فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى: {وَءامَنُواْ} [البقرة: 1 4] الخ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} [الحديد: 3] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد واللاءمة أتم.
واللبس بفتح اللام الخلط، وفعله لبس من باب ضرب ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز: والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في الحق والباطل للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أولا تجعلوا ذلك ملتبسًا مشتبهًا غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببًا للالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل وإن لزمه العكس وكان هذا طارئًا على ذلك استحق الأولوية التي نفيت.
{وَتَكْتُمُواْ الحق} مجزوم بالعطف على {تَلْبِسُواْ} فالنهي عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوبًا على إضمار أن وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم.
وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو وهي عندهم بمعنى مع وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وتكتمون وخرجت على أن الجملة في موضع الحال أي وأنتم تكتمون، أو كاتمين وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان، وليس للمانع دليل يعتمد عليه، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في لا تضرب زيدًا وهو أخوك وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك وهو سيبويه وجماعة ولا يشترط التناسب في عطف الجمل.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية ومفعول {تَعْلَمُونَ} محذوف اقتصارًا أي وأنتم من ذوي العلم ولا يناسب من كان عالمًا أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون أو تعلمون صفته صلى الله عليه وسلم أو البعث والجزاء، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل وليس من يعلم كمن لا يعلم وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}.
معطوف على جميع ما تقدم من قوله: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40] إلى هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة بل على جميع ما تقدمها لاسيما قوله: {ولا تلبسوا} فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله: {ولا تشتروا بآياتي} [البقرة: 41] كما تقدم.
وإن شئت أن تجعل كلًا معطوفًا على الذي قبله فهومعطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفًا على ما قبله كذلك، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتْها دون البقية وذلك كعطف {وتكتموا الحق} على {لا تلبسوا} فإنها متعينة للعطف على {تلبسوا} لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح بالأوْلى.
وجوزوا أن يكون {وتكتموا الحق} منصوبًا بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع بين الأمرين وهو بعيد لأن كليهما منهي عنه والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع بالأوْلى بخلاف العكس اللهم إلا أن يقال إنما نهوا عن الأمرين معًا على وجه الجمع تعريضًا بهم بأنهم لا يرجا منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر.
أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجا منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل.
والحَق الأمر الثابت من حَقَّ إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بُطلًا وبطولًا وبطلانًا إذا ذهب ضياعًا وخسرًا وذهب دمه بُطلًا أي هدرًا.
والمراد به هنا ما تتبرأ منه النفوس وتزيله مادامت خلية عن غرض أوهوى، وسمي باطلًا لأنه فعل يذهب ضياعًا وخسارًا على صاحبه.
واللبس خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة حروف مثل علَى واللاممِ والباءِ على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف.
وقد يعلق به ظرفُ عندَ.
وقد يجرد عن التعليق بالحرف.
ويُطلق على اختلاط المعاني وهو الغالب، وظاهر كلام الراغب في مفردات القرآن أنه هو المعنى الحقيقي، ويقال في الأمر لُبسةٌ بضم اللام أي اشتباه، وفي حديث شق الصدر «فخفت أن يكون قد التُبس بي» أي حصل اختلاط في عقلي بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب سمِع.
فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق، وهذا اللَّبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قَصْد إبطالها فشأنُ من يريد إبطالها أن يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى: {وكذلك زَين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبِسوا عليهم دينهم} [الأنعام: 137] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام.
وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة إننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعه، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله، وقد قال شاعرهم وهو الخطيل بن أوس:
أطعنا رسولَ الله إذ كان بيننا ** فيا لعباد اللَّهِ مالِأَبي بكر

وقد فعل ذلك الناقمون على عثمان رضي الله عنه فلبَّسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه، وسقط من يده خاتم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك رمز على سقوط خلافته.
وقد قالت الخوارج لا حكم إلا لله فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل.
وحرَّف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا فكان من ذلك لبس كثير، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب الرسائل الملقبين بإخوان الصفاء.
ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها ويعارضها نحو قوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة.
وللتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يُظن أنه دليل فهو تأويل باطل فإن وقع بلا دليل أصلًا فهو لعب لا تأويل ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى الذي جاء له كما قال ابن الرومي:
لئن أخطأتُ في مدْحيـ ** ـك ما أخطأت في منعي

لقد أنزلتُ حاجاتي ** بواد غير ذي زرع

وقوله: {وأنتم تعلمون} حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول تعلمون محذوف دل عليه ما تقدم، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لَبسكم الحق بالباطل.
قال الطيبي عند قوله تعالى الآتي: {أفلا تعقلون} [البقرة: 44] إن قوله تعالى: {وأنتم تعلمون} غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على أنهم موصوفون بالعلم الذي هووصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} إلى قوله: {أفلا تعقلون} [البقرة: 44] إذْ نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
والباء في قوله: {بالباطل} للإلصاق كقولك: خلطت المَاءَ باللَّبَنِ، أي: لا تخلطوا الحقّ بالباطل، فلا يتميز.
وقال الزمخشري: إن كانت صلةً مثلها في قولك: ليست الشيء بالشَّيء، وخلطته به كان المعنى: ولا تَكْتُبُوا في التوراة ما ليس فيها فَيَخْتَلِطَ الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم.
وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك: كتبت بالقَلَمِ كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهًا بباطلكم الذي تكتبونه.
فأجاز فيها وجهين كما ترى، ولا يريد بقوله: صِلَة: إنها زائدة، بل يريد أنها موصلة للفعل كا تقدم.
وقال أبو حيان: وفي جعله إياها للاستعانة بُعْد، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟
وقال ابن الخطيب: إنها باء الاستعانة.
والمعنى: ولا تلبسوا الحَقّ بسبب الشبهات التي تُورِدُونَهَا على السَّامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصًا خفيةً يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كاناو يُجَادلون فيها، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} فهو المذكور في قوله: {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5].
واللَّبْسُ: الخَلْط والمَزْج؛ لقوله: لَبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ خَلَطْتُ بَيِّنَهُ بمُشْكِلِهِ؛ ومنه قول الخَنْسَاءِ: البسيط:
تَرَى الجَلِيسَ يَقُولُ الحَقَّ تَحْسَبُهُ ** رُشْدًا وَهَيْهَاتَ فَانْكُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا

صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَه ** وَالْبِسْ عَلَيْهِ أُمُورًا مِثْلَ مَا لَبَسَا

وقال العَجَّاج: الرجز:
لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي ** غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْدًا مِنِّي

ومنه أيضًا: البسيط:
وَقَدْ لَبَسْتُ لِهَذَا الأَمْرِ أَعْصُرَهُ ** حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلا

وفي فلان مَلْبَسٌ، أي مستمتع؛ قال: الطويل:
أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قُنْوَةً ** وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا

وقول الفَرَّاء وغيره: الكامل:
وَكتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِبَةٍ ** حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي

يحتمل أن يكون منه، وأن يكون من اللِّبَاس، والآية الكريمة تحتمل المعنيين، أي: لا تغطّوا الحق بالباطل.
ولبس الهَوْدَج والكعبة: ما عليهما من لِبَاس بكسر اللام ولِبَاسُ الرجل زوجته، وزوجها لِبَاسُهَا.
قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] وقال النابغة: المتقارب:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ** تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَنْ لِبَاسَا

واللَّبُوس: كل ما يُلْبَس من ثياب ودرع؛ قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] ولاَبَسْتُ فلانًا حتى عرفت باطنه.
والباطل: ضد الحق، وهو الزائل؛ كقول لَبِيدٍ: الطويل:
أَلاَ كُلٌّ شَيْءٍ مَا خَلاَ الله بَاطِلُ

ويقال: بَطَلَ الشيءُ يَبْطُلُ بُطُولًا وبُطْلًا وبُطْلانًا.
والبَطَل: الشّجاع، سمي بذلك؛ لأنه يبطل شجاعة غيره.
وقيل: لأنه يبطل دمه فهو فَعَل بمعنى مفعول.
وقيل: لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى فاعل.
وقد بَطُلَ بالضَّم يَبْطُلُ بُطُولًا وبَطَالَةً، أي: صار شجاعًا؛ قال النابغة: البسيط:
لَهُمْ لِوَاءُ بِكَفِّيْ مَاجِدٍ بَطَلٍ ** لاَ يَقْطَعُ الخَرْقَ إلاَّ طَرْفُهُ سَامِي

وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطَالة بالكَسْر: إذا تعطَّل، فهو بَطَّال، وذهب دمه بُطْلًا بالضم أي: هدرًا.
وأن مع ما في حيّزها في تأويل مصدر، فلابد من تأويل الفعل الذي قبلها بمصدر أيضًا ليصبح عطف الاسم على مثله، والتقدير: لا يكن منكم لَبْس الحق بالباطل وكتمانه، وكذا سائر نظائره.
وقال الكوفيون: منصوب بواو الصرف، وقد تقدم معناه، والوجه الأول أحسن؛ لأنه نهي عن كل فعل على حِدَتِهِ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع، ولا يلزم من النَّهْي عن الجمع بين الشَّيئين النهي عن كل واحد حِدَتِهِ إلا بدليل خارجي.
قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحَالِ، وعاملها: إما {تلبسوا} أو {تكتموا} إلاّ أن عمل {تكتموا} أولى لوجهين:
أحدهما: أنه أقرب.
والثاني: أن كتمان الحَقّ مع العلم به أبلغ ذمًّا، وفيه نوع مقابلة.
ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنه يستدعي الإضمار، ولا يجوز إضمار الحال؛ لأنه لا يكون إلا نكرةّ، ولذلك منعوا الإخبار عنه بالذي.
فإن قيل: تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار، حتى لا يلزم المَحْظور المذكور، والتتقدير: ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.
فالجواب: أن هذا لايقال: فيه إعمال، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل، ثم يحذف.
وأجاز ابن عطيَّة ألا تكون هذه الجملة حالًا، فإنه قال: ويحتمل أن تكمون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق، فعلى هذا لا تكون الجُمْلة في موقع الحال.
وفيما قاله نظر.
وقرئ شإذا: {وَتَكْتُمُونَ} بالرفع، وخرجوها على أنها حَالٌ، وهذا غير صحيح؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو، وما ورد من ذلك، فهو مؤول بإضمار متبدأ قبله، نحو: قُمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ، وقول الآخر: المتقارب:
فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ** نَجَوْتُ وأرْهَنُهُمْ مَالِكَا

أي: وأَنَا أَصُكُّ، وأَنَا أَرْهَنُهُمْ، وكذا وأنتم تكتمون، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر، وهو أنهم منهيُّون عن اللّبس مطلقًا، والحال قيد في الجملة السابقة، فيكون قد نهوا بقيد، وليس ذلك مرادًا إلاّ أن يقال: إنها حال لازمة، وقد قيّده الزمخشري بكاتمين، فجعله حالًا، وفيه الإشكال المقتدّم، إلاّ أنه يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعرابن قال ابن الخطيب: وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقًّا وباطلًا لا يجوز الإقدام عليه بالنفي، ولا بالإثبات، بل يجب التوقّف فيه.
وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضَّار مع العلم بكونه ضارًّا أفحش من الإقدام عليه عند الجَهْلِ بكونه ضارًّا، فلما كانوا عالمين بما في التبليس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح.
ويجوز أن تكون جملة خبرية عطفت على جملة طلبية، كأنه تعالى نَعَى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق.
ومفعول العلم غير مُرَاد؛ لأن المعنى: وأنتم من ذوي العلم.
وقيل: حذف للعلم به، والتقدير: تعلمون الحقّ من الباطل.
وقدره الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل المفعول اللَّبْس والكَتْم المفهومين من الفعلين السابقين. وهو حسن. اهـ. باختصار.