي عمرو، وفي هاتين القراءتين شذوذ وهي لغات، ومعنى الكلام وليجدوا فيكم خشونة وبأسًا، وذلك مقصود به القتال، ومنه {عذاب غليظ} [إبراهيم: 17، لقمان: 24، فصلت: 50، هود: 58] و{غليظ القلب} [آل عمران: 129] و{غلاظ شداد} [التحريم: 6] في صفة الزبانية، وغلظت علينا كبده في حفر الخندق إلى غير ذلك، ثم وعد تعالى في آخر الآية وحض على التقوى التي هي ملاك الدين والدنيا وبها يلقى العدو، وقد قال بعض الصحابة: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم وأهلها هم المجدون في طرق الحق فوعد تعالى أنه مع أهل التقوى ومن كان الله معه فلن يغلب. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيتين:

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}
اختلف المفسرون في معنى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد؛ لأن سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو، كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الكفار ينفرون جميعًا ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك، أي ما صحّ لهم، ولا استقام أن ينفروا جميعًا، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة، ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة.
قالوا: ويكون الضمير في قوله: {لّيَتَفَقَّهُواْ} عائدًا إلى الفرقة الباقية.
والمعنى: أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم، ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه، ليأخذوا عنه الفقه في الدين، وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقلّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم، والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلًا بما دلّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين: الأوّل: سفر الجهاد، والثاني: السفر لطلب العلم.
ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر.
والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو، وصرف وبيان وأصول.
ومعنى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فهلا نفر، والطائفة في اللغة: الجماعة.
وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه.
فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين، فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض دينيّ، فهو كماقلت:
وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس ** كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس

ومعنى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} الترجي لوقوع الحذر منهم عن التعريض فيما يجب فعله فيترك، أو فيما يجب تركه فيفعل، ثم أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدّة، والجهاد واجب لكل الكفار، وإن كان الابتداء بمن يلى المجاهدين منهم أهمّ وأقدم، ثم الأقرب فالأقرب؛ ثم أخبرهم الله بما يقوّي عزائمهم، ويثبت أقدامهم فقال: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: بالنصرة لهم، وتأييدهم على عدوّهم، ومن كان الله معه لم يقم له شيء.
وقد أخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: نسخ هؤلاء الآيات: {انفروا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] و{إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} [التوبة: 39] قوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} يقول: لتنفر طائفة، وتمكث طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين، وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو، ولعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عنه، نحوه من طريق أخرى بسياق أتمّ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه، أيضًا في هذه الآية قال: ليست هذه الآية في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين، أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يخلوا بالمدينة من الجهد، ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين، فردّهم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وفي الباب روايات عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُم} قال: الأدنى، فالأدنى.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك، مثله.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عمر، أنه سئل عن غزو الديلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} قال: «الروم».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} قال: شدّة. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} قال: الأدنى فالأدنى.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك. مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال: كان الذين يلونه من الكفار العرب، فقاتلهم حتى فرغ منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جعفر بن محمد. أنه سئل عن قتال الديلم فقال: قاتلوهم فإنهم من الذين قال الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن. أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم، تلا هذه الآية: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} قال: شدة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر أنه سئل عن غزو الديلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} قال: الروم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وليجدوا فيكم غلظة} قال: شدة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}
قوله تعالى: {وَلِيَجِدُواْ}: وهو من باب لا أُرَيَنَّك هاهنا وتقدَّم شرحه.
قوله: {غِلْظَةً} قرأها الجمهور بالكسر وهي لغة أشد.
وقرأ الأعمش، وأبان بن تغلب والمفضل كلاهما عن عاصم {غَلْظة} بفتحها، وهي لغة الحجاز.
وقرأ أبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وأبان في رواية عنهما {غُلظة} بالضم وهي لغة تميم. وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث. والغِلظة: أصلها في الأَجْرام فاستعيرت هنا للشدة والصبر والتجلُّد. اهـ.