فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] لما هداهم سبحانه إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون بمحبة الأنفس والأموال استنزلهم لغاية عنايته سبحانه بهم عن ذلك بالمعاملة الرابحة بأن أعطاهم بدل ذلك الجنة، ولعل المراد بها جنة النفس ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم ولكن الفرق بين الأمرين، قال ابن عطاء: نفسك موضع كل شهوة وبلية ومالك محل كل إثم ومعصية فاشترى مولاك ذلك منك ليزيل ما يضرك ويعوضك عليه ما ينفعك ولهذا اشترى سبحانه النفس ولم يشتر القلب، وقد ذكر بعض الأكابر في ذلك أيضًا أن النفس محل العيب والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره فشراء الله تعالى ذلك مع اطلاعه سبحانه على العيب بالجنة التي لا عيب فيها نهاية الكرم ويرشد إلى ذلك قول القائل:
ولي كبد مقروحة من يبيعني ** بها كبدًا ليست بذات قروح

أباها جميع الناس لا يشترونها ** ومن يشتري ذا علة بصحيح

وعن الجنيد قدس سره قال: إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن» وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما اشترى الأنفس منهم فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنة النفس التي كانت ثمنًا قدر وصفهم بالتائبين فقال سبحانه: {التائبون} أي الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ آخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله واستقاموا بالله تعالى مع الله تعالى.
{العابدون} أي الخاضعون المتذللون لعظمته وكبريائه تعالى تعظيمًا وإجلالًا له جل شأنه لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة {الحامدون} بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدًا فعليًا حاليًا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه.
يروى أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أحمدك والحمد من آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتني يا داود.
وما أعلى كلمة نبينا صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» {السائحون} إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات، وقال بعض العارفين: السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت، وقد يقال: هم الذين صاموا عن المألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة ولا يفطرون حتى يعاينوه مرة أخرى في النشأة الأخرى، وقد امتثلوا ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» {الركعون} في مقام محو الصفات {الساجدون} بفناء الذات، وقال بعض العارفين: الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوتار المعرفة على باب العظمة ورؤية الهيبة، والساجدون هم الطالبون لقربه سبحانه.
فقد جاء في الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقد يقال: الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون منه، وما أحسن ما قيل:
لو يسمعون كما سمعت كلامها ** خروا لعزة ركعًا وسجودًا

{الآمِرُونَ بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} أي الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه، فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي المراعون أوامره ونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم، وقيل: هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات.
وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب، وقالوا: إن تضييعها زندقة:
وقد خالطتهم فرأيت منهم ** خبائث بالمهيمن نستجير

ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتربهم {وَبَشّرِ المؤمنين} [التوبة: 112] بالإيمان الحقي المقيمين في مقام الاستقامة واتباع الشريعة {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم} [113] أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين.
ومن هنا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكن تحت كهف الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده، وهو الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الإدلال، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره في هذا المقام وله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدس سره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في الدرر واليواقيت، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشبلي قدس سره {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْمًا} أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره {حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا {أَنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} [التوبة: 115] فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد.
{لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في سَاعَةِ العسرة} [التوبة: 117] لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه بحسب مقامه، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} وذلك لاستشعار سخط المحبوب {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} أي تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه ورفعوا الوسائط.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه، وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم {وَهُوَ الذي يُنَزّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 18]، وما أحلى قوله:
هجروا والهوى وصال وهجر ** هكذا سنت الغرام الملاح

{يا أيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} في جميع الرذائل بالاجتناب عنها {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} [التوبة: 119] نية وقولًا وفعلًا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق، وقيل: خالطوهم لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدى.
وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة، وقد يقال: الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله} [الأحزاب: 23] ثم في عقد العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} [مريم: 54] وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة؛ وضده الكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا: لا مروءة لكذوب {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ لّيَتَفَقَّهُواْ في الدين} إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرًا فلفوات المصالح وأما باطنًا فلعدم الاستعداد للجميع.
والفقه من علوم القلب.
وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة، فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى، ألا ترى كيف نفى الله عمن خشي غيره سبحانه الفقه فقال: {لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب، ضاربة عروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام: لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم.
وجاء «من اتقى الله أربعين صباحًا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه» وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رؤوسهم بألف صخرة صماء، وعطف سبحانه قوله: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} على قوله تعالى: {لّيَتَفَقَّهُواْ} إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويقتدي ** بالقول منك وينفع التعليم

ولذا قال جل وعلا: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وقوله تعالى: {يَحْذَرُونَ يا أيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى نفوسكم بمخالفة هواها، وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي قهرًا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [التوبة: 123] بالولاية والنصر {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126] وفي الأثر البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] وبالجملة إن البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلا أن من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء كما يشير إليه قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] وقوله سبحانه: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي من جنسكم لتقع الألفة بينكم وبينه فإن الجنس إلى الجنس يميل وحينئذٍ يسهل عليكم الاقتباس من أنواره صلى الله عليه وسلم.
وقرئ كما قدمنا {مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي أشرفكم في كل شيء ويكفيه شرفًا أنه عليه الصلاة والسلام أول التعينات وأنه كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم:
وعلى تفنن واصفيه بوصفه ** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يشق عليه عليه الصلاة والسلام مشقتكم فيتألم صلى الله عليه وسلم لما يؤلمكم كما يتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه، وعن سهل أنه قال: المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت ما يشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن مولاكم جل شأنه {بالمؤمنين رَءوفٌ} يدفع عنهم ما يؤذيهم.
{رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] يجلب لهم ما ينفعهم، ومن آثار الرأفة تحذيرهم من الذنوب والمعاصي ومن آثار الرحمة إضافته صلى الله عليه وسلم عليهم العلوم والمعارف والكمالات، قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته فأقام سبحانه بينه وبينهم مخلوقًا من جنسهم في الصورة فقال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} وألبسه من نعته الرأفة الرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرًا صادقًا وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال سبحانه: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] ثم أفرده لنفسه خاصة وآواه إليه بشهوده عليه في جميع أنفاسه وسلى قلبه عن إعراضهم عن متابعته بقوله جل شأنه: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا عن قبول ما أنت عليه لعدم الاستعداد وزواله {فَقُلْ حَسْبِىَ الله} لا حاجة لي بكم كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المتعفن الذي يجب قطعه عقلًا فالله تعالى كافي {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فلا مؤثر غيره ولا ناصر سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} لا على غيره من جميع المخلوقات إذ لا أرى لأحد منهم فعلًا ولا حول ولا قوة إلا بالله: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129] المحيط بكل شيء، وقد ألبسه سبحانه أنوار عظمته وقواه على حمل تجلياته ولولا ذلك لذاب بأقل من لمحة عين، وإذا قرئ {العظيم} بالرفع فهو صفة للرب سبحانه، وعظمته جل جلاله مما لا نهاية لها وما قدروا الله حق قدره نسأله بجلاله وعظمته أن يوفقنا لا تمام تفسير كتابه حسبما يحب ويرضى فلا إله غيره ولا يرجى إلا خيره. اهـ.