فصل: مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب الفرق بين آيات التحدي على الإتيان بمثل القرآن:

والفرق بين هذه الآية وآية البقرة عدد 23 في ج3 واضح، لأن المراد هنا بسورة مثل القرآن والمراد بآية البقرة فأتوا بسورة من رجل مثل محمد صلى اللّه عليه وسلم، وما قيل إن من هناك زائدة، قيل لا قيمة له، إذ لا زائد في القرآن، فكل قيل بزيادة حرف أو قصه في القرآن قيل غير سديد، وقائله قد زاد في حده وهو عن الحقيقة بعيد، فهنا تحداهم اللّه تعالى على الإتيان بسورة مثل القرآن بأحكامه وأخباره وبلاغته وفصاحته، وهناك على الإتيان بمثله من رجل أمي لا يعرف القراءة والكتابة معروف عندهم مثل محمد، لأنه أتى به على أميته المحققة عندهم، فكان معجزا بنفسه، كما أن الفرق بين هاتين الآيتين وآية هود الآتية بيّن، لأن تلك تحداهم بها للإتيان بعشر سور منه والإتيان من المخاطبين جميعهم أميهم وقارئهم، لأنه بعد أن تحداهم بكله في هذه الآية وفي آية الإسراء 89 المارة في ج1 وظهر عجزهم تحداهم بأقلّ منه بأن طلب منهم الإتيان بعشر سور منه فقط، ولم يأتوا ولن يأنوا، فظهر من هذا أن كل آية مختصة بشيء لا تشمله الآية الأخرى {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} لتستعينوا به على ذلك من أمثالكم وآلهتكم التي تزعمون أنها تمدكم في المهمات وتلجأون إليها في المهمات {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في قولكم، لأنه يستلزم الإتيان بمثله من أفرادكم ويستلزم قدرتكم عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدّى به على لسان ربه عز وجل مصاقع العرب بسورة ما منه، فلم يأتوا بذلك، وليعلم أن مجموع ما نزل حين هذا التحدي واحد وخمسون سورة، وقد تحداهم على الإتيان بمثلها، فلم يقدروا لأنه أخبرهم قبل في الآية 89 من سورة الإسراء المارة في ج1، بأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو عاون بعضهم بعضا، لهذا بعد أن تحداهم بأجمعه تحداهم بما نزل منه، ولما عجزوا تحداهم بعشر سور منه كما سيأتي في سورة هود في الآية 14 الآتية، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} أي القرآن، لأن الخلق كلهم عاجزون عن الإحاطة بعلومه، فهؤلاء المكذبون أعجز من باب أولى، وقد سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبّروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا، ويعلمون أنه ليس من الممكن أن يأتوا بسورة مثله، والتعبير هنا بلفظ ما عن القرآن دون إن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه، للإيذان بكمال جهلهم، وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به، وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعليته ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما، إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم، لأنه أبلغ {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه إلى الآن وحتى بعد، بدليل النفي المتصل، وقيل ولما يأتهم بيان ما يؤول إليه من الوعيد الذي هددهم به اللّه أو ولم يأتهم تفسير ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب، وعلى هذا كله فالمعنى أن هذا القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهؤلاء الكفرة فاجئوه بالتكذيب قبل أن يتدبروا ألفاظه ويتفكروا في معناه، أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة {كَذلِكَ} مثل تكذيبهم هذا الخالي عن التعقل والتأمل {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أنبياءهم وما جاءوهم به من الكتب السماوية ولم يصدقوهم بما وعدوهم به {فَانْظُرْ} يا حبيبي {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أنفسهم من الأمم السابقة إذ عذبوا بأنواع العذاب بسبب تكذيبهم رسلهم، وإن من كذبك يا خاتم الرسل ستكون عاقبته عاقبتهم.
وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقي من أذى قومه، وتحذير للناس بأن يجتنبوا الظلم لئلا يقعوا في مصيره السيء كما وقع الظالمون قبلهم.

.مطلب الآية المدنية وشرط النسخ:

والآية المدنية من هذه السورة هي قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي إن من قومك يا محمد من يؤمن بهذا القرآن لسابق سعادته {وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} لشقائه الأولي {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} استعدادهم الفطري بقبول هذا القرآن واعراضهم عنه باقترافهم الأعمال الفاسدة التي أضلتهم عن الاهتداء به.
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ} يا سيد الرسل {فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي جزاؤه وهذه الآية من آيات المتاركة على حد قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الآية الأخيرة من الكافرون في ج1، وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} الآية 25 من سورة سبأ الآتية {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ} لا يصل وإليكم من جزائه شيء {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} لا يصل إليّ من جزائه شيء.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية السيف كما زعمه بعض المفسرين لأن مدلولها اختصاص كل بأعماله وثمراتها له من ثواب وعقاب وإن ما فهم من معناها بعض المفسرين كمقاتل والكلبي وابن زيد، الإعراض وترك التعرض بشيء للكافرين الذين أمر حضرة الرسول أخيرا بقتالهم لا يدل على النسخ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا للحكم المنسوخ وهنا لا رفع أصلا لأن مدلول الآية الاختصاص فقط كما ذكرنا وآية السيف لم ترفع شيئا من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلا وبعيدا عن الصحة، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إذا قرأت عليهم القرآن ويصغون لما تبين لهم ما يأتون وما يذرون، ولكنهم لا يسمعون سماع قبول ولا يعون وعي أهل العقول، فلا تحزن عليهم لأنهم صم عن سماع الحق {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} كلا لا تقدر على ذلك لأن من أصمّه اللّه وختم على قلبه لا يمكن أن يسمع بأذنيه، ولا تقدر على إسماعه وهو أصم، فكيف إذا ضمّ إليه عدم العقل، إذ يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ} فهل تطمع بإسماعهم بعد أن سلب اللّه عقولهم مع أسماعهم، لأن اللّه تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما تتلوه عليهم، إذ أن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت على ما يريده مخاطبه، فإذا اجتمع فقدان العقل مع عدم السمع فقد أيس من إسماعه وإفهامه.
وأعيد الضمير في هذه الآية إلى من باعتبار معناها، إذ يكون للمفرد والجمع فأعاده في الآية الأولى للمفرد باعتبار لفظها، وفي الثانية للجمع باعتبار معناها، وفي الثالثة وهي {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} باعتبار لفظها أيضا، أي يتطلع إليك ببصره ظاهرا ليعاين أدلة صدقك، واعلام نبوتك، ولكنه لا يصدقك إذ أنتم إلى عمى بصره عمه قلبه {أَفَأَنْتَ} بعد هذا تقدر {تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ} كلا لا تقدر على هداية عمي البصر عمه البصيرة، ولا يمكنك ذلك لئن الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد بحس ويتفطن بالحدس لما لا يدركه البصير، وأما الأعمى الأحمق فلا يؤمل منه ذلك، لأنه جهد البلاء والعمدة على البصيرة، فمن فقدها فقد أيس من اعتباره وإبصاره، لأن من لا عقل له ولا بصيرة فهو جماد، ولا ينتفع انتفاعا كاملا بالحواس الظاهرة، إلا إذا ضم إليها الحواسّ الباطنة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} فلا ينقصهم مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق، إذ أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ومتعهم بالعقل والسمع والبصر تفضلا منه عليهم {وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بعدم استعمال ما منحهم اللّه به من الجوارح لما خلقت لها، وعده انصياعهم للأمر بالخير وتدبرهم فوائده، وركونهم إلى الشر وعدم نظرهم إلى عاقبته، وإقبالهم على المناهي رغبة فيها، وإدبارهم عن الرشد.
ورغبتهم عن طرقه، وصدودهم عن الهدى، وعدم مبالاتهم بما يؤول إليه، لهذا فإن تقدير الشقاء عليهم لم يكن ظلما من اللّه، وحاشاه وهو القائل: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الآية 11 من سورة الحج في ج3، وإنما نسب فعل الظلم إليهم لأنه كسبهم اقترفوه برغبة منهم إليه واختيار له، ولو أوقعوا شيئا من الظلم كرها لما عوقبوا عليه.
وأعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى اللّه تعالى بوجه من الوجوه، ولو عذب بغير ذنب على سبيل الفرض، لأن الظلم التصرف بحق الغير دون وجه شرعي، والخلق كلهم ملك اللّه، والمالك يتصرف بملكه كيفما شاء وأراد، والتصرف بالملك ولو على غير وجهه لا يعد ظلما، إذ لا حق للغير فيه، وهو لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} واذكر يا محمد لقومك يوم يجمعهم ليوم الحساب، وإذ ذاك يرون أنفسهم {كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا} في دنياهم هذه التي يرونها طويلة الأمد {إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ} وقيل إن هذا اللبث في قبورهم، والأول أولى بالمقام، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار اللبث في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمل المعنى على الكافر، لأن المؤمن انتفع في مكثه بالدنيا بما عمل من طاعة اللّه ورسوله بخلاف الكافر، فإنه لم ينتفع بعمره فيها، لأنه أنفذه بالمعاصي، لذلك استغل مدة لبثه في الدنيا، لأنه كان في شهوات ولذات قانية، فصارت كالعدم {يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ} إذا خرجوا من قبورهم كتعارفهم بالدّنيا، ثم يشتد عليهم هول الموقف فتنقطع المعرفة، ويعرض الحبيب عن حبيبه، والزوج عن زوجته، والابن عن أبيه، والأخ عن أخيه، والأم عن ولدها، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآيات 35 فما بعدها من سورة عبس في ج1، وقال تعالى: {وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} الآية 11 من سورة المعارج الآتية، وقال تعالى: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} الآية 103 من سورة المؤمنين الآتية لهذا يصير التقاطع بينهم، فلا ينظر أحدهم للآخر، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن صاحبه، وحينئذ يظهر مغزى قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ} إذ شاهدوه حقا وكانوا يجحدونه بالدنيا {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} في بيع آخرتهم الباقية بدنياهم الفانية وضلوا طريق النجلة، فحصلت لهم خسارة عظيمة لا تتلافى، قال تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من العذاب في الدنيا قبل موتك يا محمد {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن نريك عذابا فيهم إذ نرجئه للآخرة {فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ} فيها، وهناك ترى ما أوعدناهم به من الوبال الدائم {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ} من المعاصي والقبائح لا حاجة إلى شهود عليها، لأنها كلها مدونة عنده لم يخف عليه شيء منها، فكل جارحة تشهد بما فعلت وتبين زمانه ومكانه وصفته، وإذ ذاك يذوقون العذاب الأليم.
وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن بلفظها ومعناها كالآية 94 من المؤمنين الآتية وغيرها، وفيها وعيد وتهديد للكفار وأهل المعاصي، وبشارة لحضرة الرسول بأن اللّه تعالى سيريه العذاب الذي أوعدهم بإنزاله والذل والخزي في الدنيا والآخرة وقد أراه بعض ذلك يوم بدر، وفي فتح مكة وغيرها من أيام انتصاره عليهم، وسيريه أيضا ما خبئ لهم في الآخرة من العذاب الذي لا ينقضي {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} فرقة وطائفة وقوم ورهط وعشيرة وفخذ وبيت {رَسُولٌ} يرسله اللّه تعالى لإصلاحها فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم ويبشرهم، فيؤمن به من شاء اللّه إيمانه ويكفر به من شاء خذلانه، مثلك مع أمتك، وكما يكون حالك يا أكرم الرسل مع أمتك كان حالهم مع أممهم في الدنيا والآخرة، فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أمره به ربه فصدقه أناس وكفر به آخرون كما هي الحالة معك وأمتك، حتى إذا انتهى الأجل المضروب لهم {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} العدل فينجي اللّه رسوله والذين آمنوا به، ويهلك من كذبه وجحد ما جاءه به، وهذا عدل منه تعالى لأنه لا يهلك قوما إلا بعد أن يتقدم إليهم بالمعذرة وإقامة الحجة على لسان رسوله، وهذا القضاء قد يكون بالدنيا عذاب استئصال كقوم عاد ونوح، وقد يكون على البعض وقد يؤخر اللّه عذاب آخرين إلى الآخرة فيوقعه فيهم دفعة واحدة، وهؤلاء الذين ينالون العذاب في الدنيا سينالهم العذاب الأكبر يوم القيامة أيضا إذا شاء تعذيبهم، وفي ذلك اليوم يجمع اللّه الأمم كلها للحساب ويجاء برسول كل أمة ليشهد عليها بما كان منها، فيفصل بنجاة المؤمنين وإكرامهم عنه وفضله، وبتعذيب الكافرين وإهانتهم بعدله {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} شيئا من جزاء أعمالهم فينال المؤمن ثواب أعماله الطيبة وما صبر عليه من مضض العيش في دنياء ويجازى الكافر عقاب أعماله السيئة وما بطر ومرح في دنياه، فيربح المؤمن ويخسر الكافر، راجع الآية 11 من سورة الحج في ج3، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ} لك يا حبيبي على طريق السخرية والاستهزاء {مَتى هذَا الْوَعْدُ} الذي توعدنا به من نزول العذاب إذا لم نؤمن بك وبربك وتهددنا به أنت وأصحابك أنزلوه بنا {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في ذلك، وهذه الآية لا توجد في ترتيب القرآن من أوله إلى هنا ومن هذه السورة إلى سورة الأنبياء وبعدها تكرر كثيرا عند كل مناسبة، أما في ترتيب النزول فقد مر مثلها في سورة يس وغيرها {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء المستعجلين ما بسوءهم المستبعدين ما تهددهم به من الشقاء {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي لا أقدر على شيء لنفسي فكيف أقدر أن أنفعكم أو أوقع بكم ما هددتكم به، لأن الأمر فيه للّه، وقدم في هذه الآية الضر على النفع وفي الآية 188 من الأعراف المارة في ج1 النفع على الضر لأن المقام يستدعي ذلك هنا وهناك، أي ليس لي شيء من الأمر كله {إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} أن يملكنيه بتقديره إياي على فعله، لأن إنزال العذاب بالأعداء والنصرة للأولياء لا يكونان إلا بتقدير اللّه تعالى وقضائه لا قدرة للبشر على شيء من ذلك.
وإن علم الساعة التي يكون فيها ذلك العذاب الموعود به من خصائصه أيضا لا علم لأحد بوقت قيامها، لأنه لم يطلع أحدا من خلقه على غيبه ولكن {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} معين عند اللّه، شرا كان أو خيرا فـ {إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} المحتم لنجاتهم أو عذابهم، واستوفوا ما قدره لهم من البقاء في هذه الدنيا كاملا نزل بهم، وإذ ذاك {فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً} عنه ولا لحظة {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} عنه، وليس المراد هنا بالساعة الساعة الزمانية، راجع الآية 33 من سورة الأعراف المارة في ج1 {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الباحثين عن حتفهم نطلقهم {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ} هذا الذي أوعدكم به {بَياتًا} ليلا وأنتم غافلون في فرشكم {أَوْ نَهارًا} بأن باغتكم به على حين غرّة وأنتم قائمون بأعمالكم وقد عمكم به {ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ} وأي شيء يريد به {الْمُجْرِمُونَ} إذا وقعوا فيه، وما الذي يستعجلون من أنواعه فكله مكروه لا يرغب بنوع من أنواعه فكيف تردون حلوله بكم وهو مر المذاق شديد الخناق {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ} فيكم ذلك العذاب ورأيتم ألمه وشدته {آمَنْتُمْ بِهِ} وصدقتم بنزوله من قبل اللّه وأردتم الإيمان باللّه فلا يقبل منكم، لأن وقت نزوله وقت بأس لا تقبل فيه التوبة والرجوع إلى اللّه، وسيقال لكم {آلْآنَ} تؤمنون وقد فاتكم وقت الإيمان {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} لأنكم لا تصدقون أن هناك عذابا وتسخرون بالرسل حينما يخوفونكم به {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أنفسهم بتكذيب الرسل وإنكارهم الإله من قبل ملائكة العذاب {ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ} الدائم فهو جزاء جحودكم في الدنيا {هَلْ تُجْزَوْنَ} في الآخرة التي كنتم تنكرونها في الدنيا {إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} من الأعمال القبيحة جزاء وفاقا {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يستوخون منك ويطلبون يا سيد الرسل الاستخبار {أَحَقٌّ هُوَ} قولك إن هناك قيامة أخرى وعذابا على ما نفعل {قُلْ} لهم {إِي وَرَبِّي إِنَّهُ} الذي تستخبرون عنه {لَحَقٌّ} لا مرية فيه البتة {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} اللّه عند إرادته تعذيبكم في ذلك اليوم فلا يفوت شقيا جزاؤه ولا مهرب لأحد، فالعذاب لاحق بكم لا محالة وهناك تتمنى كل نفس قدر عليها العذاب ما قاله تعالى قوله: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركت باللّه وكفرت به في الدنيا {ما فِي الْأَرْضِ} من شيء وطلب منها الفداء مما حلّ بها من عذاب اللّه في الآخرة {لَافْتَدَتْ بِهِ} نفسها لتنجو منه إلا أنه لا ينفع الفداء ولا يقبل البدل {وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ} أضمروا اليأس والحرمان لما علموا ذلك وكتموا تأثرهم وأسفهم على ما وقع منهم في الدنيا من الكفر والإنكار والتكذيب {لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} عيانا {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أولئك الظالمون {بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فيما قضي عليهم من العذاب لأنه بما كسبت أيديهم، وإن اللّه لا يشدد في عذاب الظالم ولا يخفف من عذاب المظلوم لقاء ظلمه، بل ينال كل جزاء على ما عمل.