فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (42):

قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{ولا تلبسوا} واللبس إبداء الشيء في غير صورته، ومنه اللباس لإخفائه الأعضاء حتى لا تبين هيئتها- قاله الحرالي: {الحق} أي ما تقرون به على ما هو عليه من التوراة والإنجيل مما لا غرض لكم في تبديله {بالباطل} مما تحرفونه منهما، والحق قال الحرالي ما يقر ويثبت حتى يضمحل مقابله، فكل زوجين فأثبتهما حق وأذهبهما باطل، وذلك الحق فالباطل هو ما أمد إدالته قصير بالإضافة إلى طول أمد زوجه القار- انتهى.
ولما كان اللبس قد يفارق الكتمان بأن يسأل شخص عن شيء فيبديه ملتبسًا بغيره أو يكتمه وهو عالم به قال: {وتكتموا الحق} أي عمن لا يعلمه {وأنتم تعلمون} أي مكلفون، وجعله الحرالي على ظاهره فقال: لما طلبهم تعالى بالوفاء بالعهد نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند اتباعهم من ملتهم وعند من استرشدهم من العرب، فلبسوا باتباعهم حق الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فكتموا الحق التام الجامع ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم بذلك إفهامًا، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم تصريحًا- انتهى.
وفي هذه الآية أعظم زاجر لأهل الكتاب عما أظهروا فيه من العناد، ومن لطف الله تعالى زجر القاسي البعيد ونهي العاصي القلق إلى ما دون ذلك من تنبيه الغافل وزيادة الكامل.
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة: وجه إنزال هذا الحرف- يعني حرف النهي- كف الخلق عما يهلكهم في أخراهم وعما يخرجهم عن السلامة في موتهم وبعثهم مما رضوا به واطمأنوا إليه وآثروه من دنياهم، فمتوجهه للمطمئن بدنياه المعرض عن داعيه إلى اجتناب ما هو عليه يسمى زجرًا، ومتوجهه للمتلفّت المستشعر ببعض الخلل فيما هو عليه يسمى نهيًا، وهما يجتمعان في معنى واحد ومقصود واحد إلا أنه متفاوت، ولذلك رددهما النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الجامع في هذا الحديث يعني المذكور أول البقرة، وأولاهما بالبدئية في الإنزال الزجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثه الله حين انتهى الضلال المبين في الخلق ونظر الله سبحانه إلى جميع أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، كما ورد في الحديث الصحيح إسنادًا ومتنًا، ولذلك كان أول منزل الرسالة سورة {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر} [المدثر: 1- 5] وهي أول قوارع الأمر كما أن فجاءة الساعة أول قوارع الخلق، ولذلك انتظم فكرهما في قوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} [المدثر: 8- 10] وللمزجور حالان إما أن ينفر عند الزجرة توحشًا كما قال تعالى: {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} [المدثر: 50- 51] وإما أن يدبر بعد فكره تكبرًا كما قال تعالى: {ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر} [المدثر: 21- 23] وربما شارف أن يبصر فصرف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لكنها عقول كادها باريها {سأصرف آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} [الأعراف: 146] صرفوا عن آيات الحق السماوية على ظهورها عقوبة على ذنب تكبرهم على الخلق مع الإحساس بظهور آية انضمام الأرحام في وضوحها وكل قارعة لنوعي الكافرين النافرين والمدبرين من هذا الحرف وتمام هذا المعنى ينهى المتأنس المحاصر عن الفواحش الظاهرة والباطنة الضارة في العقبى وإن تضرروا بتركها في الدنيا نحو قوله تعالى: {ولا تقربوا} في أكل مال اليتيم والزنا وإتيان الحائض- إلى ما دون ذلك من النهي عما يعدونه في دنياهم كيسًا، نحو قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] {ولا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة} [آل عمران: 13] {ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا} [الحجرات: 12] و{لا يسخر قوم من قوم} [الحجرات: 11] وما لحق بهذا النمط- إلى ما دون ذلك على اتصال التفاوت من النهي عن سوء التأويل لطية غرض النفس نحو قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا} [النساء: 94] إلى ما دون ذلك من النهي عما يقدح في الفضل وإن كان من حكم العدل نحو قوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله} [النور: 22] إلى تمام ما لا تحصل السلامة إلا به من النهي عما زاد على الكفاف والبلغة في الدنيا الذي به يصح العمل بالحكمة نحو قوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحًا} [الإسراء: 37] إلى قوله: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة} [الإسراء: 39]، ونحو قوله تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه} [طه: 131]، لأن كل زائد على الكفاف فتنة، وهذا هو أساس ما به تتفاوت درجات العلم في الدنيا ودرحات الجنة في الآخرة، ولا تصح الوجوه والحروف التي بعده أي وهي سائر الحروف علمًا وعملًا وثباتًا وقبولًا عند التمحيص إلا بحسب الإحكام في قراءة هذا الحرف وجمعه وبيانه لأنه ظهور لما بعده من صلات حرف الأمر وما قصّر بعشرات فرق الأمة إلى التقصير في حرف النهي، لأن الملة الحنيفية مبنية على الاكتفاء باليسير من المأمورات والمبالغة في الحمية من عموم ما لا يتناهى من المنهيات لكثرة مداخل الآفات منها على الخلق فيما بعد الموت ويصعب هذا الحرف على الخلق بما استقر في أوهامهم أن دنياهم لا تصلح إلا بالمثابرة على صنوف المنهيات لنظرهم لجدواها في الدنيا وعماهم عن وبالها في الأخرى وما حوفظ على الرياضات والتأديبات والتهذيبات إلا بوفاء الحمية منها، والحمية أصل الدواء، فمن لم يحتم عن المنهيات لم ينفعه تداويه بالمأمورات، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء {هل أنبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا} [الكهف: 103، 104] وجاؤوا بحسنات كالجبال وكانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهنًا من الليل لكن ذلك تداو بغير حمية لما لم يحتموا من الدنيا التي نهوا عن زهرتها، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منها الشهوات ويعملون المعصيات فلم ينفعهم المداواة، فمن احتمى فقد قرأ هذا الحرف وهو حسبه فاقرؤوا ما تيسر منه، أحب العبادات إلى الله ترك الدنيا وحمية النفس من هوى جاهها ومالها «بل نبيًا عبدًا»، «أجوع يومًا وأشبع يومًا».
«ومن رغب عن سنتي فليس مني»، والقرآن حجة لمن عمل به فصار إمامه يقوده إلى الجنة.
وحجة على من لم يعمل به يصير خلفه فيسوقه إلى نار الجبة التي في جب وادي جهنم التي تستعيذ جهنم منها والوادي والجب في كل يوم سبع مرات {ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52] {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا} [البقرة: 26] {ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا} [الإسراء: 82] «أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف النهي: اعلم أن الموفي بقراءة حرفي الحلال والحرام المنزلين لإصلاح أمر الدنيا وتحسين حال الجسم والنفس تحصل له عادة بالخير تيسر عليه قراءة حرفي صلاح الآخرة من الأمر والنهي، ولما اقتضت الحكمة والعلم إقامة أمر الدنيا بقراءة حرفي صلاحها تمامًا اقتضى الإيمان بالغيب وتصديق الوعد والوعيد تجارة اشتراء الغيب الموعود من عظيم خلاق الأخرى بما ملك العبد من منقود متاع الدنيا، فكل الحلال ما عدا الكفاف بالسنة متجر للعبد، إن أنفقه ربحه وأبقاه فقدم عليه، وإن استمتع به أفناه فندم عليه: {فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} [التوبة: 69] {لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين} [المنافقون: 10] {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وكما أن حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال ليحصل به الصبر ليكون به العبد شاكرًا صابرًا، فالذي يحصل به قراءة حرفي النهي أما من جهة القلب ورؤيا الفؤاد فمشاهدة البصيرة لموعود الجزاء حتى كأنه ينظر إليه لترتاح النفس بخيره وترتاع من شره، كما قال حارثة: «كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلى أهل النار في النار يعذبون» فأثمر له ذلك ما أحبر به عن نفسه في قوله: «وعزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وخزفها» وخصوصًا من أيد بالمبشرات من الرؤيا الصالحة والكشف الصادق ليدع الفاني للباقي على يقين ومشاهدة، وأما من جهة حال النفس فالصبر بحبسها عما تشتهيه طبعًا مما هو محلل لها شرعًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما رثى لحاله: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟».
{واستعينوا بالصبر} [البقرة: 45] وصبر النفس عن شهواتها وإن كانت حلالًا هو حقيقة تزكيتها، وقتلها بإضنائها منها هو حياتها، وإطلاقها ترتع في شهواتها هو تدسيتها، {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9- 10] والنفس مطية يقويها إنضاؤها، ويضعفها استمتاعها، وحبسها عن ذلك شائع في جهات وجوه الحلال كلها إلاّ في شيئين: في النساء بكلمة الله، لأنهم من ذات نفس الرجال ولسن غيرًا لهم {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف: 189] و{أتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا} [النساء: 20] والثاني في الطيب، لأنه غذاء للروح وتقوية للحواس ونسمة من باطن الملكوت إلى ظاهر الملك، وما عداهما فالاستمتاع به واتباع النفس هواها فيه علامة تكذيب وعد الرحمن وتصديق وعد الشيطان {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} [النحل: 26] {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا} [النساء: 120] هذا من جهة النفس، وأما من جهة العمل وتناول اليد فرفعها عما زاد على الكفاف وتخليته لذوي الحاجة ليتخذوه معاشًا، وأن يكون التمول من غير القوام تجارة نقل وضرب في الأرض وإرصاد لوقت حاجة لا حكرة وتضييقًا، اتخاذ أكثر من لبستين للمهنة والجمعة علامة لضعف الإيمان وخلاف السنة وانقطاع عن آثار النبوة وعدول عن سنة الخلفاء وترك لشعار الصالحين، وكذلك تصفية لباب الطعام وقصد المستحسن في الصورة دون المستحسن في العلم وإيثار الطيب في المطعم على الطيّب في الورع وتكثير الأدم وتلوين الأطعمة، وكذلك اتخاذ أكثر من مسكن واحد وأكثر من مزدرع كاف ورفع البناء والاستشراف بالمباني، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من رد السلام على رجل اتخذ قبة في المدينة حتى هدمها وسوّاها مع بيوت أهل المدينة، وإنما الدنيا للمؤمن سجن إن شعر به وضيق فيه على نفسه طلبت السراح منه إلى الآخرة فيسعد، وإن لم يشعر بأنها سجن فوسع فيها على نفسه طلب البقاء فيها وليست بباقية، والخيل ثلاثة: أجر للمجاهد، ووزر على المباهي، وعفو للمستكفي بها فيما يعنيه من شأنه، والزيادة على الكفاف من النعم السائمة انقطاع عن آثار النبوة وتضييق على ذوي الحاجة وتمول لما وضع لإقامة المعاش وأن يتخذ منه الكفاف، قال صلى الله عليه وسلم: «لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولّد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة» والطعام لا يتمول وكذلك ما اتخذ للقوام لا يحتكره إلا خاطئ «من احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله وبرئ الله منه» فالأمتعة تجلب وتختزن ويستنمى فيه الدينار والدراهم، والطعام والقوام يجلب ولا يختزن فيستنمى فيه الدينار والدرهم، ومن اختزنه يستنمي فيه الدينار والدرهم فقد احتكره، وما منع فيه من مدّ العين فأحرى أن يمنع فيه مد اليد {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا} [الحجر: 88] الآيتين، فبهذه الأمور من إيمان القلب ورؤية الفؤاد وصبر النفس وكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام تحصل قراءة حرف النهي، والله ولي التأييد- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن قوله سبحانه: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} أمر بترك الكفر والضلال.
وقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} أمر بترك الإغراء والإضلال، واعلم أن إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين، وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها.
فقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} إشارة إلى القسم الأول وهو تشويش الدلائل عليه وقوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} إشارة إلى القسم الثاني وهو منعه من الوصول إلى الدلائل، واعلم أن الأظهر في الباء التي في قوله: {بالباطل} أنها باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقلم والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصًا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} فهو المذكور في قوله: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5].
أما قوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة، وذلك لأن ذلك التلبيس صار صارفًا للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة وداعيًا لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ولا شك في أن موقعه عظيم، وهذا الخطاب وإن ورد فيهم، فهو تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار الخطاب وإن كان خاصًا في الصورة لكنه عام في المعنى، ثم هاهنا بحثان:

.البحث الأول: في قوله تعالى: {وَتَكْتُمُواْ الحق}:

قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا أو منصوب بإضمار أن.

.البحث الثاني: النهي عن كتمان العلم:

إن النهي عن اللبس والكتمان وإن تقيد بالعلم فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم، وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقًا أو باطلًا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات، بل يجب التوقف فيه، وسبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضارًا أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضارًا، فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح، والآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} اللَّبْس: الخلط. لَبَست عليه الأمر ألبِسه، إذا مزجتَ بيّنه بمُشْكله وحقَّه بباطله، قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] وفي الأمر لُبْسة؛ أي ليس بواضح.
ومن هذا المعنى قول عليّ رضي الله عنه للحارث ابن حوط: يا حارث إنه ملبوس عليك.
إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
وقالت الخنساء:
ترى الجليسَ يقول الحقّ تحسَبه ** رُشْدًا وهيهات فانظر ما به التبسا

صَدِّق مقالتَه واحذر عداوته ** والبس عليه أمورا مثلَ ما لَبَسا

وقال العَجّاج:
لما لَبَسْنَ الحقَّ بالتَّجَنِّي ** غَنِين واستبدلن زيدًا منِّي

روى سعيد عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به الإسلامُ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله.
والظاهر من قول عنترة:
وكَتِيبةٍ لَبّستها بكتيبة

أنه من هذا المعنى؛ ويحتمل أن يكون من اللباس.
وقد قيل هذا في معنى الآية؛ أي لا تُغَطّوا.
ومنه لبس الثوب؛ يقال: لبِست الثوب ألْبَسه.
ولباس الرجل زوجته، وزوجها لباسها.
قال الجَعْدِيّ:
إذا ما الضّجيع ثَنَى جِيدَها ** تَثَنّتْ عليه فكانت لباسَا

وقال الأخْطل:
وقد لَبِستُ لهذا الأمر أعْصُرَه ** حتى تجلّل رأسي الشيبُ فاشتعلا

واللَّبوس: كل ما يُلبس من ثياب ودرع؛ قال الله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] ولابست فلانًا حتى عرفتُ باطنه.
وفي فلان مَلْبَس؛ أي مستمتع.
قال:
ألاَ إن بعد العُدْم للمرءِ قُنْوَة ** وبعد المشيب طولَ عُمْرٍ ومَلْبَسَا

ولِبْس الكعبة والهودج: ما عليهما من لِباس بكسر اللام.
قوله تعالى: {بالباطل} الباطل في كلام العرب خلاف الحق، ومعناه الزائل.
قال لبِيد:
ألاَ كلُّ شيء ما خلا اللَّهَ باطلُ

وبطل الشيء يبطل بُطْلا وبُطولا وبُطلانا ذهب ضياعًا وخسرًا، وأبطله غيره.
ويقال: ذهب دمه بُطْلًا؛ أي هَدَرًا.
والباطل: الشيطان.
والبَطَل: الشجاع، سُمِّيَ بذلك لأنه يُبطل شجاعة صاحبه.
قال النابغة:
لهم لواء بأيدي ماجدٍ بطلٍ ** لا يقطع الخرق إلا طرفُه سامي

والمرأةُ بَطَلة.
وقد بطُل الرجل بالضم يبطلُ بُطولة وبَطَالة؛ أي صار شجاعًا.
وبَطل الأجير بالفتح بِطَاَلة؛ أي تعطّل، فهو بطّال.
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: {الحق بالباطل}؛ فرُوي عن ابن عباس وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل؛ وهو التغيير والتبديل.
وقال أبو العالية: قالت اليهود: محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا.
فإقرارهم ببعثه حقّ، وجحدهم أنه بُعث إليهم باطل.
وقال ابن زيد: المراد بالحق التوراة، والباطل ما بدّلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره.
وقال مجاهد: لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام.
وقاله قتادة؛ وقد تقدم.
قلت: وقول ابن عباس أصوب؛ لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال. والله المستعان.
قوله تعالى: {وَتَكْتُمُواْ الحق} يجوز أن يكون معطوفًا على {تَلْبِسُوا} فيكون مجزومًا، ويجوز أن يكون منصوبًا بإضمار أن، التقدير: لا يكن منك لبس الحق وكتمانه؛ أي وأن تكتموه.
قال ابن عباس: يعني كتمانهم أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه.
وقال محمد بن سِيرِين: نزل عصابة من ولد هارون يَثْرِبَ لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدوّ عليهم والذلة، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ، فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وهم مؤمنون مصدّقون بنبوته، فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه؛ وهو معنى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89].
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة في موضع الحال؛ أي أن محمدًا عليه السلام حق؛ فكفرهم كان كفر عناد؛ ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا.
ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل.
وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} [البقرة: 44] الآية. اهـ.