فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [41].
{وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} أي: من القرآن: {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} أي: موافقًا بالتوحيد، وصفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، وبعض الشرائع، لما معكم من الكتاب كما في التنوير قال ابن جرير: أمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة؛ لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في الإنجيل والتوراة. ففي تصديقهم بما أنزل على محمد، تصديق منهم لما معهم من التوراة. وفي تكذيبهم به تكذيب منهم لما معهم من التوراة. انتهى.
وتقييد المنزَّل بكونه مصدقًا لما معهم، لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر، فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعًا.

.تنبيه: تحريف التوراة والإنجيل:

كثيرًا ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، كآية: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 89]، وآية: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: 37] وغيرهما. مع أنه ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة، وقد رُد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها على ما ادعوه، بأن معنى كون القرآن مصدقًا لما معهم، ما ذكرناه قبل في تأويلها؛ وحاصله أن ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو طبق ما عندهم من حقية نبوته، وصحة البشائر عنه، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} أي: أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل، وبمعنى أن أحواله جميعًا توافق البشائر.
{وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يعني من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثه. فالأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، أو هو تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحى إليه، والمستفتحين على الذين كفروا به، وكانوا يعدون أتباعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم على العكس، لقوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}.
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} أي: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي، بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية، فالاشتراء استعارة للاستبدال {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} بالإيمان واتباع الحق، والإعراض عن حطام الدنيا. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}.
بعد أن ذَكَّرَ الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بالعهود التي قطعوها على أنفسهم سواء بعدم التبديل والتغيير في التوراة. لإخفاء أشياء وإضافة أشياء. وذكرهم بعهدهم بالنسبة للإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافه في التوراة. حتى أن الحَبْر اليهودي ابن سلام كان يقول لقومه في المدينة: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد. أي أنه كان يُذَكِّرُ قومه. أن أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم الموجودة في التوراة. لا تجعلهم يخطئونه. قال الحق تبارك وتعالى: {وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ}. لأن القرآن مصدق للتوراة. والقصد هنا التوراة الحقيقية قبل أن يحرفوها. فالقرآن ليس موافقا لما معهم من المحرف أو المبدل من التوراة. بل هو موافق للتوراة التي لا زيف فيها.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}. ولقد قلنا أن اليهود لم يكونوا أول كافر بمحمد صلى الله عليه وسلم. وإنما كانت قريش قد كفرت به في مكة. المقصود في هذه الآية الكريمة أول كافر به من أهل الكتاب. لماذا؟ لأن قريشا لا صلة لها بمنهج السماء. ولا هي تعرف شيئا عن الكتب السابقة. ولكن أحبار اليهود كانوا يعرفون صدق الرسالة. وكانوا يستفتحون برسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل المدينة ويقولون: جاء زمن رسول سنؤمن به ونقتلكم قتل عاد وإرم. ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلا من أن يسارعوا بالإيمان به. كانوا أول كافر به.
والله سبحانه وتعالى لم يفاجئ أهل الكتاب بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم. وإنما نبههم إلى ذلك في التوراة والإنجيل. ولذلك كان يجب أن يكونوا أول المؤمنين وليس أول الكافرين. لأن الذي جاء يعرفونه.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} الحق سبحانه وتعالى حينما يتحدث عن الصفقة الإيمانية. يستخدم كلمة الشراء وكلمة البيع وكلمة التجارة. اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} [التوبة: 111].
وفي آية أخرى يقول: {هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 10- 11].
إن الحق سبحانه وتعالى.. استعمل كلمة الصفقة والشراء والبيع بعد ذلك في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
ونعلم أن التجارة هي وساطة بين المنتج والمستهلك.. المنتج يريد أن يبيع إنتاجه. والمستهلك محتاج إلى هذا الإنتاج. والربح عملية تطول فترة.. وتقصر فترة مع عملية تحرك السلعة والإقبال عليها إن كان سريعا أو بطيئا.
وعملية الاتجار استخدمها الله سبحانه وتعالى ليبين لنا أنها أقصر طريق إلى النفع. فالتجارة تقوم على يد الإنسان. يشتري السلعة ويبيعها. ولكنها مع الله سيأخذ منك بعضا من حرية نفسك. ليعطيك أخلد وأوسع منها.
وكما قلنا: لو قارنا بين الدنيا بعمرها المحدود- عمر كل واحد منا- كم سنة؟ خمسين.. ستين.. سبعين!! نجد أن الدنيا مهما طالت.. ستنتهي والإنسان العاقل هو الذي يضحي بالفترة الموقوته والمنتهية ليكون له حظ في الفترة الخالدة. وبذلك تكون هذه الصفقة رابحة.
إن النعيم في الدنيا على قدر قدرات البشر. والنعيم في الآخرة على قدر قدرات الله سبحانه وتعالى. يأتي الإنسان ليقول: لماذا أضيق على نفسي في الدنيا؟ لماذا لا أتمتع؟ نقول له: لا.. إن الذي ستناله من العذاب والعقاب في الآخرة لا يساوي ما أخذته من الدنيا.. إذن الصفقة خاسرة. أنت اشتريت زائلا. ودفعته ثمنا لنعيم خالد.
والله سبحانه وتعالى يقول لليهود: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} أي لا تدفعوا الآيات الإيمانية التي أعطيت لكم لتأخذوا مقابلها ثمنا قليلا.. وعندما يأخذ الإنسان أقل مما يعطي.. فذلك قلب للصفقة. والقلب تأتي من الخسارة دائما.
وكأن الآية تقول: تدفعون آيات الله التي تكون منهجه المتكامل لتأخذوا عرضا من أعراض الدنيا. قيمته قليلة ووقته قصير. هذا قلب للصفقة.
ولذلك جاء الأداء القرآني مقابلا لهذا القلب. ففي الصفقات.. الأثمان دائما تدفع والسلعة تؤخذ. ولكن في هذه الحالة التي تتحدث عنها الآية في قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} قد جعلت الثمن الذي يجب أن يكون مدفوعا جعلته مشتري وهذا هو الحمق والخطأ.
الله يقول: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} أي لا تقبلوا الصفقة.. الشيء الذي كان يجب أن تضحوا به لا تجعلوه ثمنا. لأنك في هذه الحالة تكون قد جعلت الثمن سلعة. ما دمت ستشتري الآيات بالثمن.. فقد جعلت آيات الله ثمنا لتحصل على مكاسب دنيوية. وليتك جعلتها ثمنا غاليا. بل جعلتها ثمنا رخيصا.
لقد تنكرت لعهدك مع الله ليبقى لك مالك أو مركزك!! أما إذا ضحى الإنسان بشيء من متع الدنيا.. ليأخذ متع الآخرة الباقية.. فتكون هذه هي الصفقة الرابحة. ذلك لأن الإنسان في الدنيا ينعم على قدر تصوره للنعيم. ولكنه في الآخرة ينعم على قدر تصور الله سبحانه وتعالى في النعيم.
بعض الذين لا يريدون أن يحملوا أنفسهم على منهج الله يستعجلون مكاسب الصفقة. استعجالا أحمق. إنهم يريدون المتعة حراما أو حلالا.. نقول لكل واحد منهم: إن كنت مؤمنا بالآخرة: أو غير مؤمن فالصفقة خاسرة.. لأنك في كلتا الحالتين ستعذب في النار.. فكأنك اشتريت بإيمانك ودينك متعة زائلة.
وجعلت الكفر ومعصية الله هما الثمن فقلبت الآية، وجعلت الشيء الذي كان يجب أن يشتري بمنهج الله وهو نعيم الآخرة يباع.. ويباع بماذا؟ بنعيم زائل! وعندما يأخذ الإنسان أقل مما يعطي.. يكون هذا قلبا للصفقة.
فكأن الآية تقول: إنكم تدفعون آيات الله وما تعطيكم من خَيْرَيْ الدنيا والآخرة لتأخذوا عرضا زائلا من أعراض الدنيا وثمنه قليل. والثمن يكون دائما من الأعيان كالذهب والفضة وغيرهما.. وهي ليست سلعة. فهب أن معك كنز قارون ذهبا. وأنت في مكان منعزل وجائع. ألا تعطي هذا الكنز لمن سيعطيك رغيفا.. حتى لا تموت من الجوع؟ ولذلك يجب ألا يكون المال غاية أو سلعة. فإن جعلته غاية يكون معك المال الكثير.. ولا تشتري به شيئا لأن المال غايتك. فيفسد المجتمع.
إن المال عبد مخلص. ولكنه سيد رديء. هو عبدك حين تنفقه. ولكن حين تخزنه وتتكالب عليه يشقيك ويمرضك. لأنك أصبحت له خادما.
والآية الكريمة.. تعطينا فكرة عن اليهود لأن محور حياتهم وحركتهم هو المال والذهب. فالله سبحانه وتعالى حرم الربا لأن المال في الربا يصبح سلعة. فالمائة تأخذ بمائة وخمسين مثلا.. وهذا يفسد المجتمع، لأنه من المفروض أن يزيد المال بالعمل. فإذا أصبحت زيادة المال بدون عمل. فسدت حركة الحياة. وزاد الفقير فقرا. وزاد الغني غنى. وهذا ما نراه في العالم اليوم.
فالدول الفقيرة تزداد فقرا لأنها تقترض المال وتتراكم عليها فوائده حتى تكون الفائدة أكثر من الدين نفسه. وكلما مر الوقت. زادت الفوائد. فيتضاعف الدين. ويستحيل التسديد. والدول الغنية تزداد غنى، لأنها تدفع القرض وتسترده بأضعاف قيمته.
وإذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} يجب ألا نفهم أنه يمكن شراء آيات الله بثمن أعلى.. لا.. لأنه مهما ارتفع الثمن وعلا سيكون قليلا. وقليلا جدا. لأنه يقابل آيات الله. وآيات الله لا تقدر بثمن. فالصفقة خاسرة مهما كانت قيمتها.
وقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} وفي الآية السابقة قال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وهي وعيد. ولكن {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} واقع. فقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} هي وعيد وتحذير لما سيأتي في الآخرة. ولكن {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} يعني اتقوا صفات الجلال من الله تعالى. وصفات الجلال هي التي تتعلق ببطش الله وعذابه. ومن هذه الصفات الجبار والقهار والمتكبر والقادر والمنتقم والمذل. وغيرها من صفات الجلال.
الله سبحانه وتعالى يقول: اتقوا الله ويقول اتقوا النار كيف؟ نقول إن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نجعل بيننا وبين النار- وهي أحد جنود العذاب لله سبحانه وتعالى- وقاية. ويريدنا أن نجعل بيننا وبين عذاب النار وقاية. ويريدنا أيضا.. أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال في الله وقاية. فقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية. حتى لا يصيبكم عذاب عظيم. وكيف نجعل بيننا وبين صفات الجلال في الله وقاية؟ أن تكون أعمالنا في الدنيا وفقا لمنهج الله سبحانه وتعالى. إذن فالتقوى مطلوبة في الدنيا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ما} يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: بالذي أنزلته، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موقع المفعول أي: بالمنزل.
و{مصدقًا} نصب على الحال، وصاحبها العائد المَحْذُوف.
وقيل: صاحبها ما والعامل فيها آمنوا، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية من غير جعله المصدر واقعًا موقع الفعل به، وجعل {لما معكم} من تمامه، أي: بإنزالي لما معكم، وجعل {مصدقًا} حالًا من ما المجرورة باللاَّم قدمت عليها، وإن كان صاحبها مجرورًا؛ لأن الصَّحيح جواز تقديم حال المجرور بحرف الجر عليه؛ كقوله الطويل:
فَإِنْ يَكُ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ** فَلَن تّذْهَبُوا فِرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ

فِرْغًا حال من بِقَتْل، وأيضًا فهذه اللام زائدة، فهي في حكم المطرح، و{مصدقًا} حل مؤكّدة؛ لأنه لا تكون إلا كذلك.
والظاهر أن ما بمعنى الذي وأن {مصدقًا} حال من عائد الموصول، وأن اللاّم في {لما} مقوية لتعدية {مصدقًا} لما الموصولة بالظَّرْفِ.
وقوله: {بِمَا أَنْزَلت} فيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن؛ لأنه وصفه بكونه منزلًا، وبكونه مصدقًا لما معهم.
والثاني: قال قَتَادَةُ: بما أنزلت من كتاب ورسول تجدونه مكتوبًا في التَّوراة، والإنجيل.
ومن جعل ما مصدرية قدّرها بإنزالي لما معكم يعني: التوراة.
قوله: {وَلاَ تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}.
{أول} خبر كان، وفيه أربعة أقوال:
أحدهما وهو مذهب سيبويه: أنه أفعل، وأن فاءه وعينه واو، وتأنيثه أُوْلَى، وأصلها: وُوْلَى، فأبدلت الواو همزة وجوبًا، وليست مثل: وورِي في عدم قلبها لسكون الواو بعدها، لأن واو أُوْلَى تحركت في الجمع في قولهم أوْل، فحمل المفرد على الجمع في ذلك، ولم يتصرف من أول فعل لاستثقاله.
وقيل: هو من وأل إذا نجا، ففاؤه واو، وعينه همزة، وأصله: أوأل فخففت بأن قلبت الهمزة واوًا، وأدغمت الواو الأولى فيها فصار: أول، وهذا ليس بقياس تخفيفه، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على الواو الساكنة، وتحذف الهمزة، ولكنهم شبهوه بخَطِية وبَرِية وهو ضعيف، والجمع: أوَائِل وأَوَالي أيضًا على القلب.
وقيل: هو من آلَ يَئُولُ إذا رجع، وأصله: أَأْوَل بهمزتين، الأولى زائدة والثانية فاؤه، ثم قلبت فأخرت الفاء بعد العين فصار: أَوْأَل بوزن أَعْفَل، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدْغَام، وهو أضعف منه.
وقيل: هو: ووّل بوزن فَوْعَل، فأبدلت الواو الأولى همزة، وهذا القول أضعفها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف، والجمع أوائل والأصل: وواول فقلبت الأولى همزة لما تقدم، والثالثة أيضًا لوقوعها بعد ألف الجمع، وإنما لم يجمع لعى أواول لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع.
واعلم أن أوّل أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفردًا مذكرًا مطلقًا، ثم النكرة المضاف إليها أفعل، إما أن تكون جامدةً أو مشتقةً، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو: الزّيدان أفضلُ رجلين، الزيدون أفضلُ رجال، الهندات أفضلُ نسوة.
وأجاز المبرد إفرادها مطلقًا.
وإن كانت مشتقة، فالجمهور أيضًا على وجوب المطابقة، نحو: الزيدون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين، وأجاز بعضهم المُطَابقة وعدمها؛ أنشد الفراء: الكامل:
وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ ** وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرٌّ جِيَاع

فأفرد في الأول، وطابق في الثاني، ومنه عندهم: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41].
إذا تقرر هذا، فكان ينبغي على قوله الجمهور أن يجمع كافر، فأجابوا عن ذلك بأوجه:
أجودها: أن أفْعَل في الآية، وفي البيت مُضَاف لاسم مفرد مفهم للجمع حذف، وبقيت صفته قائمةً مقامه، فجاءت النكرة المضاف إليها أفعل مفردة اعتبارًا بذلك الموصوف المحذوف، والتقدير: ولا تكونوا أوّل فريق أو فَوْجٍ كافر، وكذا فألأم فرق طاعم، وقيل: لأنه في تأويل: أول من كفر به.
وقيل: لأنه في معنى: لا يكن كل واحد منكم أول كافر، كقولك: كَسَانَا حُلّة أي: كل واحد منَّا، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا فلا يراد: ولا تكونوا أول كافر، بل آخر كافر؛ لأن ذكر الشّيء ليس فيه دلالة على أن ما عداه بخلافه.
والهاء في بتعود على ما أنزلت.
وقيل: على الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن التنزيل يستدعي منزلًا إليه.
وقيل: على النعمة ذهابًا بها إلى معنى الإحسان.
قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}.
{بآياتي} متعلّق بالاشتراء وضمن الاشتراء معنى الاستبدال، فلذلك دخلت الباء على الآيات، وكان القياس دخولها على ما هو ثَمَن؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشتري به، لا أن يشترى، لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلًا والمجرور بالباء زائلًا.
وقد ظنّ بعضهم أن قولك: بدلت الدِّرْهَمَ بالدينار وكذا: أبدلت أيضًا أن الدينار هو الحاصل، والدرهم هو الزَّائل، وهو وهم؛ ومن مجيء اشترى بمعنى استبدل قوله: الرجز:.
كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا

وقول الآخر: الطويل:
فَإِنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أَجْهَلُ فيكُمُ ** فَإِنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَكِ بِالجَهْلِ

وقال المهدوي: دخول الباء على الآيات كدخولها على الثَّمن، وكذلك كل ما لا عَيْنَ فيه، وإذا كان في الكلام دَرَاهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن، قاله الفرّاء، يعني أنه إذا لم يكن في الكلام دِرْهَمٌ ولا دينار صحّ أن يكون كلّ من العوضين ثمنًا، ومثمنًا، لكن يختلف ذلك بالنسبة إلى المُتَعَاقدين، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه، وزال عنه، ونصب ما حصل له، فتقول اشتريت هذا الثَّوْبَ بهذا العبد.
وأما إذا كان ثَمّ دراهم أو دنانير كان ثمنًا ليس إلا، نحو اشتريت الثوب بالدرهم، ولا تقول: اشتريت الدِّرْهَمَ بالثوب.
وقدر بعضهم مضافًا فقال: بتعليم آياتي؛ لأن الآيات نفسها لا يُشْتَرَى بها، ولا حَاجَةَ إلى ذلكح لأن معناه الاستبدال كما تقدم.
و{ثمنًا} مفعول به، و{قليلًا} صفته.
و{إيَّايَ فَاتَّقُونِ} كقوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40].
وقال هنا: {فَاتَّقُونِ} وهناك: {فَارْهَبُونِ} لأن ترك المأمور به هناك معصية، وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعَهد، وهنا ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمنًا قليلًا كفر، فناسب ذكر الرهب هناك؛ لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية، وذكر التقوى هنا؛ لأنه كفر لا يجوز العفو عنه؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لابد منه. اهـ. باختصار.