فصل: مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبما أنكم يا قوم تعلمون عدم وقوع شيء مني من هذا القرآن، ولم أقل لكم إنه أنزل علي شيء منه، ولم أدّع النبوة التي شرفني اللّه بها إلا بعد مضي الأربعين من عمري، وإذا علمتم هذا وتحققتم عدم ادعائي شيئا من ذلك فاعلموا أنه من عند اللّه، وأن البشر كلهم عاجزون عن الإتيان بآية منه أو أقل، وعاجزون عن تبديل ما أوحي إلي منه أيضا، وإني أبرأ مما تتوهمونه وما تسندونه إلي مخافة عذاب اللّه ربي {أَفَلا تَعْقِلُونَ} ما وضحته لكم وتعترفون بأني نشأت بينكم ولم أغب عنكم لأنهم بالتعليم من الغير، فمن له منكم مسكة من عقل سليم وذهن مستقيم يعلم صحة ذلك، ويعرف بأن هذا الذي أتلوه عليكم منزل من عند اللّه العزيز الحكيم وكما أنكم عاجزون كلكم عن الإتيان بمثله فأنا مثلكم عاجز أيضا لأني من أحدكم فاتقوا اللّه وآمنوا به يا قوم لعلكم تفلحون.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: نزل القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة أي بعد كما لها لأن النزول بدأ في الإحدى والأربعين من عام ولادته صلى اللّه عليه وسلم فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه (أي القرآن إلا شهورا) ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة فمكث فيها عشر سنين (أي يوحى إليه أيضا) ثم توفي صلى اللّه عليه وسلم، فيكون عمره الشريف ثلاثا وستين سنة وهو الصحيح من أقوال ثلاثة، لأن من قال إن عمره ستون سنة اقتصر على العقود وترك الكسر وهو ما بين العقدين وكل عشر سنين يسمى عقدا، ومن قال خمس وستون حصل له اشتباه في مدة الإقامة بمكة والمدينة من حساب السنة مرتين، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم ذنبا {مِمَّنِ افْتَرى} اختلق من تلقاء نفسه {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسب إليه ما لم يكن من الشريك والصاحبة والولد {أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} المنزلة على أنبيائه فكان مجرما بافترائه هذا {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} المقترفون أوزارا توجب هلاكهم في الدنيا وإهلاكهم في الآخرة وإذا كان كذلك، فاعلموا يا قوم أن من أعظم الإجرام أن آتيكم بشيء ليس من عند اللّه وأقول لكم هذا من عنده فكيف يسوغ لي أن أجرؤ على ذلك أو يتسنى لي الإقدام عليه كلا لا يجوز لي ذلك أبدا فأكون مفتريا على اللّه مزورا عليكم بهتا واختلافا، ولكنكم أنتم افتريتم على اللّه تعالى فنسبتم له شريكا وصاحبة وولدا وهو منزه عن كله، ونسبتم لي الافتراء والسحر والكهانة والتعليم من الغير، وأنا بريء من ذلك كله، فكنتم مجرمين مستحقين عذاب اللّه، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ} هؤلاء الكفرة المكذبون أوثانا {مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ} إن تركوا عادتها {وَلا يَنْفَعُهُمْ} إن عبدوها لأنها حجارة لا تحس بالتعظيم والتبجيل والعبادة التي هي أعظم أنواع التعظيم لا تليق إلا لمن يضر وينفع بأن يقدر على الإحياء والإماتة والخير والشر والصحة والمرض والفقر والغنى {وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ} الأوثان جهلا منهم وسخافة بهم {شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} مع علمهم بأنها لا تضر من جحدها ولا تنفع من اعترف بها، ويقولون ما حكى اللّه عنهم في الآية 3 من سورة الزمر الآتية {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} كما سيأتي بعد من أن هؤلاء العتاة توهموا أن عبادة الأوثان أشدّ وأكثر، في تعظيم عبادة اللّه وحده لزعمهم أنهم ليسوا بأهل لأن يعبدوا اللّه الإله الواحد رأسا، بل يعبدون هذه الحجارة والأخشاب، تقربا إلى اللّه تعالى، ويقولون إنها واسطة بينهم وبينه وإنها تشفع لهم عنده في الدنيا لإصلاح معاشهم، إذ جعلوها على صور رجال صالحين بزعمهم ذوي خطر عندهم ومكانة عالية، أما الآخرة فلا يحسبون لها حسابا لأنهم لا يعتقدون بالبعث بعد الموت، وقد حكى اللّه عنهم بقوله عز قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} الآية 39 من سورة النحل الآتية، ومن يقول منهم على طريق الشك إن هناك آخرة فيعتقدون أنها تشفع لهم فيها أيضا عند اللّه إن كان هناك آخرة على ما يزعم محمد وأصحابه فيها بعث ونشور وحساب وعقاب وجزاء، وإن الشفاعات تنفع لأن محمدا يقول بها فإنا نتخذها لتشفع لنا أيضا وقد عبدناها في الدنيا لتكون شافعة لنا في الآخرة، أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحارث يقول إذا كان يوم القيامة شفعت اللّات والعزّى وفيه نزلت هذه الآية ونزولها فيه لا يقيدها بل تشمل كل من قال قوله بشفاعة الأوثان أو اشتراكها مع الرحمن {قُلْ} يا أكرم الرسل {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ} وجوده {فِي السَّماواتِ} {وَلا فِي الْأَرْضِ} وتسمونه شريكا له وشفيعا عنده، وهو لا يعلم له شريكا البتة ولم يعط الشفاعة لديه أحدا من أهل السموات والأرض إلا لمن يرضاه ولم يفوض من يرضاه بالشفاعة إلا لمن يرتضيه {سُبْحانَهُ وَتَعالى} من أن يتفوّه أحد بمثل ذلك عليه، وله البراءة والتنزيه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} معه من الأنداد والأضداد، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا.
قال تعالى: {وَما كانَ النَّاسُ} في عهد آدم عليه السلام {إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً} حنفاء للّه متفقين على عبادته وطاعته واستمر الأمر كذلك إلى أن أغوى إبليس قابيل فقتل أخاه هابيل {فَاخْتَلَفُوا} بعد هذه الحادثة الأولى من نوعها لأنه أول شر وقع على وجه الأرض، فتفرقوا من أجلها، إذ أن قابيل أخذ أخته وهرب من وجه أبيه، وبقي آدم ومن معه على عبادة اللّه وطاعته، وكفر قابيل ومن معه، فصاروا قسمين مؤمنين وكافرين، وهذا التفسير أولى من القول بأن الناس كانوا أمة واحد متفقين على الكفر والمكر من زمن نوح عليه السلام، مستدلا بقوله تعالى: {كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الآية 13 من سورة البقرة في ج3، لأن هذه الآية تنطبق على قوم نوح عليه السلام إذ بعث فيهم وكلهم كافرون، ولذلك عمهم اللّه بالعذاب ولم يبق على وجه الأرض منهم أحدا إلا نوحا ومن آمن به، كما فصلناه في الآية 58 من الأعراف في ج1، ولهذا البحث صلة في الآية 24 من سورة هود الآتية.
هذا إذا كان المراد بالناس على الإطلاق فيجوز أنهم كانوا كذلك وتفرقوا ببعثته عليه السلام، إذ خالفوا أمره واختلفوا فيما بينهم على إجابة دعوته، هذا إذا كان المراد بالناس العرب خاصة، فيكون المعنى أنهم كانوا على دين الإسلام من عهد إسماعيل عليه السلام، إذ أن أباه إبراهيم عليه السلام سمى أتباعه المسلمين كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الحج في ج3، وبقوا مسلمين إلى أن غيرّه عمرو بن لحى، إذ سن لهم عبادة الأوثان، وهو أول من عبدها، إذ أنهم كانوا على الفطرة السليمة الصحيحة أول الخلق، ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله صلى اللّه عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه والمراد بالفطرة في الحديث فطرة الإسلام لأنه دين الفطرة دين الحق والصدق.
والتفسير الأول أولى، لأن الاختلاف وقع بعد حادثة ابني آدم عليه السلام كما ذكرناه آنفا.
وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إذ يخبره ربه عز وجل بأن لا مطمع لصيرورة الناس كلهم على دين واحد كما يريد لأن اللّه أراد ذلك كما سيأتي في الآيتين 117/ 118 من سورة هود الآتية، قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} وهي جعله لكل أمة أجلا وقضى بسابق أزله تأخير العذاب عن قومك وإمهالهم للإيمان به {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بتعجيل عقوبة المكذبين وعدم إمهالهم، ولكان إنزال العذاب العاجل بهم فصلا بينهم {فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ولأراهم المحق من المبطل وأهل النعيم من أهل الجحيم حالا، ولكن اقتضت حكمته ذلك التأخير ليبلغ كل منهم جهته المتجه إليها بأعماله التي يزاولها وإظهار ما خفي في نفسه إلى الناس، ليعلموا أن اللّه تعالى لا يؤاخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، لأن من مفاد رحمته التي سبقت غضبه تأخير القضاء فيهم ليوم القضاء، قال تعالى حاكيا جنايتهم الأخرى: {وَيَقُولُونَ} لبعضهم كفرة قومك يا سيد الرسل {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} محسوسة مشاهدة كآية موسى عليه السلام اليد والعصا وآية عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص لآمنا به، وبما أنه لم يأت بشيء من ذلك ولا مما اقترحناه عليه مما ذكر في آية الفرقان 6 فما بعدها، وآية الإسراء 90 فما بعدها المارتين في ج1 فلا نؤمن به {فَقُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء العمه القلوب الذين أعمى الطيش أبصارهم وملأ الحمق قلوبهم إنما تطلبونه من الغيب و{إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} وحده اختص به نفسه وليس من خصائص البشر مثلي {فَانْتَظِرُوا} حصول ما تطلبونه من الآيات من اللّه الذي أعطاها للأنبياء قبلي {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} ذلك لأن الأنبياء لم يأتوا بالآيات من أنفسهم، وهذه الآية جواب لهم وتهديد ووعيد بأنهم إذا لم يكتفوا بما أنزل اللّه من القرآن والآيات الأخر كانشقاق القمر والأخبار بالغيبات فإن اللّه تعالى ينزل بهم عذابه فلينتظروه لأن سؤالهم هذا بعد ما أراهم اللّه من الآيات على يد نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم عبارة عن تعنت وعناد، ولو أنصفوا لاكتفوا بالقرآن العظيم الباقي إعجازه على ممر الدهور، لأنه الآية الكبرى والنعمة العظمى، قال تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} من خصب وسعة وصحة وجاه {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ} قحط وفقر ومرض وذلة {مَسَّتْهُمْ} حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، أسند جل شأنه ضمير إذاقة الرحمة إليه وضمير الضراء إليهم ليتعلمّ الناس الأدب بتعاليم اللّه تعالى المبينة في هذا القرآن، فيسندوا كل ما يدل على الخير إليه تعالى وما يدل على الشر إليهم أنفسهم، وليتأدبوا أيضا بعضهم مع بعضهم بمقتضى تفضيل اللّه بعضهم على بعض فيعرفوا قدر ذوي المكانة منهم فيخاطبوهم بما يليق بهم، فهو أحرى بقضاء حوائجهم عندهم واحترامهم لديهم {إِذا لَهُمْ مَكْرٌ} كيد (والمكر صرف الشيء عن وجهه الظاهر لنوع من الحيلة) خفي منطوفي قلوبهم المريبة {فِي آياتِنا} إذ كذبوا بها واستهزأوا بمن أنزلت عليه من الأنبياء الأقدمين كفعل قريش بمحمد رسولهم.

.مطلب الأنواء والحكم الشرعي فيها والإبرة المحدثة:

أخرج في الصحيحين عن زيد ابن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء (أي مطر وسمي سماء لأنه يقطر منها) كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس، فقال هل تدرون ماذا قال ربكم، قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال قال أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته ذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.
والنوء جمع أنواء وهي منازل القمر عند العرب فإذا طلع نجم سقط نظيره فيستدلون من ذلك على وجود مطر أو ريح كالمنجمين، فمنهم من ينسب ما يحدث من المطر والريح إلى تأثير الطالع، ومنهم ينسبه إلى تأثير الغارب، ومعلوم أن العلماء استحدثوا الإبرة التي تتأثر من وجود الريح والمطر وغيره في الجو قبل وصوله إلى المحل الذي فيه الإبرة، فيخبرون بما يرون من تأثيرها من تموجات الجو، وقد أشار إلى هذا القرآن الكريم بقوله جل قوله: {هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} الآية 57 من الأعراف المارة فراجعها تعلم حقيقة قوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} الآية 38 من الأنعام الآتية، روي أن اللّه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة، حتي كادوا يهلكون، ثم رحمهم اللّه تعالى بالحيا أي المطر، قال الأبوصيري:
إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم

فلما رحمهم وخصبت أراضيهم وكثر عليهم الخير، طفقوا يطعنون بآيات اللّه ويعادون رسوله ويكذبونه ويقولون لم نمطر بدعائه ولا ببركته، وإنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل اللّه هذه الآية.
لحكم الشرعي: هو أن من يعتقد أن للنجوم والأنواء تأثيرا فعليا بإنزال المطر وغيره من دون اللّه فهو كافر، وما جاء بالحديث الشريف المذكور أعلاء يصرف لهذه الفئة، أما من يعتقد أن التأثير عندها لا بها وينسب الفعل إلى اللّه تعالى فلا يكفر، وكذلك من يعتقد أن التأثير بها على معنى أن اللّه تعالى أودع فيها قوة مؤثرة فمتى شاء أثرت ومتى شاء لم تؤثر، وكذلك من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها لا يكفر، والأولى عدم اعتقاده بذلك أيضا، وأما من يستدل بذلك على حدوث المطر والريح وأنه قد يحصل بإذن اللّه تعالى وقد لا يحصل فلا شيء عليه لأنه لم يجزم بالحصول كما أن الإبرة، إنما تدل عند ترطب الجو على حصول المطر أو حصول أرباح وزوابع لتأثرها بذلك كما ذكرنا آنفا، وأنه قد يقع ما تدل عليه خلال أربع وعشرين ساعة، وقد لا يحصل ما تدل عليه لطوارئ طرأت على تبدل حالة الجو التي كانت عليه أولا، وهذه لا تعارض قوله تعالى في الآية الأخيرة من سورة لقمان الآتية الدالة على أن نزول الغيث خاص بعلمه تعالى، لأنه في الحقيقة لا يعلم وقت نزوله إلا اللّه، كما أن الغيب لا يعلمه غيره، لأن الإبرة المذكورة لا تدل على أنه ينزل ساعة كذا أو دقيقة كذا، لأنها إذا بقي الجو على حالته قد تصدق خلال أربع وعشرين ساعة وإلا فلا، لأنه من علم الغيب وذلك من التوسم الداخل في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} الآية 75 من سورة الحجر الآتية، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} منكم وأعجل عقوبة وأشد أخذا، ثم هددهم بقوله: {إِنَّ رُسُلَنا} الملائكة الموكلين بحفظكم في الأرض من طوارق الجن والشياطين {يَكْتُبُونَ} في صحفهم {ما تَمْكُرُونَ} في هذه الدنيا وتعرض عليكم صحفهم في الآخرة لتجازون بمقتضاها، وهناك يتضح ما كنتم تخفونه من المكر وغيره قابل اللّه تعالى مكرهم بأشد منه، إذ خبأ لهم جزاء كيدهم إلى يوم القيامة وأمهلهم في هذه الدنيا ليزدادوا إنما.
واعلم أن عرض صحف الملائكة على الناس كأفلام السينما الآتي بيانها في الآية 29 من آل عمران في ج3 والآية 49 من سورة الكهف الآتية، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} يا أهل مكة كغيركم {فِي الْبَرِّ} على دوابه وانعامه {وَالْبَحْرِ} على فلكه وسفنه ويهديكم إلى مقاصدكم بالعلامات الأرضية من الأودية والجبال والأنهار والعلامات السماوية من النجوم السيارة والثابتة ويسهل لكم أسباب معايشكم {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ} أي الفلك بأداة الجمع، لأن فلكا يطلق على الواحد والمتعدد وصرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريق الالتفات أحد أبواب البديع قصدا للمبالغة، كأنه يذكرها لهم بغيرهم ليعجّبهم منها ويطلب زيادة الإنكار، لأن الالتفات على الوجه المار ذكره أو بعكسه من أنواع الفصاحة في الكلام {بِهِمْ} بركاب تلك السفن {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} لينة الهبوب لا خفيفة ولا عاصفة، وما قيل إنها ساكنة فيكون المراد بها هذا المعنى لا إنها واقفة، إذ لا يستفاد منها بالسير {وَفَرِحُوا بِها} ركابها لموافقتها لمقصودهم ولوجود النفع التام بها والمسرة العظيمة لاستقامة سيرهم وتيسيره {جاءَتْها} جاءت تلك السفينة السائرة بذلك الهواء اللين أو جاءت تلك الريح الطيبة {رِيحٌ عاصِفٌ} شديد سريع الجريان قاطع للأجسام الصلبة ولم يقل عاصفة لأن عاصفا يستوي فيه المذكر والمؤنث {وَجاءَهُمُ} أي ركاب ذلك الفلك بسبب تلك الريح {الْمَوْجُ} هو ما علا وارتفع من اضطراب المياه وغواربها من شدة حركة ماء البحر واختلاطه بعضه ببعض {مِنْ كُلِّ مَكانٍ} من أطرافهم الأربع ومن تحتهم وفوقهم {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} من الجهات الست، وأشرفوا على الغرق وتيقنوا الهلاك، {دَعَوُا اللَّهَ} وحده لا غير {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إخلاصا حقيقيا لعلمهم يقينا أنه لا ينجيهم من الشدائد والبلايا إلا هو وأن أوثانهم لا تغني عنهم شيئا من ذلك قائلين {لَئِنْ أَنْجَيْتَنا} يا ربنا {مِنْ هذِهِ} الشدة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أنعامك علينا بخلاصنا موقنين بأنك الإله الواحد، مؤمنين بصدق أنبيائك، متمسكين بطاعتك، ولم يقولوا لنشكرنّك مبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه، لأن اسم الفاعل يدل على الدوام والتجدد، والفعل يدل على الإنشاء فقط، قال تعالى: {فَلَمَّا أَنْجاهُمْ} الذي استغاثوا به جل جلاله من ذلك الضيق الذي أحاط بهم بسبب التجائهم إليه {إِذا هُمْ يَبْغُونَ} يفسدون {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} يعبثون بمن يمشي عليها ويتجاوزون عليهم ويعملون بغير ما أمروا وأخلفوا ما وعدوا اللّه به من الشكر والإيمان، قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} الباغون المتجاوزون على الغير {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} يعود إثمه ووباله، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها} الآية 45 من سورة الجاثية ونظيرتيها الآية 56 من سورة الشورى الآتيتين، واعلموا أنكم تتمتعون يبغيكم هذا {مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا} مدة حياتكم فيها وهي قليلة {ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة الدائمة {فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بأن نخبركم في الآخرة عن أعمالكم في الدنيا ونجازيكم عليها الخير بأخير منه وانشر بمثله.