فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}
قوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} حكاية منه سبحانه لقية فضائح المنافقين، أي إذا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من كتابه العزيز، فمن المنافقين {مَن يِقُولُ} لإخوانه منهم {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه} السورة النازلة {إيمانا} يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين، ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم عن الإسلام وزهيدهم فيه، و{أيكم} مرفوع بالابتداء وخبره زادته.
وقد تقدّم بيان معنى السورة.
ثم حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيمانًا إلى إيمانهم، والحال أنهم يستبشرون مع هذه الزيادة بنزول الوحي، وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية {وَأَمَّا الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} وهم: المنافقون {فَزَادَتْهُمْ} السورة المنزلة {رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} أي: خبثًا إلى خبثهم الذين هم عليه من الكفر وفساد الاعتقاد، وإظهار غير ما يضمرونه، وثبتوا على ذلك واستمروا عليه إلى أن ماتوا كفارًا منافقين، والمراد بالمرض هنا: الشك والنفاق؛ وقيل المعنى: زادتهم إثمًا إلى إثمهم.
قوله: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} قرأ الجمهور {يرون} بالتحتية.
وقرأ حمزة ويعقوب بالفوقية خطابًا للمؤمنين.
وقرأ الأعمش {أو لم يروا}.
وقرأ طلحة بن مصرف {أو لا ترى} خطابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة ابن مسعود.
ومعنى: {يُفْتَنُونَ}: يختبرون، قاله ابن جرير، وغيره، أو يبتليهم الله سبحانه بالقحط والشدّة، قاله مجاهد.
وقال ابن عطية بالأمراض والأوجاع.
وقال قتادة، والحسن، بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما وعد الله من النصر {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} بسبب ذلك {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} و{ثم} لعطف ما بعدها على يرون، والهمزة في أو لا يرون للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدّر، أي لا ينظرون ولا يرون، وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق، وإهمالهم للنظر والاعتبار.
ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه، فقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} أي: نظر بعض المنافقين إلى البعض الآخر قائلين: {هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ} من المؤمنين، لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي، فإنه لا صبر لنا على استماعه، ولنتكلم بما نريد من الطعن والسخرية والضحك.
وقيل المعنى: وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم، قال بعض من يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للبعض الآخر منهم: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا إلى منازلهم.
وحكى ابن جرير، عن بعض أهل العلم، أنه قال: {نَظَرَ} في هذه الآية موضوع موضع قال: أي قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد؟ قوله: {ثُمَّ انصرفوا} أي: عن ذلك المجلس إلى منازلهم، أو عن ما يتقضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضى الكفر والنفاق، ثم دعا الله سبحانه عليهم، فقال: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} أي: صرفها عن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية، وهو سبحانه مصرّف القلوب ومقلبها.
وقيل المعنى: أنه خذلهم عن قبول الهداية.
وقيل: هو دعاء لا يراد به وقوع مضمونه، كقولهم: قاتله الله.
ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن مواطن الهداية، أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} فقال: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم.
ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهوّن عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة، فقال: {لَقَدْ جَاءكُمْ} يا معشر العرب {رَّسُولٍ} أرسله الله إليكم، له شأن عظيم {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم في كونه عربيًا وإلى كون هذه الآية خطابًا للعرب ذهب جمهور المفسرين.
وقال الزجاج: هي خطاب لجميع العالم.
والمعنى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ} جنسكم في البشرية {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} {ما} مصدرية.
والمعنى: شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم، ومبعوثًا لهدايتكم، والعنت: التعب لهم والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه، أو بعذاب الآخرة بالنار، أو بمجموعهما {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي: شحيح عليكم بأن تدخلوا النار، أو حريص على إيمانكم.
والأوّل: أولى، وبه قال الفراء.
والرؤوف الرحيم، قد تقدّم بيان معناهما: أي هذا الرسول {بالمؤمنين} منكم أيها العرب أو الناس {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} ثم قال مخاطبًا لرسوله ومسليًا له، ومرشدًا له، إلى ما يقوله عند أن يُعصى {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه {فَقُلْ} يا محمد {حَسْبِىَ الله} أي: كافيّ الله سبحانه المنفرد بالألوهية {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: فوّضت جميع أموري {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} وصفه بالعظم، لأنه أعظم المخلوقات.
وقد قرأ الجمهور بالجرّ على أنه صفة لعرش.
وقرأ ابن محيصن بالرفع صفة لرب.
وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا، وكانوا بها يستبشرون.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} قال: شكًا إلى شكهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} قال: يقتلون.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، نحوه وقال: بالسنة والجوع.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، قال: بالعدوّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: بالغزو في سبيل الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن بكار بن مالك، قال: يمرضون في كل عام مرّة أو مرّتين.
وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد، قال: كانت لهم في كل عام كذبة أو كذبتان.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن حذيفة، قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئام من الناس كثير.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} قال: هم المنافقون.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قومًا انصرفوا، صرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر، نحوه.
وأقول: الانصراف يكون عن الخير، كما يكون عن الشرّ، وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك، وإلا لزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعدّدة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار، لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير، كالرجوع والذهاب، والدخول والخروج، والقيام والقعود.
واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله، ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى.
وأخرج عبد بن حميد، والحارث بن أبي أسامة، في مسنده، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، في دلائل النبوّة، وابن عساكر، عن ابن عباس، في قوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعها ويمانيها.
وأخرج ابن سعد عنه، في قوله: {مّنْ أَنفُسِكُمْ} قال: قد ولدتموه يا معشر العرب.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، وأبو الشيخ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، في قوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» وهذا فيه انقطاع، ولكنه قد وصله الحافظ الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي، فقال: حدثنا أبو أحمد، يوسف بن هارون بن زياد، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال: أشهد على أبي يحدثني، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي».
وأخرج ابن مردويه، عن أنس، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} فقال عليّ بن أبي طالب: يا رسول الله، ما معنى {من أنفسكم}؟ قال: «نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس فيّ ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح» وأخرج الحاكم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} يعني: من أعظمكم قدرًا.
وأخرج ابن سعد عنه نحو حديث على الأول.
وأخرج الطبراني عنه أيضًا نحوه.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن عائشة، نحوه.
وفي الباب أحاديث بمعناه، ويؤيد ما في صحيح مسلم، وغيره، من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي، عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم حين خلق القبائل جعلني من خير قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتًا وخيرهم نفسًا» وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وابن منيع، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل من طريق يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: آخر ما أنزل من القرآن: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} إلى آخر الآية، وروي عنه نحوه من طريق أخرى؛ أخرجها عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن الضريس، في فضائله، وابن أبي داود في المصاحف، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والخطيب في تلخيص المتشابه، والضياء في المختارة.
وأخرج ابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال: ولم سألتم هذا؟ قالوا: نطلب الأمن، فأنزل الله هذه الآية: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ}.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ الله} يعني: الكفار تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، قال: إنما سمي العرش عرشًا لارتفاعه، وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته، وقدره.
وإلى هنا انتهى الثلث الأوّل من التفسير المسمى: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، بقلم مؤلفه: محمد بن علي الشوكاني، غفر الله لهما.
وكان تمام هذا الثلث في نهار يوم الثلاثاء لعله يوم عشرين من شهر محرّم سنة 1227 هـ.
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين. اهـ.