فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصًا وهو قوله: {بالمؤمنين رءُوف رحيم}.
ألا ترى إلى قوله: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال: {أعزة على الكافرين} وقال في زناة المؤمنين: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} قال ابن عطية: وقوله من أنفسكم، يقتضي مدحًا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وأشرفها، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام:
«إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفانى من بني هاشم» ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إني من نكاح ولست من سفاح» معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى.
وصف الله نبيه عليه السلام بستة: أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية، وكونه من الخيار بحيث أهل أنْ يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرف الأشياء بدئ بذكرها.
وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في البليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان خطابًا للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة.
وكونه يعز عليه ما يشق عليكم، فهذا الوصف من نتائج الرسالة.
ومن كونه من أنفسهم، لأنّ من كان منك وادّلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصًا على هدايتهم، وهو أيضًا من نتائج الرسالة، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية.
وكونه رءُوفًا رحيمًا بالمؤمنين، وهما وصفان من نتائج التبعية له، والدخول في دين الله.
{إنما المؤمنون إخوة} «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا حتى تحب لأخيك المؤمن ما تحب لنفسك».
وقرأ ابن عباس وأبو العالية والضحاك وابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي ويعقوب من بعض طرقه: من أنفسكم بفتح الفاء.
ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما، والمعنى: من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء.
والظاهر أنّ ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي: يعز عليه مشقتكم كما قال:
يسر المرء ما ذهب الليالي ** وكان ذهابهن له ذهابا

أي يسر المرء ذهاب الليالي.
ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي: عنتكم عزيز عليه، وقدم خبره، والأول أعرب.
وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ، وما عنتم الخبر، وأن تكون ما بمعنى الذي، وأن تكون مصدرية، وهو إعراب دون الإعرابين السابقين.
وقال ابن القشيري: عزيز صفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته، ثم استأنف فقال: عليه ما عنتم أي: يهمه أمركم انتهى.
والعنت: تقدم شرحه في البقرة في قوله: {لأعنتكم} وقال ابن عباس: هنا مشقتكم.
وقال الضحاك: إثمكم.
وقال سعيد بن أبي عروبة: ضلالكم.
وقال العتبي: ما ضركم.
وقال ابن الأنباري: ما أهلككم.
وقيل: ما غمكم.
والأولى أن يضمر في عليكم أي: على هداكم وإيمانكم كقوله: {إن تحرص على هداهم} وقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقيل: حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة.
وقال الفراء: الحريص هو الشحيح، والمعنى: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار.
وقيل: حريص على دخولكم الجنة.
وإنما احتيج إلى الإضمار، لأنّ الحرص لا يتعلق بالذوات.
ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برءُوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فيكون من باب التنازع.
وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول: زيدًا ضربت وشتمت على التنازع، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين.
وقال قوم: بالتوزيع، رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين.
وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره.
وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم.
وقال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقال تعالى: {إن الله بالناس لرءُوف رحيم}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَقَدْ جَاءكُمْ} الخطابُ للعرب {رَّسُولٌ} أي رسول عظيمُ الشأن {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم عربيٌّ قرشيٌّ مثلُكم وقرئ بفتح الفاء أي أشرفِكم وأفضِلكم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي شاقٌّ شديدٌ عليه عَنَتُكم ولقاؤكم المكروهَ فهو يخاف عليكم سوءَ العاقبةِ والوقوعَ في العذاب، وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في إيمانكم وصلاحِ حالِكم {بالمؤمنين} منكم ومن غيركم {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} قدِّم الأبلغُ منهما وهي الرأفةُ التي هي عبارةٌ عن شدة الرحمةِ محافظةً على الفواصل. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَقَدْ جَاءكُمْ} الخطاب للعرب {رَّسُولٍ} أي رسول عظيم القدر {مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم، أخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعتها ويمانيها، وقيل: الخطاب للبشر على الإطلاق ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام من أنفسهم أنه من جنس البشر، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن محيصن والزهري {أَنفُسَكُمْ} أفعل تفضيل من النفاسة، والمراد الشرف فهو صلى الله عليه وسلم من أشرف العرب، أخرج الترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغه بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: «من أنا»؟ قالوا: أنت رسول الله قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، وجعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتًا فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسًا».
وأخرج البخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه».
وأخرج مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
وروى البيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بني أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسًا وخيركم أبًا».
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ} أي شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب وشق {مَا عَنِتُّمْ} أي عنتكم، وهو بالتحريك ما يكره، أي شديد عليه ما يلحقكم من المكروه كسوء العاقبة والوقوع في العذاب، ورفع {عَزِيزٌ} على أنه صفة سببية لرسول وبه يتعلق {عَلَيْهِ}، وفاعله المصدر وهو الذي يقتضيه ظاهر النظم الجليل، وقيل: إن {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} خبر مقدم و{مَا عَنِتُّمْ} ابتداء كلام أي يهمه ويشق عليكم عنتكم {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي على إيمانكم وصلاح شأنكم لأن الحرص لا يتعلق بذواتهم {بالمؤمنين} منكم ومن غيركم {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} قيل: قدم الأبلغ منهما وهو الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة رعاية للفواصل وهو أمر مرعي في القرآن، وهو مبني على ما فسر به الرأفة، وصحح أن الرأفة الشفقة، والرحمة الإحسان، وقد يقال: تقديم الرأفة باعتبار أن آثارها دفع المضار وتأخير الرحمة باعتبار أن آثارها جلب المنافع والأول أهم من الثاني ولهذا قدمت في قوله سبحانه: {رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: 27] ولا يجري هنا أمر الرعاية كما لا يخفى، وكأن الرأفة على هذا مأخوذة من رفو الثوب لإصلاح شقه، فيكون في وصفه صلى الله عليه وسلم بما ذكر وصف له بدفع الضرر عنهم وجلب المصلحة لهم، ولم يجمع هذان الإسمان لغيره عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد رؤوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه رحيم بأوليائه، وقيل: رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره ولا مستند لشيء من ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
كانت هذه السورة سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، وأمْرًا للمؤمنين بالجهاد، وإنحاء على المقصرين في شأنه.
وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسْرة.
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والتنويه بصفاته الجامعة للكمال.
ومن أخصها حرصهُ على هداهم، ورغبته في إيمانهم ودخولِهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفًا رحيمًا بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم.
وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله تعالى مقارنة لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبًا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة، وكذلك عادة القرآن.
فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها.
فالجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا.
وفي وقوعها آخر السورة ما يكسبها معنى التذييل والخلاصة.
فالخطاب بقوله: {جاءكم} وما تبعه من الخطاب موجه إلى جميع الأمة المدعوة للإسلام.
والمقصود بالخطاب بادئ ذي بدء هم المعرضون من المشركين والمنافقين من العرب بقرينة قوله عقب الخطاب {بالمؤمنين رءوف رحيم} وسيجيء أن المقصود العرب.
وافتتاحها بحرفَيْ التأكيد وهما اللام و(قد) مع كون مضمونها مما لا يتطرق إليه الإنكار لقصد الاهتمام بهذه الجملة لأهمية الغرض الذي سيقت لأجله وهو الذي سنذكره، ولأن فيما تضمنته ما ينكره المنافقون وهو كونه رسولًا من الله، ولأن في هذا التأكيد ما يجعل المخاطبين به منزَّلين منزلة المنكرين لمجيئه من حيث إنهم لم ينفعوا أنفسهم بهذا المجيء، ولأن في هذا التأكيد تسجيلًا عليهم مرادًا به الإيماء إلى اقتراب الرحيل، لأنه لما أعيد الإخبار بمجيئه وهو حاصل منذ أعوام طويلة كان ذلك كناية عن اقتراب انتهائه، وهو تسجيل منه على المؤمنين، وإيداع للمنافقين ومن بقي من المشركين.
على أن آيات أخرى خوطب بها أهل الكتاب ونحوهم فأكدت بأقل من هذا التأكيد كقوله تعالى: {يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [المائدة: 15] وكقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا} [النساء: 174] فما زيدت الجملة في هذه السورة مؤكدة إلا لغرض أهم من إزالة الإنكار.
والمجيء: مستعمل مجازًا في الخطاب بالدعوة إلى الدين.
شبه توجهه إليهم بالخطاب الذي لم يكونوا يترقبونه بمجيء الوافد إلى الناس من مكان آخر.