فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثم انصرفوا} أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه. ومعنى {صرف الله قلوبهم} قال ابن عباس: منعهم عن كل رشد وخير. وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج: أضلهم الله.
قالت الأشاعرة: هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه.
وقالت المعتزلة: هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد قالوا: ومعنى قوله: {لا يفقهون} لا يتدبرون حتى يفقهوا. وعند الأشاعرة: هم قوم جبلوا على ذلك. يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قومًا انصرفوا صرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10] ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم: كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف، وتعرفون كونه حريصًا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم. فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرئ {من أنفسكم} بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام. ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله: {عزيز عليه ما عنتم} العزة الغلية والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم. و{ما} مصدرية أي شديد شاق عليه- لكونه بعضًا منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه.
{حريص عليكم} الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين؛ فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار. وقال الفراء: الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار. ثم بين أنه رحمة للعاملين فقال: {بالمؤمنين} أي منكم ومن غيركم {رؤوف رحيم} قال ابن عباس: لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال، وإن كان صعبًا مؤلمًا فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جمع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك {وهو رب العرش العظيم} فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
ولما تقدّم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} الآية، ثم الحزم بالجهاد بالنفس والمال في قوله تعالى: {انفروا خفافًا وثقالًا} الآية ذكر فضيلة الجهاد وحقيقته بقوله تعالى: {إنّ الله اشترى} أي: بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة {من المؤمنين} بالله ورسوله وبما جاء به من عند ربه {أنفسهم} التي تفرد بخلقها {وأموالهم} التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم وقدم النفس إشارة إلى أن المبايعة سابقة على اكتساب المال، ولما ذكر البيع أتبعه الثمن بقوله تعالى: {بأنّ لهم الجنة} مثل الله تعالى إثابتهم على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء.
وروي تاجرهم الله تعالى فأغلى لهم الثمن، وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعًا، وعن الحسن أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رازقها.
وروي أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسًا قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون به أنفسكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت.
ومرّ أعرابي على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأها فقال: الأعرابي كلام من؟ قال عليه الصلاة والسلام: «كلام الله عز وجل»، فقال الأعرابي: والله بيع مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد.
وقال الحسن: اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله تعالى بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة والمراد بالأموال إنفاقها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم، وفي جميع وجوه البر والطاعات، وقوله تعالى: {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} استئناف بيان ما لأجله الشراء، وقيل: يقاتلون في معنى الأمر.
وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المقتولين على القاتلين لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب ولأن فعل البعض قد يسند إلى الكل أي: فيقتل بعضهم ويقاتل الباقي والباقون بتقديم القاتلين وقوله تعالى: {وعدًا عليه حقًا} مصدران منصوبان بفعليهما المحذوفين ثم أخبر الله تعالى بأنّ هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت {في التوراة} كتاب موسى عليه السلام {والإنجيل} كتاب عيسى عليه السلام {والقرآن} أي: قد أثبته فيهما كما أثبته في القرآن أي: الكتاب الجامع لكل ما قبله {ومن أوفى بعهده من الله} أي: لا أحد أوفى منه سبحانه لأنّ الإخلاف لا تُقدِمُ عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق وقوله تعالى: {فاستبشروا} فيه التفات عن الغيبة أي: فافرحوا غاية الفرح {ببيعكم الذي بايعتم به} فإنه أوجب لكم عظائم المطالب كما قال تعالى: {وذلك هو الفوز العظيم}.
تنبيه:
هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيد: أوّلها: قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} بكون المشتري هو الله تعالى المقدّس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد، ثانيها: أنه تعالى عبر عن إيصاله هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد، ثالثها: قوله تعالى: {وعدًا} ووعد الله تعالى حق، رابعها: قوله تعالى: {عليه} وكلمة على للوجوب، خامسها: قوله تعالى: {حقًا} وهو لتأكد التحقيق، سادسها: قوله تعالى: {في التوراة والإنجيل والقرآن} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة، سابعها: قوله تعالى: {ومن أوفى بعهده من الله} وهو غاية في التأكيد، ثامنها: قوله تعالى: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} وأيضًا هو مبالغة في التأكيد، تاسعها: قوله تعالى: {وذلك هو الفوز}، وعاشرها قوله تعالى: {العظيم} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق.
ولما ذكر تعالى في هذه الآية أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بين أنّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة الآتية: أولها: قوله تعالى: {التائبون} وهو مرفوع على المدح أي: هم التائبون يعني المذكورين في قوله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين} وقال الزجاج: لا يبعد أن يكون قوله: {التائبون} مبتدأ وخبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} أو خبره ما بعده أي: التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال والتائبون صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول التوبة من كل معصية والتوبة إنما تحصل عند أربعة أمور:
أوّلها: احتراق القلب عند صدور المعصية.
ثانيها: الندم على ما مضى.
ثالثها: العزم على الترك في المستقبل.
رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها رفع مذمّة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض من الأغراض الدنيوية فليس بتائب ولابد من ردّ المظالم إلى أهلها إن كانت.
الصفة الثانية قوله تعالى: {العابدون} أي: الذين أخلصوا العبادة لله وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السرّاء والضرّاء، وقال قتادة: قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
الصفة الثالثة قوله تعالى: {الحامدون} وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينًا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء».
الصفة الرابعة قوله تعالى: {السائحون} واختلف في المراد منهم فقال ابن مسعود وابن عباس: هم الصائمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصوم وقال صلى الله عليه وسلم: «سياح أمّتي الصوم» وعن الحسن أنّ هذا صوم الفرض، وقيل: هم الذين يديمون الصيام، قال الأزهري: قيل للصائم سائح لأنّ الذي يسيح في الأرض متعبدًا لا زاد معه كان ممسكًا عن الأكل والصائم ممسك عن الأكل فلهذا المشابهة يسمى الصائم سائحًا، وقال عطاء: السائحون الغزاة في سبيل الله تعالى.
وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة فقال: «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله» وقال عطاء: السائحون هم طلاب العلم والسياحة أمر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل واحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المدارسة الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها أثر قوي في الدين.
الصفة الخامسة والسادسة: قوله تعالى: {الراكعون الساجدون} أي: المصلون وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنّ بهما يتميز المصلي عن غيره بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره ولأنّ القيام أوّل مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهًا على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة: وقوله تعالى: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} أي: الآمرون بالإيمان والطاعة والناهون عن الشرك والمعصية ودخول الواو في والناهون عن المنكر للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة فكأنه قال: الجامعون بين الوصفين ولأنّ العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} وقوله تعالى في صفة الجنة: {وفتحت أبوابها} إيذانًا بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التامّ والثامن تعداد آخر معطوف عليه ولذلك تسمى واو الثمانية، وقيل: الموصون بهذه الصفات هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعلى هذا يكون قوله تعالى: {التائبون} إلى قوله: {الساجدون} مبتدأ خبره هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
الصفة التاسعة: قوله تعالى: {والحافظون لحدود الله} أي: لأحكامه بالعمل بها والمقصود أنّ تكاليف الله تعالى كثيرة وهي محصورة في نوعين: أحدهما: ما يتعلق بالعبادات، والثاني: ما يتعلق بالمعاملات.
فإن قيل: ما الحكمة في أنّ الله تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر عقبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة؟
أجيب: بأنّ التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل، وأمّا البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء وأحكام الجنايات ودخل في هذه الصفة التاسعة رعاية أحوال القلوب بل البحث عنها، والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأنّ أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب.
ثم ذكر سبحانه وتعالى عقب هذه الصفات التسعة قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} تنبيهًا على أن البشارة في قوله تعالى: {فاستبشروا} لم تتناول إلا المؤمنين الموصفين بهذه الصفات التسعة وحذف تعالى المبشر به للتعظيم فكأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام.