فصل: الفصل الثَّانِي: فِي عُلُوِّ مَكَانَتِهِ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الثَّانِي: فِي عُلُوِّ مَكَانَتِهِ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَتَأْدِيبِهِ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُ:

وَفِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَنْقَبَةً بِالْإِجْمَالِ وَأَضْعَافُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ:
(الْمَنْقَبَةُ الْأَوْلَى) جَعْلُ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَحُبِّهِ وَإِرْضَائِهِ مَقْرُونَةٌ فِي الْمَرْتَبَةِ وَالثَّنَاءِ وَالثَّوَابِ بِمَا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعْلُ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَعِصْيَانِهِ وَبُغْضِهِ وَإِغْضَابِهِ وَإِيذَائِهِ مَقْرُونَةٌ فِي الْحَظْرِ وَالْكُفْرِ وَالْوَعِيدِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ بِالْكُفْرِ بِاللهِ وَعِصْيَانِهِ إِلَخْ. وَتَجِدُ مَا فِي السُّورَةِ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُفَصَّلًا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، فَهِيَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَا مَنْقَبَةٌ وَاحِدَةٌ.
(الثَّانِيَةُ) إِنْزَالُ اللهِ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَتَأْيِيدُهُ بِجُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ حِينَ انْهَزَمَ الْمُؤْمِنُونَ وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْآيَتَيْنِ 25 و26 (وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهُمَا فِي ص217- 221 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(الثَّالِثَةُ) نَصْرُ اللهِ لَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلْهِجْرَةِ مَعَ صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ، وَمَعِيَّتُهُ الْخَاصَّةُ لَهُمَا، وَإِنْزَالُ سَكِينَتِهِ عَلَيْهِمَا، وَتَأْيِيدُهُمَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفِيهَا عِدَّةُ مَنَاقِبَ كَمَا تَرَاهُ فِي آيَةِ الْغَارِ (40) وَتَفْسِيرُهَا الْبَدِيعُ (فِي ص368 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(الرَّابِعَةُ) إِتْمَامُ اللهِ تَعَالَى نُورَهُ بِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ 32 وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم نُورُ اللهِ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ، فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا (ص333 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(الْخَامِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (9: 33) الْآيَةَ. وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِدَّةِ مَنَاقِبَ. فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا (فِي ص338- 343 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (9: 43) الْآيَةَ. وَفِيهَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِهِ وَتَكْرِيمِهِ إِيَّاهُ أَنْ أَعْلَمَهُ بِعَفْوِهِ عَنْهُ قَبْلَ إِعْلَامِهِ بِخَطَأِ الِاجْتِهَادِ فِي إِذْنِهِ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى تَبُوكَ، وَتَجِدُ فِي تَفْسِيرِهَا تَحْقِيقَ الْكَلَامِ فِي ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (ص401 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(السَّابِعَةُ) إِعْلَامُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّ اسْتِغْفَارَهُ لِلْمُشْرِكِينَ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ فِي جَانِبِ حُكْمِ اللهِ فِيهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِلْمُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ. وَذَلِكَ فِي الْآيَةِ (80) وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِنَفْعِ الدُّعَاءِ وَالشَّفَاعَةِ.
(الثَّامِنَةُ) إِعْلَامُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ- مِنْ حَيْثُ هُوَ نَبِيٌّ- وَلَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ أَنْ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَهَذَا نَصُّ الْآيَةِ 113 وَهِيَ إِرْشَادٌ مِنَ اللهِ لَهُمْ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَقِفُوا عِنْدَهُ مِنْ مَوَدَّةِ الْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ).
(التَّاسِعَةُ) نَهْيُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ عِنْدَ الدَّفْنِ بَعْدَ صَلَاتِهِ عَلَى زَعِيمِهِمُ الْأَكْبَرِ الْأَكْفَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ تَكْرِيمًا لِنَجْلِهِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ، وَتَأْلِيفًا لِقَوْمِهِ- وَكَانَ أَكْثَرُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ- وَهَذَا النَّهْيُ يَتَضَمَّنُ الْإِنْكَارَ وَالتَّأْدِيبَ وَالْحَدَّ الَّذِي يَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ فِي مُعَامَلَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
(الْعَاشِرَةُ) نَهْيُهُ عَنِ الْإِعْجَابِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّ اللهَ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ فِي الْآيَتَيْنِ 55 و58 عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِمَا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ أَوْ يَقْرَؤُهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلٌ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالسُّمُوِّ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ قُوَّةِ الْأَمْوَالِ وَعِزَّةِ الْأَوْلَادِ. وَزِينَتُهُمَا يَكُونَانِ لِلْمَحْرُومِينَ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّتِهِ، وَهُمَا اللَّتَانِ لَا يَعْلُوهُمَا شَيْءٌ- وَتَعْلِيمُهُمْ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ أَنَّ النِّعَمَ الصُّورِيَّةَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَا تَتِمُّ لِأَهْلِهَا النِّعْمَةُ بِهَا إِلَّا بِاطْمِئْنَانِ الْقُلُوبِ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ، وَتَزَكِّي الْأَنْفُسِ بِأَعْمَالِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ سَعَادَةُ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَعُلُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ مُتَمِّمَاتِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ كَثْرَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِفَقْدِهِمْ لِهَذِهِ النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، لَا سَعَادَةَ لَهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ مُنَغِّصَاتٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا نَفْسِهَا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (فِي ص418 و495 ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ) تَوْبَتُهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى خِيَارِ أَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مُنْتَهَى التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِثْرِ غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي أُرْهِقُوا فِيهَا أَشَدَّ الْعُسْرِ، وَقَاسَوْا أَعْظَمَ الْجُهْدِ، مِنَ الْجُوعِ وَالظَّمَأِ وَالنَّصَبِ، وَمُفَارَقَةِ مَوْسِمِ الرُّطَبِ، فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَقِلَّةِ الزَّادِ وَالظَّهْرِ، (الرَّوَاحِلِ) فَكَانَ لابد أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ بَعْضَ الْهَفَوَاتِ الْجَدِيرَةِ بِرَأْفَةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فِي جَانِبِ تِلْكَ الْحَسَنَاتِ، الَّتِي أُشِيرَ إِلَى مُضَاعَفَةِ أَجْرِهَا فِيمَا يَلِي الْإِخْبَارَ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (9: 117) ثُمَّ ذَكَرَ فِيمَا يَلِيهَا تَوْبَتَهُ عَلَى الَّذِينَ خُلِّفُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ عَنْ تَبُوكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} (9: 118) إِلَخْ.
وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ هِيَ رُجُوعُهُ إِلَيْهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِيهِ وَتَحَرِّيهِ مَا يُرْضِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ التَّائِبِينَ فِيمَا يَتُوبُونَ عَنْهُ حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ إِلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَمِنَ التَّقْصِيرِ فِي اسْتِكْمَالِ الْجُهْدِ فِي الطَّاعَةِ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ فَهِيَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، وَالتَّجَاوُزُ عَنْ ذَنْبِهِ أَوْ هَفْوَتِهِ، أَوْ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَالْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ، وَتَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ- وَعَطْفُهُ عَلَيْهِ بِمَا يَكُونُ مَزِيدَ كَمَالٍ فِي إِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ التَّوْبَةَ هِيَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَهِيَ آخِرُ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتِهِ، وَإِنَّهَا كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لابد مِنِ اسْتِمْرَارِهَا مِنْ أَوَّلِ سِنِّ التَّكْلِيفِ إِلَى آخِرِهَا.

.الفصل الثَّالِثُ: فِي فَضْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهَا، وَحُكْمِ إِخْلَالِهَا بِهَا وَتَقْصِيرِهَا فِيهَا:

وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
القسم الْأَوَّلُ فِي صِفَاتِهِ الْخَاصَّةِ وَفِيهِ بِضْعُ مَزَايَا وَفَضَائِلَ:
(الْأَوَّلُ) وَصْفُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ: {أُذُنُ خَيْرٍ} (9: 61) فِي الرَّدِّ الْحَكِيمِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ {هُوَ أُذُنٌ} (9: 61) يَعْنُونَ أَنَّهُ يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ خِدَاعُهُ، وَقَدْ فَسَّرَ وَصْفَهُ بِأَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ بِقوله تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (9: 61) وَوَجْهُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِاللهِ: وَيُصَدِّقُ مَا يُوجِبُهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَطْعِيُّ الْيَقِينِيُّ، وَيَلِيهِ أَنَّهُ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَبِرِسَالَتِهِ تَصْدِيقَ ثِقَةٍ بِهِمْ وَائْتِمَانٍ لَهُمْ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ فِي نَفْسِهِ، وَخَيْرٌ لِلنَّاسِ حَتَّى الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ إِلَّا مَا كَانَ حَقًّا وَخَيْرًا، دُونَ الْكَذِبِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ. (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص445 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(الثَّانِيَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِقوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} (9: 61) أَيْ بِمَا كَانَ سَبَبًا لِهِدَايَتِهِمْ وَإِسْبَاغِ اللهِ عَلَيْهِمْ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَعَمَلِهِمْ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهَا، دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْمُكَذِّبِينَ أَوِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (21: 107) فَهُوَ فِي مَعْنَى إِرْسَالِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً بِمَا هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَمَا يَأْتِي قَرِيبًا مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مَعْنَى آخَرُ وَسَتَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(الثَّالِثَةُ) وَصْفُهُ فِي آيَةِ (103) بِتَطْهِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي تَبْلِيغِهِ لِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَفِي أَخْذِهِ لَهَا وَقِسْمَتِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا- كَمِثْلِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْمَفْرُوضَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْأَمْوَالِ إِتَاوَاتٍ وَضَرَائِبَ قَهْرِيَّةً يُؤَدُّونَهَا كَمَا يُؤَدُّونَ سَائِرَ الْمَغَارِمِ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تُنْفَقُ بِحَسَبِ أَهْوَاءِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، وَيَكُونُ لَهُمْ مِنْهَا أَكْبَرُ نَصِيبٍ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَإِنَّمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لِلْمُؤْمِنِينَ حِكْمَةَ مَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَسَعَادَةَ الْآخِرَةِ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ، وَكَانَ يُقَسِّمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِالْعَدْلِ، وَيَحْرُمُ بِإِذْنِ اللهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَبِهَذَا وَذَاكَ أَسْنَدَ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِعْلَ التَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ لَهُمْ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي حِكْمَةِ بَعْثَتِهِ فِي قَوْلِهِ: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (62: 2) وَتَجِدُ التَّفْصِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ).
(الرَّابِعَةُ) وَصْفُ دُعَائِهِ لِلْمُتَصَدِّقِينَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ بِأَنَّهُ: {سَكَنٌ لَهُمْ} (9: 103) تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَتَرْتَاحُ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَيَثِقُونَ بِقَبُولِ اللهِ لِصَدَقَاتِهِمْ، وَنَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُتَصَدِّقٍ مُخْلِصٍ يَنَالُهُ حَظٌّ مِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُتَصَدِّقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي سِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ الدُّعَاءَ لِأَحَدٍ.
(الْخَامِسَةُ) وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} (9: 128) فَأَثْبَتَ لَهُ شِدَّةَ الْحُبِّ لَهُمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ، وَأَنَّهُ يَعِزُّ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَنَتُ وَالْإِرْهَاقُ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ.
(السَّادِسَةُ) وَصْفُهُ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (9: 128) وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ غَيْرِ الْخَاصَّةِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا فِي كَمَالِهِمَا. وَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ إِرْسَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ رَحْمَةً لَهُمْ خَاصَّةً، وَغَيْرُ إِرْسَالِهِ رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ بِهِمْ مِنْ صِفَاتِ نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ الْقُدْسِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي سِيَاسَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ، وَتَأْدِيبِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَنْفِيذِ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، كَمَا تَرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَغَيْرِهَا، وَشَوَاهِدِ سِيرَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِهَا، فَتَأَمَّلْ خُطْبَتَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَنْصَارِ فِي أَثَرِ إِنْكَارِ بَعْضِ شُبَّانِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ حِرْمَانَهُ إِيَّاهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ (ص229 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ) فَهِيَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ، وَالْكَمَالُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ لِبَشَرٍ كَمَا تَمَّ لَهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَأَمَّا إِرْسَالُهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحِكْمَةِ رِسَالَتِهِ وَفَوَائِدِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ رَحْمَةِ اللهِ وَمَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ لِمَنِ اهْتَدَى بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَحَلِّهِ.